استمع إلى المقال

في أيلول/سبتمبر 2021، أصبحت السلفادور أول دولة تعتبر عملة “البيتكوين” المشفرة عملة وطنية رسمية، إلى جانب الدولار الأميركي، الذي اعتمدته الدولة الواقعة في أمريكا الوسطى في عام 2001 ليحل محل عملتها الخاصة، الكولون. حينها، روّج الرئيس نجيب بوكيلي (قطان)، للمبادرة باعتبارها مبادرة من شأنها أن توفر فوائد اقتصادية متعددة.

إن تقديم ’البيتكوين’ كعملة وطنية من شأنه أن يجذب الاستثمار الأجنبي ويخلق فرص العمل، ويساعد على دفع البشرية على الأقل قليلا في الاتجاه الصحيح.

نجيب بوكيلي

طموحاته امتدت إلى بناء “مدينة بيتكوين” بأكملها؛ ملاذ معفي من الضرائب يتم تمويله من خلال إصدار سندات حكومية بقيمة مليار دولار أميركي، وكانت الخطة تقضي بإنفاق نصف إيرادات السندات على البنية التحتية و تعدين “البيتكوين” المدعوم بالطاقة الحرارية الأرضية من بركان “كونتشاغوا”، والنصف الآخر على شراء “البيتكوين”، مع استخدام الأرباح المفترضة بعد ذلك لسداد مدفوعات حاملي السندات.

الآن، بعد مرور عام وأربعة أشهر، هناك أكثر من دليل كافٍ لاستنتاج أن بوكيلي – الذي أطلق على نفسه أيضا لقب “أروع ديكتاتور في العالم” ردا على انتقادات طالت سلطته – لم يكن لديه أي فكرة عما كان يفعله، وأثبتت هذه التجربة المالية الجريئة أنها فاشلة تقريبا، على كافة الأصعدة.

حتى في أعقاب انهيار منصة “FTX” الذي زعزع عالم العملات المشفرة بأكمله وأعاد نظرة العالم له، ظل بوكيلي ثابتا على موقفه، ففي 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، كتب على تويتر أن حكومته ستشتري عملة “بيتكوين” واحدة يوميا، علما أنها لم تشترِ أي عملة “بيتكوين” خلال ستة أشهر تقريبا، كما أنه تجاهل أي انتقاد لقراره شراء العملة باستخدام المال العام.

قد يهمك: انهيار “FTX”: هل تحكم مركزية التنافس الرأسمالي التقليدي عالم التشفير اللامركزي؟

مشكلة “البتكوين” كعملة وطنية

تقديم “البيتكوين” كعملة مشروعة الاستخدام كان يعني أكثر بكثير من السماح باستخدام العملة المشفرة في المعاملات. إذ كان ذلك ممكنا بالفعل، كما هو الحال في عدد من البلدان حول العالم، ولو كان ذلك على نطاق ضيق، حيث إذا أراد أحد السلفادوريين الدفع مقابل شيء ما في عملة “البيتكوين”، وكان المستلم على استعداد لقبوله، فيمكنه ذلك.

لكن بوكيلي أراد المزيد. جعل عمل “البيتكوين” العملة الوطنية يعني أن على المستفيد قبولها، سواء رغب بذلك أم لا، كما نص قانون عام 2021، “يجب على كل وكيل اقتصادي قبول عملة ’البيتكوين’ كدفعة عند عرضها عليه من قبل أي شخص يحصل على سلعة أو خدمة”.

لتشجيع تبني “البتكوين”، أنشأت الحكومة تطبيقا يسمى “Chivo Wallet” – كلمة “chivo” هي المرادف المحلي لكلمة “cool” الإنجليزية – لتداول عملة “البيتكوين” مقابل الدولار دون رسوم المعاملات. كما تم منح مبلغ 30 دولارا أميركيا كمكافأة عند تحميله في البداية، مع الإشارة إلى أن متوسط الدخل الأسبوعي يبلغ حوالي 360 دولارا أميركيا. ومع ذلك، على الرغم من القانون وهذه الحوافز، لم يتم تبني “البيتكوين”.

الاستقبال البارد

مسح شامل على المستوى الوطني شمل 1800 أسرة سلفادورية أُجري في شباط/فبراير، أشار إلى أن 20 بالمئة فقط من السكان يستخدمون تطبيق “Chivo Wallet” لمعاملات “البتكوين”، علما أنه تم تنزيل التطبيق بأكثر من ضعف هذا الرقم، ولكن فقط للحصول على مبلغ الـ 30 دولار أميركي.

من بين المستجيبين الذين حددوا أنهم أصحاب أعمال، قال 20 بالمئة منهم فقط إنهم يقبلون عملة “البيتكوين” كوسيلة للدفع، وكانت هذه شركات كبيرة، من بين أكبر 10 بالمئة من الشركات من حيث الحجم في البلاد.

دراسة استقصائية أخرى لغرفة التجارة في السلفادور أجريت في آذار/مارس، وجدت أن 14 بالمئة فقط من الشركات تستخدم “البيتكوين” في معاملاتها، كما وجد استطلاع آخر أجرته “جامعة أميركا الوسطى” في السلفادور أن 71.1 بالمئة من المشاركين قالوا إن “البيتكوين” لم تفعل شيئا لتحسين أوضاعهم المالية.

لكن لحسن الحظ بالنسبة للسلفادوريين، لم يتم تنفيذ شيء من مخطط “سندات البيتكوين” التي تبلغ قيمتها مليار دولار أميركي، لكن هذا لم يلغِ حقيقة أن حكومة “بوكيلي” أنفقت أكثر من 100 مليون دولار أميركي على شراء عملات “البيتكوين”، والتي تبلغ قيمتها الآن أقل من 50 مليون دولار أميركي.

عندما أعلن بوكيلي عن خططه في تموز/يوليو 2021، كانت قيمة “البيتكوين” حوالي 35 ألف دولار أميركي، لكن بحلول الوقت الذي دخل فيه التشريع حيّز التنفيذ، في 7 أيلول/سبتمبر 2021، كان سعرها حوالي 45 ألف دولار أميركي، وبعد شهرين، بلغت ذروتها عند 64400 دولار أميركي. أما الآن، فيتم تداولها بحوالي 18400 دولار أميركي.

بوكيلي ادّعى، أن خسارة حوالي 65 مليون دولار أميركي من أصل الـ 105 ملايين دولار أميركي، الناتجة عن هذا الانخفاض ليست خسائر في الحقيقة، لأنه لم يبع أيّا من العملات – انطلاقا من المعتقد السائد بأن عملة “البيتكوين” الواحدة ستبقى تساوي عملة “بيتكوين” واحدة مهما انخفض سعرها – كما ادعى أن الانخفاض ليس بالأمر الكبير، لأنه يمثل 0.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويعتقد أن عملة البيتكوين تعزز السياحة.

بوكيلي نشر تغريدات تهنئة ذاتية حول “الشراء في فترة الانخفاض”، ولكن تقريبا جميع عملات “البيتكوين” التي اشترتها الحكومة كانت تزيد عن 30 ألف دولار أميركي بمتوسط سعر يزيد عن 40 ألف دولار أميركي. وقبل عام، كان بوكيلي يحث مواطنيه على الاحتفاظ بأموالهم في عملة “البيتكوين”، ولمن فعل ذلك، كانت الخسائر مدمرة.

تحليلات فاشلة

لقد تم إثبات سوء فهم بوكيلي لـ “البيتكوين” – والاقتصاد بشكل عام – بشكل متكرر. ففي حزيران/يونيو 2021، غرد، “تبلغ القيمة السوقية لعملة البيتكوين 680 مليار دولار أميركي. إذا تم استثمار 1 بالمئة منها في السلفادور، فسيؤدي ذلك إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 25 بالمئة”.

هذا يشير إلى أنه يبدو أنه كان يعتقد أن “البيتكوين” كانت نوعا من صناديق الاستثمار. كما أظهر أنه لا يفهم تماما ما هو الناتج المحلي الإجمالي؛ فالاستثمار الأجنبي ليس أحد مكونات الناتج المحلي الإجمالي، كما لم تكن هناك زيادة في الاستثمار الأجنبي، ولا الناتج المحلي الإجمالي.

في تغريدة في كانون الثاني/يناير 2022 قال إن “الزيادة الهائلة في الأسعار هي مجرد مسألة وقت” لأنه لن يكون هناك سوى 21 مليون “بيتكوين”، بينما يوجد 50 مليون مليونير في العالم. “تخيل عندما يقرر كل واحد منهم أنه يجب أن يمتلك على الأقل بيتكوين واحد”. انخفضت قيمة “البيتكوين” إلى أقل من النصف منذ ذلك الحين.

خطة “البيتكوين” هذه أثرت سلبا على التصنيف الائتماني للسلفادور وعلاقاتها مع صندوق النقد الدولي، ومع تزايد قلق المستثمرين من إقراض البلاد، اضطر المقترضون المحليون إلى تقديم أسعار فائدة أعلى.

في كانون الثاني/يناير 2022، حث “صندوق النقد الدولي” السلفادور على عكس الوضع القانوني لإقراض عملة “البيتكوين” بسبب “المخاطر الكبيرة على النزاهة المالية والسوق والاستقرار المالي وحماية المستهلك. إذ تشتهر “البتكوين” باستخدامها في عمليات الاحتيال والأنشطة غير القانونية الأخرى، فضلا عن تقلبها.

بوكيلي غرد ردا يرفض ذلك من خلال “ميم”.

    ذلك بدا متهورا بعض الشيء، نظرا لأن السلفادور كانت تسعى للحصول على قرض بأكثر من مليار دولار من “صندوق النقد الدولي”. وعلى خلفية ذلك، خفضت وكالات التصنيف الائتماني الدولية “فيتش” التصنيف الائتماني للسلفادور نهاية عام 2022، مشيرة إلى مخاوف بشأن سياسات “البيتكوين” الخاصة بها.

    قد يهمك: كيف ازدهرت جرائم العملات الرقمية في 2022؟

    قدوة غير حسنة

    بعد خطوة السلفادور، التي وصفها بعض متحمسوا العملات المشفرة بالملهمة، أصبحت منطقة المحيط الهادئ موقع اختبار للعديد من مشاريع التشفير الاحتيالية، حيث يبحث مطورو تلك المشاريع عن السكان الذين يعانون من أزمات الديون والكوارث الأخرى.

    في أيار/مايو 2022، أصبحت جمهورية إفريقيا الوسطى ثاني دولة تتبنى عملة “البيتكوين” كعملة وطنية. إفريقيا الوسطى هي ثاني أفقر دولة في العالم، وليست مستعدة بأي حال من الأحوال لتبني مدفوعات العملات المشفرة على نطاق وطني واسع.

    رغم ذلك، مثل السلفادور، تخطط إفريقيا الوسطى لإقامة منطقة تجارة حرة صديقة للعملات المشفرة مدعومة بـ “البيتكوين”، وعملة مشفرة جديدة أصدرتها الحكومة تسمى “سانجو”. وعلى الرغم من الحكم بعدم دستورية ذلك من قبل أعلى محكمة في البلاد، يتم إغراء المضاربين الأجانب بالتراخيص التجارية وحقوق الأرض والوصول الخاص إلى الموارد الطبيعية للبلاد.

    العملات المشفرة كانت مفيدة لرئيس الدولة الموالي لروسيا لتلقي الأموال، كما يتم دعم عملة “سانجو” من قبل أكبر بورصة تشفير في العالم، “باينانس”، والتي تروج لمخططات مماثلة في جميع أنحاء المنطقة، ففي نيجيريا، تجري “باينانس” محادثات لبناء “منطقة اقتصادية رقمية” للشركات الناشئة في مجال تقنية “البلوك تشين”.

    قد يهمك: بعيدًا عن العملات الرقمية: 8 استخدامات لـ “البلوك تشين” تجعلها حجر أساسٍ في تقنيات المستقبل

    في مكان آخر، شرعت مؤسسة “موتيف” الخيرية الأميركية في بناء منطقة “بيتكوين إلدورادو” في مرتفعات الأنديز النائية في بيرو، في محاكاة للجهود في مشروع “شاطئ البيتكوين” في السلفادور، وهي منطقة معفاة من الضرائب حيث يمكن للناس دفع ثمن أي شيء من البقالة إلى فواتير الكهرباء بعملة “البيتكوين”، وتأمل “موتيف” في إنشاء اقتصادات دائرية، وبيع العملات المشفرة للفقراء كوسيلة للخروج من الفقر.

    مع استمرار انخفاض سعر “البيتكوين”، من المغري الاعتقاد بأن الفقراء قد يستخدمون العملات المشفرة كوسيلة للخروج من فخ الفقر، ولكن في الواقع، فإن عملة “البيتكوين” – مدفوعة بمستثمريها وروادها – هي من تنجذب إلى السكان الذين تركهم الاقتصاد العالمي السائد وراءهم، وليس العكس. ومع تعثر العملات المشفرة في الأسواق التقليدية، فإن العثور على مضاربين جدد أمر ضروري للحفاظ على ثروة مستمثمريها في أماكن أخرى.

    هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
    انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.