استمع إلى المقال

في عام 2017، أفادت وكالة “شينخوا” الصينية للأنباء أن وزارة المعلومات والتكنولوجيا الصناعية “تتوقع أن شركتين إلى ثلاث شركات حوسبة سحابية صينية ستقود السوق العالمية في غضون ثلاث سنوات”. في نفس العام، في الوقت الذي كانت الصين تهدف فيه إلى جعل مليون شركة جديدة “تنتقل إلى السحابة”، وقّعت اتفاقية مع مصر ولاوس والمملكة العربية السعودية وتايلاند وتركيا والإمارات العربية المتحدة لتوسيع التعاون في الاقتصاد الرقمي من أجل بناء نظام رقمي يربطه طريق الحرير الرقمي.

مع توسع المزيد من المؤسسات السحابية عالميا وتصاعد وتيرة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أصبحت المنصات السحابية أكثر استعدادا للتسليح، وهي فكرة مستمدة من سياسة “التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج”، وعلى الرغم من أن هذا المفهوم المتمثل في استخدام التكنولوجيا لأغراض الدفاع الوطني بدعم من القطاع الخاص ليس جديدا، إلا أن تطبيق الاستخدام المزدوج للمنصات السحابية لتعزيز المصالح الجيوسياسية في الخارج قد تم تجاهله من قِبل الإعلام.

كيف يصنع مقدموا الخدمات السحابية سوقهم؟

قبل الدخول في تفاصيل استخدام الخدمات السحابية لأغراض توسعية ولبسط نفوذ دول على أخرى، يجب فهم كيفية عمل الشركات المقدمة لتلك الخدمات، وكيف تنشئ أسواقا وتدخل أسواق أخرى ناشئة.

لكي تعمل المنطقة السحابية بكفاءة وتكون ذات قيمة، يجب أن يكون هناك جمعٌ من الشركات والعملاء الذين لديهم وصول سهل إلى الإنترنت. على مدى السنوات العديدة الماضية، بذل مقدمو الخدمات السحابية مثل “مايكروسوفت” و”جوجل” جهودا كبيرة لإنشاء هذا الطلب وتنميته.

مبادرة “إيرباند” من “مايكروسوفت” تعد مثالا رئيسيا على ذلك. تسعى المبادرة، التي تعمل مع مزودي خدمة الإنترنت المحليين وموفري الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، إلى توفير خدمة الإنترنت لربع مليار شخص يعانون من نقص الخدمات في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2025.

المرحلة الأخيرة من المبادرة، التي تم الإعلان عنها نهاية كانون الأول/ديسمبر، تعمل على سد الفجوة الرقمية عبر مساحات شاسعة من إفريقيا. بالنظر إلى أن فقط 40 بالمئة من سكان القارة البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت، ويعيش أكثر من 600 مليون منهم بدون كهرباء، وفقا للاتحاد الدولي للاتصالات ووكالة الطاقة الدولية، تهدف “مايكروسوفت” إلى تقديم خدمة الإنترنت إلى 100 مليون إفريقي في غضون السنوات الثلاث المقبلة، وتعمل مع “فياسات” لتقديم الإنترنت عبر الأقمار الصناعية للوصول إلى بعض السكان الأكثر بُعدا.

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، صبت “جوجل” اهتمامها على أسواق أمريكا اللاتينية وأمريكا الجنوبية. في وقت سابق من هذا العام، أعلنت عن مبادرة مدتها خمس سنوات بقيمة 1.2 مليار دولار لتوسيع نطاق توافر خدماتها السحابية في المنطقة.

سوندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لشركة “جوجل”، كتب في تدوينة في شهر حزيران/يونيو 2022: “في أميركا اللاتينية، قد يؤدي إدراك إمكانات التقنيات الرقمية إلى إحداث تأثير سنوي قدره 1.37 تريليون دولار في ستة من أكبر اقتصادات المنطقة”.

كما هو الحال في مبادرة “إيرباند” الخاصة بمايكروسوفت”، تتركز استثمارات “جوجل” إلى حد كبير حول زيادة وصول أمريكا اللاتينية إلى الخدمات الرقمية، ما يعني باختصار، إنشاء العملاء.

في غضون ذلك، قال مسؤولون في “خدمات ويب أمازون” لـ “رويترز” في تموز/يوليو إنها ستوسع وجودها في أمريكا اللاتينية من خلال إنشاء مركز بيانات بقيمة 205 ملايين دولار في تشيلي، وإنشاء برامج تمويل مصممة لمساعدة الشركات الناشئة على تنمية أعمالها.

في عام 2022، أعلنت “خدمات ويب أمازون” عن مناطق توافر جديدة في كولومبيا والأرجنتين وبيرو والمكسيك والبرازيل وتشيلي، كما أنشأت “جوجل كلاود” مراكز بيانات في المكسيك وجنوب إفريقيا، وفي الوقت نفسه، تخطط “مايكروسوفت”، الموجودة بالفعل في البرازيل، لفتح مراكز بيانات في تشيلي والمكسيك.

وفقا لمؤسسة “غارتنر” للأبحاث، هناك سبب وجيه للقيام بهذه الاستثمارات الآن. على مدى السنوات القليلة الماضية، تتبع المحللون انفجارا في الإنفاق على السحابة في هذه الأسواق. ووجدوا أنه في عام 2021، نما الإنفاق على السحابة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 26.7 بالمئة و 30 بالمئة على الترتيب. وبحلول عام 2023، تتوقع “غارتنر” أن الإنفاق على السحابة في هذه الأسواق سيتضاعف تقريبا عن مستويات عام 2020.

“غارتنر” تتوقع أيضا أن يتباطأ معدل النمو هذا إلى حد ما بحلول عام 2025، وهذا لن يكون مفاجئا؛ ما لم يتم فتح هذه الخدمات لنسبة أكبر من السكان، فإن السوق القابل للتوجيه سيصبح مشبعا بسرعة كبيرة.

من الواضح أن موفّري الخدمات السحابية يعتقدون أن جهودهم لتوسيع أسواقهم المحتملة ستكون ناجحة، وأن الوصول إلى الإنترنت سيؤدي إلى زيادة الطلب على السحابة والبنية التحتية لمراكز البيانات، وهم على الأرجح محقّين.

مقدمي الخدمات السحابية الرئيسيين يصفون هذه الاستثمارات على أنها جهد إيثاري لجلب البنية التحتية والخدمات والوظائف الحيوية للمناطق المحرومة، وهذا صحيح بالطبع، فآلاف الأفراد والشركات يصلون بفضل دخول هذه الشركات إلى تقنيات لم يكن من الممكن أن يصلوا إليها لولاها.

في الواقع، ذلك لا يأتي بالمجان، ودافع التطوير، على الرغم من صحته وواقعيته، إلا أنه ليس الدافع الوحيد لتوسع هذه الشركات، إذ يتحرك مقدمو الخدمات السحابية مندفعين برغبتهم في الحصول على المزيد من العملاء لمنتجاتهم.

لكن كما حدث خلال العقد الماضي، كل هذا أتى على حساب خنق المنافسة المحلية. في أوروبا، على سبيل المثال، لا يزال محامو مكافحة الاحتكار يتصارعون مع التأثير الهائل لمقدمي الخدمات السحابية الأجانب. هناك، تسيطر الشركات الثلاث الكبرى على 72 بالمئة من السوق، وفقا لتقرير مجموعة أبحاث “سينيرجي” الذي نُشر في وقت سابق من الخريف الماضي.

قد يهمّك: الحاجة لمراكز البيانات تتنامى في الشرق الأوسط.. ماذا تفعل الشركات؟

السحابة كسلاح جيوسياسي

الصين مبادرة الحزام والطريق

النظم البيئية السحابية هي بطبيعتها جيوسياسية. بشكل عام، يجب على شركات التكنولوجيا التي تستثمر في البنية التحتية السحابية الحصول على الأرض لتسهيل إنشاء وعمل مراكز البيانات الكبيرة والخوادم لدعم وحدات الحوسبة الموزعة. “خدمات ويب أمازون”، على سبيل المثال هي الشركة الرائدة عالميا حاليا بواقع 96 منطقة توافر (أي مركز بيانات) في 30 منطقة جغرافية، مع حصص السوق تتوزع في الغالب في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا. لكن “علي بابا” كلاود، الشركة الصينية الرائدة في مجال تقديم الخدمات السحابية، تتوسع بسرعة كذلك، مع 86 منطقة توافر في 28 منطقة جغرافية حول العالم، مع حصص السوق في الغالب في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.

تقديم الخدمات للحكومة هو عمل مربح بلا شك. لكن في الآونة الأخيرة، لعب الخوف من تلقي الاتهامات بعدم دعم مصالح الأمن الوطني دورا في التأثير على شركات التكنولوجيا الأميركية لتبني عقلية حرب التكنولوجيا الباردة، حيث أدى الصعود التكنولوجي للصين إلى زيادة احتمالية تورط شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى في بناء تعزيز قدرات الصين العسكرية.

مثالٌ على ذلك عندما طمأن سوندار بيتشاي، الجمهوريين الأميركيين بأن شركته في الواقع “فخورة بدعم حكومة الولايات المتحدة” من خلال أحدث تقنياتها السحابية، بينما حذت “مايكروسوفت” و”أمازون” حذو “جوجل” في التنافس على مشاريع سحابية حكومية ضخمة.

الآن يتم تطبيق إستراتيجية “التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج” لتعزيز تطبيقات الدفاع العسكري في الولايات المتحدة. ففي عام 2017، أعلنت “أمازون” عن خدمة سحابية جديدة، تسمى “المنطقة السرية” (Secret Region)، وهي عبارة عن نظام تخزين سحابي مصمم للتعامل مع المعلومات السرية لوكالات التجسس الأمريكية. بينما يؤكد التعاون الأخير بين القطاعين العام والخاص، بين “جوجل كلاود” ووحدة ابتكار الدفاع الأميركية، “تسليح” التكنولوجيا السحابية من أجل الدفاع الوطني.

في كانون الثاني/يناير 2020، أثبتت معركة “أمازون” ضد “مايكروسوفت” بشأن صفقة السحابة العسكرية الأميركية عسكرة التقنيات السحابية، ففي إطار مشروع “Jedi”، يأمل النظام البيئي السحابي لشركة “مايكروسوفت” في منح الجيش وصولا أفضل إلى البيانات، ودعم التقنيات في أكثر من 5000 قاعدة عسكرية أمريكية، 600 منها في الخارج، كما سيسمح هذا لوكالة الاستخبارات الدفاعية، وهي فرع من وزارة الدفاع الأميركية، بالاستفادة من المزيد من البيانات الجغرافية التفصيلية للبلد المضيف لاكتساب رؤى جغرافية عسكرية في الخارج في الوقت الفعلي.

على الجانب الآخر، فإن الدلائل تشير إلى أن استخدام الصين المزدوج لتقنيات السحابة ليس قصة جديدة كذلك، كما لا تعمل الصين على عسكرة السحابة فحسب، بل تقوم أيضا بتسييسها. إذ ظهرت الخطوة الأولى التي اتخذتها الصين لتسليح تقنيات السحابة عندما أنشأت جامعة جيش التحرير الشعبي للتكنولوجيا “القرص التزامن السري” للتطبيقات العسكرية في عام 2015. كما سلط تقرير صدر عن وزارة الدفاع الأميركية الضوء على كيفية تبني جيش التحرير الشعبي الصيني تقنيات الحوسبة السحابية لتوفير منصات آلية موثوقة لتحسين العمليات، حيث يتزايد التواجد الصيني العسكري على طول البلدان المرتبطة بمبادرة “الحزام والطريق”.

قد يهمك: هل تسعى الصين إلى استغلال مبادرة الحزام والطريق لتصبح أكبر “قاطع طريق” في العالم؟

بصرف النظر عن عسكرة الحلول السحابية، يبدو أن هناك وظيفة أخرى للخدمات السحابية تكمل استراتيجية بكين الأكبر لرقمنة الحكومة. فنظرا لأن “هواوي” و”علي بابا” تنتجان منتجات المدن الذكية مثل “City Brain”، وهو نظام برمجي يستخدم الذكاء الصنعي وجمع البيانات للإدارة الحضرية، فإن بكين تكتب دليل التعليمات للحوكمة الاجتماعية الذكية للبلدان النامية.

كينيا وموريشيوس وإثيوبيا وزيمبابوي، ودول من أميركا اللاتينية، مثل الإكوادور وبوليفيا وفنزويلا، تختبر النموذج الصيني بالفعل. بالإضافة إلى ذلك، زادت أزمة “كورونا” من جاذبية تقنية التنبؤ الوبائي الخاصة بـ “على بابا” واستخدمتها عدة دول في شرق آسيا، مثل ماليزيا وتايلاند وسنغافورة وإندونيسيا. لذا، يمكن أن تصبح هذه الدول النامية – ولو تقنيا فقط وليس اقتصاديا– مستعمرات بيانات محتملة، أو مجرد ضحايا تستولي الصين على “أراضيها” الرقمية.

قد يهمّك: أي ثمن تدفعه مصر للرقمنة برعاية “هواوي”؟

تأثير جانبي

تقسيم الإنترنت

الباحثون يتوقعون أن هذه الأنواع من المؤسسات السحابية شديدة الترابط ستقود الاقتصاد العالمي في العقد المقبل. مع استمرار التوترات بين الولايات المتحدة والصين، تزداد احتمالية تسليح الترابط بين البنية التحتية السحابية والمصالح الوطنية، بالنظر إلى أن القوتين العظميين تسلّحان بالفعل شبكات التجارة العالمية، كلّا لصالحها. على وجه الخصوص، قد يكون احتمال الضغط على الحلفاء لشراء أو حظر خدمات بعض مزودي الخدمات السحابية، كما فعلت الولايات المتحدة وبريطانيا مع شبكات الجيل الخامس الخاصة بـ “هواوي” مرجحا أيضا.

عليه، يمكن أن تؤثر عمليات حظر مشابهة على كيفية تأمين “علي بابا” مصادر العتاد اللازمة لخدماتها السحابية، مثل المعالجات ولوحات الخوادم ومفاتيح الشبكات وأجهزة التوجيه. ونظرا للتشابه بين سلاسل الإمداد في الخدمات السحابية وشبكات الجيل الخامس، واعتماد معظم مزودي الخدمات السحابية على الشركات الأميركية الكبرى، فإن مقدمي الخدمات السحابية في الولايات المتحدة لهم اليد العليا في السباق لبناء مراكز البيانات في المناطق الحرجة مثل أمريكا اللاتينية وأفريقيا و جنوب شرق آسيا.

إحدى الأساطير التقنية تقول أن التقنيات السحابية لا تؤثر على شكل الإنترنت بصورته العامة، لكن تقرير لـ “المجلس الأطلسي” دحض هذه الأسطورة، إذ سلط الضوء على نقطة ضعف مهمة أخرى، وهي إمكانية التدخل في الإنترنت والتحكم به من بوابة الخدمات السحابية، موضحا أن هذا التصرف ليس حكرا على الدول الشمولية.

الحجم الهائل لحركة مرور البيانات السحابية يتزايد بشكل هائل، إذ بلغت 95 بالمئة من إجمالي حركة مرور البيانات العالمية حلول عام 2021، وفقا لإحدى الدراسات، فاحتمال تسهيل “علي بابا” على الأنظمة الاستبدادية تنفيذ سياسات السيادة على الإنترنت أمر مرجح، وسهل.

كما تسعى دول مثل إيران على تطوير “شبكة إنترنت وطنية ذاتية الاستدامة ذات حدود خاضعة للرقابة، وإنشاء شبكة إنترانت لتسهيل الرقابة من خلال تقييد توجيه البيانات لبروتوكول بوابة الحدود (BGP)، والاستفادة من الاتصال كأداة للتأثير الإقليمي”. وبالمثل، بينما تدعو دول الصين وروسيا إلى رؤية “السيادة الإلكترونية”، يمكن الوصول إلى البيانات التي تملكها “علي بابا كلاود” والتحكم بها، وبناء على طلب البلد المضيف، أيا كان، يمكن على سبيل المثال حظر بعض مواقع الويب التي تعتبر غير ملائمة له، سواء سياسيا أو اجتماعيا.

قد يهمّك: هل نشهد انتهاء عصر العولمة الرقمية وبداية تقسيم الإنترنت؟

يجب على منتدى إدارة الإنترنت التابع للأمم المتحدة ومفوضية الاتحاد الأوروبي والجهات الفاعلة الدبلوماسية الأجنبية الأخرى طرح هذا السؤال الأساسي ولكن في الوقت المناسب: هل يجب علينا تنظيم الاستخدام المزدوج لتقنيات السحابة في تأمين المصالح الجيوسياسية للقوى العظمى، وأين يجب أن يتم رسم الخط الفاصل

إن الآثار المترتبة على عدم الاعتراف بأن التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج يمكن أن تهدد بشكل غير مباشر الأمن القومي والمصالح الاقتصادية للدول الأخرى، خاصة عندما تكون عالقة بين الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.