استمع إلى المقال

“الميمز” تعد مصدرا للترفيه الخفيف في كل مكان على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي طريقة للناس للتعبير عن أنفسهم من خلال قوالب للنصوص والصور ومقاطع الفيديو تتم إعادة مزجها بذكاء. لكن لها جانب جاد أيضا، وفقا للباحثين الذين يبحثون في أشكال الاتصال الحديثة، فهي لغة في حد ذاتها، ولها القدرة على تجاوز الثقافات وبناء الهويات الجماعية بين الناس، كما يمكن أيضا أن تكون هذه النكات المرئية القابلة للمشاركة أدوات قوية للتعبير عن الذات والتواصل والتأثير الاجتماعي، وحتى التخريب السياسي.

باولو جيربودو، الباحث في السياسة الرقمية ومدير مركز الثقافة الرقمية في جامعة “كينجز كوليدج لندن”، يقول إن “الميمز” “هي واحدة من أوضح مظاهر حقيقة وجود شيء مثل الثقافة الرقمية”.

جيربودو يصفها بأنها “نوع من اللغة المجهزة بأنواع عديدة من الصور النمطية والرموز والمواقف. لوحة يمكن للناس استخدامها، مثل الرموز التعبيرية، لتناقل محتوى معين”، ووفقا لشبكة “إنستاغرام”، تمت مشاركة ما لا يقل عن مليون “ميم” يوميا في عام 2020. 

أصل “الميمز”

بالطبع، كانت “الميمز” موجودة قبل وقت طويل من ظهور وتكاثر ميمز الإنترنت الشائعة مثل ميم “الضفدع كيرميت” أو”الصديق الذي ينظر إلى امرأة أخرى” أو الوجوه الحكيمة العديدة لـ “دوج”.

عالم الأحياء التطوري الشهير ريتشارد دوكينز صاغ مصطلح “ميم” في كتابه الصادر عام 1976 بعنوان “الجين الأناني”، مشبها الأجزاء المنفصلة من الثقافة الإنسانية التي تنتشر بين الناس بالجينات، مختصرا الكلمة اليونانية القديمة “mimeme” إلى “meme”، واقترح أن “الميمز” هي ألحان أو أفكار أو عبارات أو أجزاء من المعلومات التي تقفز من دماغ إلى دماغ من خلال التقليد، مما يسرع من انتقالها.

لقد صاغ المصطلح لإبراز كيف يمكن للثقافة البشرية أن تكرر نفسها. وبهذا المعنى، ربما كانت “الميمز” موجودة منذ أن كان لدى البشر ثقافات مشتركة.

مع وصول الإنترنت، أصبحت “الميمز” ظاهرة ملموسة يمكن ملاحظتها أثناء نموها وانتشارها وتحورها. إذ أظهر باحثو “فيسبوك” في دراسة أجريت في عام 2014 مدى انتشار “الميمز” المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي وتطورها. ففي أحد الأمثلة، وجدوا 121605 نسخة مختلفة لميم واحد معين تم نشره عبر 1.14 مليون منشور.

“الميمز” تستفيد من الوعي الجماعي عبر الإنترنت، ويشار إليها بـ “الفولكلور الرقمي” – أو “Netlore”، ولا تمكننا فقط من أن نرى الطرق الجديدة التي يعبر بها الناس عن أنفسهم في الفضاء العام، ولكن أيضا بعض الموضوعات، وبعض المخاوف أو الرغبات التي لدى الناس. تنعكس كل هذه القضايا المعقدة في أشياء مثل “الميمز”.

قد يهمك: جهود المؤسسات لمجاراة تفضيلات “الجيل زد” التقنية – نموذج من دولة الإمارات

الفكاهة شرطا.. لكن ليس دوما

لكن لكي تتحول الفكرة إلى “ميم”، يجب مشاركتها بكثرة. إذ تشترك معظم “الميمز” الناجحة، من حيث انتشارها على نطاق واسع ومتعدد الثقافات، في بعض السمات الرئيسية.

عادةً ما تكون “الميمز” الأكثر انتشارا وشهرة هي “الميمز” التي تدور حول أشياء حديثة جدا في الذاكرة العامة، لكنها غالبا ما تمثل أيضا شيئا مهمًا لكثير من الناس. لذلك ليس على الفرد بالضرورة أن يكون ملمّاً بثقافة الإنترنت لفهم ما تقوله، والشيء الأخير بالطبع، هو أنه يجب أن تكون مضحكة.

إحدى الدراسات وجدت أن “الميمز” التي تثير استجابة عاطفية أقوى كانت أكثر عرضة للمشاركة والانتشار، كما كان الأشخاص أيضا أكثر عرضة لإعادة توجيه مقاطع الفيديو المضحكة مقارنة بمقاطع الفيديو اللطيفة أو المثيرة للاشمئزاز أو التي تثير الغضب.

لكن “الميمز” لا تضطر دوما لدغدغة المستخدمين لجذب انتباههم، فالفكاهة مهمة في استخدام “الميمز” للتعبير، ويحب الناس بطبيعتهم نشر المحتوى المبهج. ومع ذلك، حتى لو لم يكن الأمر مضحكا، أو إذا كان مزعجا، أو إذا جعلهم يشعرون بالغضب، فسوف يستمرون في تداولها، يمكن اعتبار مشاركة الميمز في المجموعات والصفحات السورية والمصرية حول تردي الأوضاع الاقتصادية، أو عالميا حول الحرب في أوكرانيا أمثلة على ذلك.

“الميمز” ووجهات النظر

“الميمز” يمكن أن يكون لها أيضا تأثير على وجهة نظر الناس. أحد وجهات النظر التي طرحها الباحث جوشوا نيوبورت، الذي يدرس التضليل والمعلومات المضللة في جامعة ميريلاند بالولايات المتحدة وجامعة أوكيناوا في اليابان، هو أنه يمكن اعتبار “الميمز” مكافئا رقميا حديثا للنشرات الدعائية. ويشير إلى الطريقة التي تم بها استخدام “الميمز” لدعم أو تقويض الحجج المؤيدة لقيود “كوفيد-19”  واللقاحات، باستخدام الفكاهة والسخرية لنزع الشرعية عن مواقف الناس من كلا الجانبين، المؤيد والمعارض.

“الميمز” السياسية كذلك هي وسيلة فعالة لإشعال المشاركة السياسية. وفقا لإحدى الدراسات، جمعت 30 مقطع فيديو أو صورة متحركة سياسية تم إنشاؤها من قبل المواطنين أكثر من 45 مليون مشاهدة خلال الانتخابات العامة في المملكة المتحدة لعام 2017.

في شرق أوروبا كذلك، مجموعة من “الميمز” المعروفة باسم “Caća se vrača” (أي: “الأب يعود”)، والتي صورت رئيس الوزراء الكرواتي السابق إينو سانادار على أنه حل المشكلات بعد إطلاق سراحه من السجن، ربما أثرت في التقارير الإعلامية عنه، والتي أصبحت أكثر إيجابية في لهجتها، وفقا لإحدى الدراسات.

دراسة أخرى في أوغندا وجدت أن “الميمز” السياسية كانت شكلا فعالا من أشكال المشاركة السياسية بين جيل الألفية، حتى أنها أشارت إلى أن التعرض الأكبر لـ “الميمز” كان مرتبطا بشكل إيجابي بالمشاركة.

الحكومة الأوكرانية كذلك بدأت بنشر “الميمز” على حسابها الرسمي على “تويتر” في الفترة التي سبقت الحرب مع روسيا كوسيلة لحشد الدعم الشعبي. استخدمت إحدى “الميمز”، التي نُشرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الفكاهة لتقويض إنكار روسيا علنا خطتها لمهاجمة أوكرانيا.

ميم أوكرانيا 

ميم آخر استخدم درجات الصداع للتعبير عن ضغوط كونك جارا لروسيا. على الرغم من بساطتها ومرحها، شجعت هذه “الميمز” آلاف الأشخاص على الانخراط في الحديث حول الواقع المزعج للحرب الوشيكة.

في المنطقة العربية، ربما الصدارة تكون من نصيب مصر عندما يتعلق الأمر بالفكاهة، ففي الفترة الأخيرة، غرقت وسائل التواصل الاجتماعي بـ “الميمز” التي تسخر مما نشره المعهد القومي للتغذية على صفحته حول فوائد “أرجل الدجاج”، ما دفع رئيس قطاع التجارة الداخلية بوزارة التموين للخروج والتحدث عن الأمر في الهواء.

“ميم” متداول على صفحات التواصل الاجتماعي المصرية حول قضية أرجل الدجاج

كما تتشارك الصفحات والمجموعات المصرية والسورية “الميمز” التي تسخر من اختفاء الطبقة الوسطى تدريجيا إثر انهيار أسعار العملات المحلية مقابل الدولار والقيود الحكومية في كلا البلدين على القطاع الخاص التي تتسبب بتضخيم أثر التضخم، حيث استشهد الإعلاميون الإذاعيون في سوريا، في مواقف عدة، بـ “الميمز” المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الصدد عند طرح الأسئلة على المسؤولين الحكوميين.

“ميم” انتشر في المجموعات السورية على وسائل التواصل الاجتماعي حول الهجمات الإسرائيلية المتكررة

“الميمز” للهروب من الرقابة

من المرجح أن يشارك الناس “الميمز” المتوافقة مع آرائهم السياسية، كما يميلون أيضا إلى إيلاء الميمز السياسية مزيدا من الاهتمام من تلك غير السياسية. ولكن بالإضافة إلى ذلك، تقدم الميمز السياسية وسيلة لتحدي الخطابات المهيمنة للحكومات الاستبدادية.

إن استخدام “الميمز” كوسيلة للطعن السياسي، يتلخص في انتشار السخرية والمفارقة، وهو أمر شائع جدا في الميمز، يفضح ضعف العدو، أو خزيه، أو غباءه، ويسخر من التباهي المفرط، والغطرسة المفرطة للأقوياء. لكن يمكن أيضا استخدامها كأدوات لتأجيج الغضب والاستياء السياسي.

النشاط الرقمي المتمثل في صناعة “الميمز” وتبادلها يعد شكلا هاما من أشكال التعبير للأشخاص الذين يعيشون في ظل أنظمة قمعية، حيث يكون النقاش الصريح ضد الدولة أمرا غير مقبول في وسائل الإعلام الرئيسية، كما في العديد من الدول العربية.

المتظاهرون بدأوا يعيدون ثقافة “الميمز” إلى الشوارع في محاولة لاستخدام الفكاهة والصور التي صقلوها على وسائل التواصل الاجتماعي لتدعيم وجهة نظرهم حول الأوضاع على الأرض، إذ وجدت إحدى الدراسات أن الميمز الساخرة المنشورة على صفحات فيسبوك المغربية أدت في الواقع إلى محادثات سياسية جادة حول النظام الملكي الحاكم بقيادة محمد السادس، والتي شجعت في النهاية على المشاركة السياسية.

بالطبع، في الأنظمة السياسية الأكثر استبدادا، هناك دائما فرصة للرقابة بطريقة أو بأخرى على “الميمز” السياسية، مثل ميم “ويني ذا بوه” الذي سخر من الرئيس الصيني شي جين بينغ، والذي يُعتقد أنه كان وراء حظر فيلم ديزني الشهير “ويني ذا بوه” من العرض في الصين. 

في مقال بحثي نُشر في مجلة “فيجوال كلتشر”، يشير التقني والكاتب آن شياو مينا إلى أن الميمز السياسية في الصين تهدف في المقام الأول إلى تفادي الرقابة الحكومية من قبل البشر أو الآلة. إذ تقول إن تضمين رسائل الناشطين بعناية في ميمز بسيطة، مثل صورة قطة لطيفة، يمكن أن يخفيها على أنها محتوى تافه وغير سياسي، وبالتالي، يصير من غير المرجح أن يتم الإبلاغ عنه وحظره.

أثناء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، استخدم النشطاء، سواء المناهضون أو المؤيدون للحكومة “الميمز” لنشر الأفكار، وفقا لبحث أجرته أناستاسيا دينيسوفا، محاضرة كبيرة في الصحافة بجامعة وستمنستر البريطانية ومؤلفة كتاب “ميمز الإنترنت والمجتمع: السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية” غير المترجم للعربية، تقول إن “الميمز” قدمت شكلا قويا من أشكال الخطاب البديل خارج بيئة الإعلام الروسي المقيدة.

قد يهمك: ما الدور الذي لعبته منصات التواصل الاجتماعي في الأحداث الأخيرة بالبرازيل؟ 

“الميمز” كتعزيز لنظريات المؤامرة

على الرغم من أن “الميمز” تستخدم كأدوات سياسية في جميع جوانب النقاش، وتزعزع موازين القوى وتسمح للأشخاص العاديين بالتعبير عن أصواتهم ومخاوفهم، إلا أنها، من ناحية أخرى، يمكن أن تكون أداة للحكومات، أو الشركات الكبرى، كما يستخدمها المتطرفون من جميع التوجهات.

لكن “الميمز” يمكن أن يكون لها جانب أكثر قتامة، حيث تساعد على نشر المعلومات الخاطئة ونظريات المؤامرة التي يمكن أن يكون لها تأثيرات في العالم الحقيقي، كما ظهر خلال جائحة “كوفيد-19”. فبدلاً من أن تكون وسيلة لتقديم نظريات مفصلة، لعبت “الميمز” دور مؤامرات صغيرة الحجم يمكن تكرارها ومشاركتها على نطاق واسع.

“ميم” تم تداوله على بعض صفحات التواصل الاجتماعي حول بعض نظريات المؤامرة التي أحاطت بلقاح “كورونا”

في حالة “كوفيد-19″، كانت العديد من “الميمز” المؤامراتية التي ظهرت على السطح محاولات لملئ فجوات المعرفة حول انتشار الوباء، بحسب ما يقول ألكساندر جاك، عالم النفس الشرعي في مشفى برمنغهام وسوليهول للصحة النفسية.

بالنسبة لأولئك الذين يعانون من مشاكل في الصحة النفسية، قد تكون “ميمز” المؤامرة أكثر إشكالية، كما تحذر الباحثة المشاركة والطبيبة النفسية الشرعية، رينا بانشال “إذا كنت عرضة للتأثر، ووجدت شخصا أو مجموعة من الأشخاص يشاركونك آرائك، فستشعر على الفور بإحساس بالانتماء، وهذا النوع من الأشياء يضيف قوة إلى معتقداتك”.

لكن بينما تنتشر “الميمز” وتتغير بسرعة في أشكالها وقوالبها، ستبقى شكلا من أشكال التعبير في المستقبل، وسواء كانت “الميمز” أداة تستخدم من أجل “الخير” أو “الشر”، فإن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى كيفية اختيارنا استخدامها. فما هي إلا طريقة تواصل محايدة، ويمكن صنع المعنى من “الميمز” اعتمادا على ما يريد صانعها التعبير عنه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.