ما تأثير العقوبات الغربية على الصين وتايوان بمجال تصنيع الرقائق؟

ما تأثير العقوبات الغربية على الصين وتايوان بمجال تصنيع الرقائق؟
استمع إلى المقال

التحكم في تصنيع الرقائق الإلكترونية في القرن الـ 21، يُعد بمثابة التحكم في إمدادات النفط خلال القرن الماضي، فالدولة التي تسيطر على هذا القطاع قادرة على خنق القوة العسكرية والاقتصادية للدول الأخرى.

أشباه الموصلات، كانت وستظل، محرك اقتصاد القرن الحادي والعشرين، ومركز صراع كبير بين القوى الدولية، في غياب الرقائق الإلكترونية التي تزداد دقّتها مع الوقت، لن يكون من الممكن تخيّل أي شكل من أشكال الأتمتة، وستصبح الهواتف الذكية غبية، ولن تتحرك السيارات الكهربائية والهجينة، ولن تعمل شبكات الاتصالات، وكل ما يتم ذكره عن الذكاء الصنعي من تطور ودخوله لقطاعات متعددة، سيبقى ضمن روايات الخيال العملي فقط، وعلى هذا فإن التحكم في التصميم والتصنيع وسلاسل التوريد لهذه الرقائق الإلكترونية يُعد في غاية الأهمية، فنستطيع القول أن حرب الرقائق الإلكترونية هي حرب للسيطرة على المستقبل.

حرب الرقائق

خلال العام الماضي، اعتُبرت تايوان مركزا عالميا رئيسيا لصناعة الرقائق الإلكترونية، حيث تسيطر شركة “TSMC” التايوانية لصناعة أشباه الموصلات المحدودة، فالشركة التايوانية تُعد الأكبر في صناعة الرقائق الإلكترونية على النطاق العالمي، وتستحوذ على حوالي 53.6 بالمئة من السوق خلال الربع الأول من عام 2022، وتورّد منتجاتها إلى العديد من الشركات الكبرى في صناعة السيارات، والأجهزة الإلكترونية والهواتف، وبلغت أرباح الشركة خلال عام 2021 نحو 11.4 مليار دولار.

يأتي ذلك، في ظل ازدهار أسواق أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية في ظل التوجهات العالمية نحو تبني التكنولوجيا الرقمية، ونمو الذكاء الصنعي، وشهدت الرقائق الإلكترونية نموا في حجم المبيعات بما يزيد على 20 بالمئة لتصل إلى حوالي 600 مليار دولار في عام 2021، وفقا لتقديرات شركة الاستشارات الإدارية الأميركية “ماكينزي”.

قد يهمك: آثار العقوبات الغربية على بكين.. الضرر الاقتصادي يتفاقم؟

الأزمة تتفاقم

مع زيارة رئيسة “مجلس النواب” الأميركي نانسي بيلوسي الأخيرة لجزيرة تايوان، قامت الصين بالرد عبر فرض مجموعة من العقوبات على تايوان، وفرض الجيش الصيني تدريبات حول الجزيرة بحرا وجوا، والتي تُعد الأكبر إطلاقا، وهذا ما أجبرت الملاحة الجوية والبحرية على تجنب هذه المنطقة، الأمر الذي مثل حصارا خانقا لتايوان التي تزعم بكين أنها جزء من الصين.

بحسب مجلة “politico” أن العقوبات الصينية على تايوان، ذكرت الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والشركات الغربية الأخرى، بحجم اعتمادهم على تايوان، خصوصا في استيراد الرقائق، وبدى القلق واضحا من إجراء صيني أكثر صرامة، كفرض حصار كامل على تايوان أو غزوها عسكريا.

في العام الماضي، شكلت الأجهزة نحو 60 بالمئة من واردات الاتحاد الأوروبي وحدها من تايوان، ويكمن القلق الأكبر لدى الشركات الأوروبية، بحسب “politico”، من الانقطاع المفاجئ لإمدادات الرقائق التي تنتجها شركة “TSMC” التايوانية لتصنيع أشباه الموصلات، التي تستحوذ على أكثر من نصف سوق الرقائق القادمة من الخارج إلى أوروبا، ناهيك عن اعتماد الشركات الأميركية أمثال “أبل” الأميركية، و “كوالكوم” المصنّعة لمعالجات الهواتف الذكية.

تبادل العقوبات وتأثيرها

إثر فرض الولايات المتحدة لمجموعة عقوبات جديدة في تشرين الأول/أكتوبر 2022، الهادفة إلى إبطاء التقدم التكنولوجي لبكين، وضمن سلسلة من العقوبات على واردات الصين من معدات تصنيع أشباه الموصلات، تراجعت الواردات على نحو ظاهر جدا.

فبحسب صحيفة “وول ستريت“، فقد اشترى العملاء الصينيون ما قيمته 2.3 مليار دولار من معدات تصنيع الرقائق في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، بانخفاض 40 بالمئة عن العام السابق.

بيانات الجمارك أظهرت أن واردات أشباه الموصلات لشهر تشرين الثاني/نوفمبر، سجلت أدنى مستوى منذ أيار/مايو 2020، وانخفضت بشكل حاد عن الذروة الأخيرة البالغة 4 مليارات دولار في حزيران/يونيو 2021.

قبل ضوابط التصدير الأميركية، كانت بكين تقود العالم في بناء مصانع الرقائق الجديدة هذا العام، مما يجعلها أكبر سوق تصدير لشركات تصنيع الرقائق الأميركية، وأدى عدم قدرة الصين المفاجئة على شراء هذه المنتجات إلى تفاقم الركود المتزايد في أعمال الرقائق العالمية، حيث شعر صانعو أشباه الموصلات في جميع أنحاء العالم بالضيق الناجم عن ضعف مبيعات الرقائق وفائض الصناعة.

لم تحظر الإجراءات الأميركية تصدير مجموعة من الرقائق والأدوات اللازمة لصنعها فحسب، بل حظرت أيضا على الدول الأخرى بيع هذه السلع إذا استخدمت أي تقنية أميركية لإنتاجها.

بيانات الواردات أظهرت أن معدات تصنيع الرقائق من الولايات المتحدة تراجعت إلى 349 مليون دولار في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أي ما يقرب من نصف المبلغ الذي اشترته الصين من الولايات المتحدة قبل عام، يمثل الرقم أيضا انخفاضًا بنسبة 30 بالمئة تقريبا عن أيلول/سبتمبر.

كما انخفضت شحنات معدات تصنيع الرقائق من اليابان، وهي أحد أكبر موردي هذه الآلات إلى الصين، بنسبة 40 بالمئة لتصل إلى 687 مليون دولار في تشرين الثاني/نوفمبر، وتراجعت واردات كوريا الجنوبية بنسبة 50 بالمئة من أيلول/سبتمبر إلى 227 مليون دولار في تشرين الثاني/نوفمبر.

هذه الأرقام تظهر مدى الانخفاض في الواردات الصينية من معدات صنع الرقائق من هذه البلدان، وأن تحرك واشنطن كان له تأثير فوري وكبير.

قد يهمك: آثار التوسع الصيني التكنولوجي على الخليج العربي.. التحديات والتشوهات

واردات تايوان إلى أين؟

وفقا لـ “Bloomberg” قفزت صادرات الرقائق التايوانية 18.4 بالمئة العام الماضي حيث سحقت العقوبات الأميركية واردات الصين، وأعلنت وزارة المالية التايوانية أن صادراتها من رقائق “IC” ارتفعت بنسبة 18.4 بالمئة عن العام السابق، وهذا الارتفاع في تزايد منذ عام 2016.

تحركات الولايات المتحدة لتقليل اعتمادها على صادرات الرقائق التايوانية أصبحت ذات أهمية متزايدة في الآونة الأخيرة، على الأخص بعد تهديدات بكين لتايوان، حيث حذرت وزيرة التجارة جينا ريموندو من أن الولايات المتحدة ستواجه ركودا عميقا وفوريا، في حال تم عزل تايوان. كان تمرير قانون الرقائق خطوة مهمة نحو مزيد من الاكتفاء الذاتي.

بعض المحللين يتوقعون انخفاضات متواضعة في الإيرادات لصادرات تايوان من أشباه الموصلات في النصف الأول من عام 2023، نتيجة تراجع طلب المستهلكين أمثال “Nvidia” و “AMD”.

أميركا والاكتفاء الذاتي

الرئيس الأميركي جو بايدن أَقـرّ في آب/أغسطس قانون الرقائق والعلوم، الذي يتضمن إعانات دعم وغير ذلك من التدابير لتعزيز صناعة أشباه الموصلات المحلية في أميركا، ويستثمر القانون 280 مليار دولار لتعزيز قدرة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، وتحفيز البحث والتطوير، وإنشاء مراكز إقليمية عالية التقنية وقوى عاملة أكبر وأكثر شمولا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

كما يسعى القانون أيضا إلى بدء البحث والتطوير وتسويق التقنيات الرائدة، مثل الحوسبة الكمية، والذكاء الصنعي، والطاقة النظيفة، وتكنولوجيا النانو.

المبلغ المقرر إنفاقه على القانون 280 مليار دولار على مدى السنوات العشر القادمة. الغالبية، قد قسّم كما يلي، 200 مليار دولار مخصصة للبحث والتطوير العلمي والتسويق، وحوالي 52.7 مليار دولار لتصنيع أشباه الموصلات، والبحث والتطوير، وتطوير القوى العاملة، مع 24 مليار دولار أخرى من الإعفاءات الضريبية لإنتاج الرقائق، بالإضافة إلى 3 مليارات دولار مخصصة للبرامج التي تهدف إلى التكنولوجيا الرائدة وسلاسل التوريد اللاسلكية.

الولايات المتحدة تصنع حاليا 12 بالمئة من أشباه الموصلات في العالم، مقارنة بـ 37 بالمئة في التسعينيات من القرن الماضي، وفقا لإحصاءات حكومة الولايات المتحدة، علاوة على ذلك، تقدر أبحاث شركة الاستشارات الإدارية الأميركية “ماكينزي”، أن الطلب العالمي سيستمر في النمو، حيث تستعد أشباه الموصلات لتصبح صناعة بقيمة 1 تريليون دولار بحلول نهاية العقد.

أوروبا والاكتفاء الذاتي

“المجلس الأوروبي”، إلى جانب “البرلمان الأوروبي”، اعتمدا موقفا مشتركا لاقتراح قانون مشابه لقانون الولايات المتحدة، يهدف إلى تعزيز القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي في تقنيات أشباه الموصلات، وتم تخصيص 43 مليار يورو لبناء صناعة أوروبية جديدة لصناعة الرقائق.

بحسب بيان رسمي صدر عن مجلس “الاتحاد الأوروبي” في 1 كانون الأول/ديسمبر 2022، إن الرقائق ضرورية لمجموعة واسعة من المنتجات التكنولوجية والرقمية مثل السيارات والأجهزة المنزلية والإلكترونيات، وتواجه أوروبا حاليا تحديات في تأمين توريد أشباه الموصلات. يهدف قانون الرقائق المقترح إلى تقليل نقاط ضعف “الاتحاد الأوروبي” واعتماده على الجهات الفاعلة الأجنبية، والتي يمكن أن تؤثر بسهولة على السوق الداخلية؛ بسبب المشكلات الجيوستراتيجية واضطرابات سلسلة التوريد.

القانون الأوروبي الجديد سيركز على الاستثمارات العامة والخاصة، مع ثلاث ركائز مختلفة لإنفاق كل هذه الأموال على، وهي كما يلي، مبادرة الرقائق لأوروبا، لدعم بناء القدرات التكنولوجية والبحوث والابتكار ذات الصلة؛ إطار عمل جديد لضمان أمن العرض والقدرة على الصمود من خلال جذب استثمارات متزايدة؛ آلية لمراقبة سلسلة توريد أشباه الموصلات وتنسيق رد فعل سريع في حالات الأزمات.

وفقا لتقديرات مجلس “الاتحاد الأوروبي”، ستبلغ قيمة صناعة أشباه الموصلات العالمية حوالي 1 تريليون دولار في عام، مع زيادة إنتاج الهواتف الذكية والحوسبة الشخصية والخوادم ومراكز البيانات والسيارات والإلكترونيات الاستهلاكية.

“الاتحاد الأوروبي” يتمتع الآن بحصة سوقية تبلغ 10 بالمئة في صناعة أشباه الموصلات العالمية؛ مع قانون الرقائق، تخطط أوروبا لمضاعفة حصتها على الأقل بحلول عام 2030.

المستقبل الغامض

الجهود المبذولة حتى الآن، من قبل الشركات الغربية، مثل، سعي شركة “TSMC” لصناعة أشباه الموصلات المحدودة بناء مصنع لها في ولاية أريزونا الأميركية بتكلفة تصل لنحو 12 مليار دولار؛ بهدف تنويع طاقتها الإنتاجية من ناحية، بالإضافة لطرح الولايات المتحدة الأميريكية مقترحا لتعزيز الشراكات والتعاون بينها وبين كل من تايوان واليابان وكوريا الجنوبية في مجال الرقائق الإلكترونية، ناهيك عن الدعم والحوافز الضخمة التي قدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تطوير اكتفائهم الذاتي.

كل هذه الجهود والاستثمارات، قد تسفر عن نتائج ملموسة في الأجل المتوسط أو الطويل، ولكنها لن تمكّن الاقتصادات الكبرى من تحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق، على المنظور القريب، خصوصا أن الشركات التايوانية لن تقوم بنقل تقنياتها بتصنيع الرقائق إلى الخارج بصورة كافية، فهي على إدراك تام بأن صناعة الرقائق تُعد عنصر حماية لها في مواجهة التهديدات الصينية، وهو ما يدفع الغرب لحمايتها بالجهود كلهم.

من الممكن التّكهن إن أي اضطراب ستتعرض له صناعة الرقائق الإلكترونية في تايوان، سيكلّف الاقتصاد العالمي بشكل عام، ويشمل ذلك الاقتصاد الصيني بالإضافة إلى اقتصاد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خسائر فادحة تُضاف إلى أعبائه الحالية الناجمة عن الأزمة الأوكرانية، وهو ما يدعو لشبه التأكد على استبعاد احتمالية مغامرة الصين بغزو تايوان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.