حربُ التّكنولوجيا الباردة: الجزء الثاني – طريق الحرير الرّقمي

حربُ التّكنولوجيا الباردة: الجزء الثاني – طريق الحرير الرّقمي
استمع إلى المقال

على الرغم من أن خطوط الأنابيب والطّرق السريعة ومشاريع البنية التحتية الكبرى لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية المثيرة للجدل قد حظيت بأكبر قدر من الاهتمام كجزء من جهود بكين لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي حول العالم، لكن لا يجب إغفال الجانب الرّقمي المتنامي من هذا المشروع، والذي الذي يمكن أن يشكّل العمود الفقري لاقتصاد المستقبل؛ طريق الحرير الرّقمي، المشروع الذي بلغت قيمته 200 مليار دولار حتى الآن، وما زال في تزايد.

من كبلٍ بحري صيني مخطّط يربط باكستان وجيبوتي إلى مبادرات مراقبة المدن في صربيا وبرامج التعرف على الوجه المستخدمة لقمع الأويغور وغيرهم من المسلمين في غرب الصين، والتي تُستخدم الآن في آسيا الوسطى، يقدّم المؤلف جوناثان هيلمان جولة في ساحة المعركة الجديدة هذه، مع توضيحِ أصولها وإظهار اتجاه المنافسة في كتاب “طريق الحرير الرقمي: السعي الصيني لربط العالم والفوز بالمستقبل“.

يقول هيلمان: “لقد رأينا فقط المرحلة الأولى من سباق التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين، وقد تركزت في الغالب على البلدان المتقدمة. لكن المنافسة الحقيقية من المقرّر أن تدورَ في جميع أنحاء العالم النامي.” وأضاف: “إن السباق غير مرئي، ولكنّه في كل مكان. حتى مشاريع البنية التّحتية التقليدية تحتوي جميعها على مكون رقمي”.

من أنظمة اتصال الجيل الخامس إلى أنظمة المراقبة وكابلات الألياف الضوئية التي تدعم الذكاء الاصطناعي، تقاتل بكين وواشنطن من أجل السيطرة على شبكات المستقبل، وكما كتب هيلمان في كتابه، “بدأت حروب الشبكات”. وأضاف “هذه لحظة معقّدة، والمنافسة الجارية أكثر تعقيدًا”.

قد يهمك أيضًا: حرب التكنولوجيا الباردة: الجزء الأول – الذكاء الاصطناعي

ما هو طريق الحرير الرقمي؟

تم إطلاق طريق الحرير الرقمي في الصين في عام 2015 كعنصر من عناصر رؤية بكين الواسعة لربط العالم ببعضه، “مبادرة الحزام والطريق”. وحاله حال المبادرة الأم، فإن طريق الحرير الرقمي لا يتكوّن من كتلة واحدة، بل يضم العديد من الجهات الفاعلة على جميع المستويات عَبر القطّاعين العام والخاص في الصين. لكن الأدوار غير متبلورة تمامًا، وغالبًا ما يكون الخط الفاصل بين مشاريع طريق الحرير الرّقمي الرّسمية وغير الرّسمية ضبابي، ومن الصّعب الحصول على بيانات شاملة عن استثمارات المشروع.

يهدف طريق الحرير الرقمي إلى تحسين الاتصال الرقمي في البلدان المشاركة، مع اعتبار الصين المحرك الرئيسي للعملية. وبشكلٍ عام، يهدف المشروع إلى تطوير وإمكانية التشغيل البيني للبنية التحتية الرقمية الحيوية؛ مثل كابلات البيانات الأرضية والبحرية، وشبكات الجيل الخامس الخلوية، ومراكز تخزين البيانات، وأنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية العالمية.

وفي واحدة من أكبر التحركات في هذا الصّدد، أكملت الصين إطلاق نظام الأقمار الصناعية العالمي “BeiDou”، والذي يعتبر، في بعض المناطق، أكثر دقة من نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) التابع للولايات المتحدة. وفي آسيا، تُعدُّ باكستان ولاوس وبروناي وتايلاند من بين البلدان التي تبنت هذا النظام، وهناك استخدام متزايد له في الشرق الأوسط وإفريقيا.

أمّا على صعيدٍ آخر، يعزّز طريق الحرير الرقمي الاتصال بين الشركات المحلية والمستهلكين وبين الشركات الصينية الكبرى كذلك والمستهلكين. وتشمل الأمثلة التجارة الإلكترونية، وأنظمة طلب سيارات الأجرة الرّقمية، والتكنولوجيا المالية، ومنصات وتطبيقات تكنولوجيا التّعليم، بالإضافة إلى الأجهزة مثل أجهزة التّوجيه، والهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر.

غير مرئي، لكن في كل مكان

في أغسطس/آب 2021، انتقلت معركة قانونية متعددة السنوات بين عملاقة الاتصالات الصينية هواوي وشركة مقاولات أمريكية صغيرة اسمها “بزنس إفيشنسي سولوشنز” (Business Efficiency Solutions) إلى محكمة فيدرالية أمريكية عندما زعمت الأخيرة أن هواوي قد سرقت تقنيتها وضغطت عليها لإنشاء “باب خلفي” للوصول إلى مشروع من مشاريع إنفاذ القانون في باكستان.

ولطالما أثار المسؤولون الأمريكيون مخاوف بشأن هواوي وكيف يمكن أن تستخدمَ السّلطات الصينية معداتها للتّجسس على الدول التي تقوم بتثبيتها، وهو ادّعاءٌ نفته هواوي مرارًا وتكرارًا. (اقرأ: هواوي نفسها تشرح كيفية انخراطها بعمليات المراقبة.. ومن ثم تنكر)

لكن شركة المقاولات قالت في الدعوى القضائية التي رفعتها إن هواوي أجبرتها على إنشاء نظام من شأنه أن يمنح الشركة الصينية الوصول إلى معلومات حساسة حول الباكستانيين والمسؤولين الحكوميين من خلال مشروع “المدينة الآمنة” للمراقبة المدعوم من الصين، والذي تم تثبيته في لاهور، ثاني أكبر مدينة في باكستان.

لا يزال النزاع مقيدًا في المحكمة، لكن هذه القضية -على الرغم من صغر حجمها- تصل إلى قلب شبكة الشركات والمقاولين والتقنيات الجديدة والمصالح الوطنية التي تمتد عبر الكرة الأرضية؛ والتي تشكّل العمود الفقري للتنافس المتزايد بين الصين والولايات المتحدة.

حروب الشبكات

مع توسّع طريق الحرير الرّقمي الصيني في جميع أنحاء العالم، من أمريكا اللاتينية إلى جنوب آسيا، لا تزال المخاطر كبيرة. لكن يأتي سعي بكين للهيمنة الرقمية من القمّة. حيث دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ بلاده إلى قيادة التّصنيع المتقدم بحلول عام 2025، وقيادة وضع المعايير للتقنيات الجديدة بحلول عام 2035، وأن تصبح البلد قوة عظمى بحلول عام 2050.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، دفع جين بينغ الشركات الصينية للاستثمار بكثافة في البنية التحتية الرقمية داخل الصين ونشر المزيد من منتجاتها في الخارج تحت مظلة مبادرة الحزام والطريق الموسّعة. إنها معركة من أجل أسواق الغد.

ومن شأن نجاح الصين أن يجلب منافع تجارية واستراتيجية للبلاد، ويسمح لبكين بالسيطرة على التمويل العالمي والاتصالات وتدفّق البيانات، والتي يمكن إعادة تشكيلها جميعًا لتناسب مصالحها الجيوسياسية بشكلٍ أفضل، وجميعها مزايا تتمتع بها شركات الولايات المتحدة حاليًا.

جزءٌ من هذه المساعي الصينية أتى بالخطأ عن طريق واشنطن التي ساعدت في تمكين الصين من الصعود كقوة تكنولوجية، معتقدةً أن التكنولوجيا يمكن أن تلعب دورًا في الحفاظ على تدفق المعلومات مفتوحًا وتغذية التّحول الصيني نحو الديمقراطية. إذ كان هناك تفاؤل مفرط مع التكنولوجيا وافتراض أن نشر الاتصالات والتكنولوجيا سيساعد في نشر الحرية. لكن التكنولوجيا هي مجرد أداة، وكما رأينا، يمكن أيضًا استخدامها لقمع ومساعدة المستبدين.

لكن وفقًا لتقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية لعام 2019، فإن 71٪ من اتفاقيات “المدينة الآمنة” التي تديرها شركة هواوي تم إبرامها مع دولٍ لديها سجل مشكوك فيه في مجال حقوق الإنسان.

معركة سريعة وعلى عدة جبهات

توسّعت الشركات الصينية بسرعة في السنوات الأخيرة، ففازت بحصةٍ كبيرة في السوق من خلال تقديم منتجاتها وخدماتها بأسعار منخفضة والقدرة على العمل بإشراف أقل من منافسيها الغربيين، ولاسيما في آسيا الوسطى، حيث تلعب شركات التكنولوجيا الصينية دورها الأبرز.

في عام 2019، أبرمت هواوي صفقة بقيمة مليار دولار مع أوزبكستان لبناء نظام واسع النطاق لمراقبة حركة المرور، وتعد شركة “هيكفيجين” (Hikvision)، التي طوّرت برنامجًا للتّعرف على الوجه يمكن أن يستهدف مجموعة الأويغور، مورّدًا رئيسيًا للمدن في جميع أنحاء كازاخستان.

وتحول مركز قيادة الشرطة الذي افُتُتح في عام 2019 في بيشكيك، عاصمة قيرغيزستان، أيضًا إلى الشركات الصينية من أجل الحصول على كاميرات التّعرف على الوجه.

ولجأت روسيا أيضًا كذلك إلى شركة هواوي من أجل شبكات اتصالات الجيل الخامس الخاصة بها، والتي يقرّ الكرملين بأن البلاد غير قادرة على إنتاجها بجودة عالية بمفردها. ولا تؤدي هذه الخطوة إلى تعزيز مكانة الشركة الصينية في السوق الروسية فحسب، بل تعمل أيضًا على تحسين مكانتها في معركة الأسواق الناشئة الأخرى.

أمّا من جانب شركة هواوي، التي كان يُنظر إليها ذات مرة على أنّها قوة طاغية في دوائر السياسة الغربية، أعاقتها حملة دبلوماسية وعقوبات بقيادة الولايات المتحدة، مما أجبر الشركة الصينية على تجربة خطوط أعمالٍ وأسواق جديدة، والتّخلي عن طموحِها على الأراضي الغربية، وإعادة بناء سلسلة إمداد مستقلة عن الولايات المتحدة. 

اقرأ أيضًا: بايدن يوقع تشريعًا لتشديد القيود على هواوي و ZTE

وفي أغسطس/آب، أعلنت شركة هواوي أن إيراداتها قد انخفضت بنسبة 29٪ في النصف الأول من عام 2021، حيث قال رئيسها إن “هدف الشركة هو البقاء”.

كما تحركت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند واليابان لتشكيل بدائل لمبادرة “الحزام والطريق” وشددت تركيزها على البنية التحتية الرقمية، على الرغم من أن هذه المبادرة لا تزال في مراحلها الأولى.

وهذا يمثّل أحدَ أصعب التحديات التي تواجه الولايات المتحدة حيث تتطلع إلى التنافس مع الصين في ساحة المعركة الرقمية في جميع أنحاء العالم، وليس في قِطاعات محدّدة.

حتى الآن، كانت غالبية الإجراءات الأمريكية دفاعية، مثل العقوبات وضوابط التصدير. لكن للاستمرار في المنافسة، ستحتاج الولايات المتحدة أيضًا إلى المضي قدمًا في تحركاتها الهجومية، مثل تطوير تقنيات جديدة وتوسيع الوصول إلى المعلومات. حيث أن هناك خطر يتمثل في انتقاد أنشطة الصين فقط دون تقديم بدائل ذات مصداقية. فالمتنافسين دومًا بحاجة إلى التفكير في كيفية التنافس، وليس نقد المنافس وحسب.

خطة الولايات المتحدة للتصدي: صحيحة ولكن غير كافية

إن التركيز المتصاعد على هذه المنافسة كان مدفوعًا بمجموعة من العوامل: جائحة عالمية سلّطت الضوء على مشاكل سلاسل التّوريد وأهمية التصنيع المحلي، ثورة رقمية أكّدت على أهمية الشّمول الرقمي والتدريب والبنية التحتية، والقدرة التنافسية التكنولوجية للصين الصاعدة.

قد يهمك أيضاً: أزمة الشرائح الإلكترونية: نقصٌ يزعزع الاقتصاد العالمي

واحدةٌ من القضايا القليلة التي يبدو أن الكونغرس والإدارة يتفقان عليها هي أهمية الحفاظ على القيادة الأمريكية في التقنيات الحيوية كجزء من رؤية موسّعة للأمن القومي. حيث تطوّر الدّعم من الحزبين لصالح سياسة صناعية لعدد محدود من التقنيات الرئيسية؛ مثل أشباه الموصِّلات، شبكات الجيل الخامس، وغيرها من الأمور الأساسية للحفاظ على الابتكار الأمريكي والقيادة التكنولوجية.

وعليه، اعتمد مجلس الشيوخ قانون الولايات المتحدة للابتكار والمنافسة لعام 2021 (USICA) الذي تم تمريره بدعم قوي من الحزبين، والذي نصّ على توفير مليار دولار لدعم أعمال البحث والتطوير، وتطوير التقنيات الرئيسية، والتعليم العالي، وأكثر من 50 مليار دولار لدعم صناعة أشباه الموصلات. وبدعم من الحزبين أيضًا، أقر مجلس النواب مشروعين قانونين يضيفان تمويلًا كبيرًا للبحوث في مؤسسة العلوم الوطنية ووزارة الطاقة.

ومع ذلك، بينما اتخذت الإدارة والكونغرس الأمريكيين بعض الخطوات المهمة في الاتجاه الصحيح، هناك حاجة إلى المزيد.

دفع الوباء إلى ترسيخ الإيمان بأن مستقبل أمريكا -والعالم- رقمي. ولكن مع وجود أكبر عدد من مستخدمي الويب في الصين أكثر من أي دولة أخرى في العالم، فإن لديها تطلعات لأن تكون رائدة الإنترنت العالمية، وإعادة تشكيل الفضاء الإلكتروني على صورتها الخاصة. فعندما تبيع الصين معداتها إلى البلدان ذات الدخل المتوسط ​​والبلدان النامية، تتلقى حكوماتها الأدوات اللازمة للرقابة على الإنترنت والتحكم فيه، لكن مع ترك شبكاتها عرضة للسرقة والتدخل الإلكتروني من قبل الحكومة الصينية. كما يمنح طريق الحرير الرقمي الصين حصة سوقية مهيمنة بدرجة كافية في العديد من الأسواق لوضع المعايير الفنية لتفضيل المنتجات الصينية على جميع منتجات الأسواق الأخرى.

وخلال قمة مجموعة السبع التي عُقدت في كورنوال، أعلن الرئيس بايدن وقادة حلفاء آخرون عن خطة بنية تحتية عالمية لمواجهة المبادرة الصينية. فالبرنامج، الذي يسميه البيت الأبيض “إعادة بناء عالم أفضل (B3W)”، لديه الطموحات الصحيحة، ولكنه ليس كافياً لهذه المهمة.

ففي ظل إدارة ترامب، تم دمج عدد من الوكالات لتشكيل مؤسسة تمويل التنمية الدولية (DFC). ومع ذلك، مع حد أقصى لقوة الإقراض يبلغ 60 مليار دولار، فإن تمويل المؤسسة صغيرٌ جدًا مقارنة بمبادرة الحزام والطريق في الصين. وصحيحٌ أن قانون الولايات المتحدة للابتكار والمنافسة الذي أقره مجلس الشيوخ سيرفع حد الإقراض إلى 100 مليار دولار، لكنه لا يزال أقل بكثير من تمويل مبادرة الحزام والطريق واحتياجات البنية التحتية العالمية؛ والتي يقدرها البنك الدولي بنحو 18 تريليون دولار.

لتقديم بديل ومنافس واقعي للصين، يجب على الولايات المتحدة إطلاق “خطة مارشال رقمية“؛ أي على غرار الخطة التي أطلقتها عام 1948 لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وذلك بهدف تطوير الاتصالات والإنترنت والتكنولوجيا المتقدمة كما فعلت خطة مارشال الأصلية لإعادة بناء عالم مزقته الحرب. يجب أن يعمل قادة مجموعة السبع معًا، جنبًا إلى جنب مع البنك الدولي، لخلق منافس قوي وممول بما فيه الكفاية ليجابه لطريق الحرير الرقمي في الصين.

دور الشرق الأوسط في اللعبة

تم تسليط الضوء بشكلٍ صارخ على أهمية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الاستراتيجية الرقمية للصين في المؤتمر العالمي للإنترنت في Wuzhen في ديسمبر/كانون الأول 2017، عندما وافق عدد من الدول، بما في ذلك المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، على التعاون مع الصين في المشروع من خلال توسيع الوصول إلى النطاق العريض وكذلك تشجيع التعاون في التجارة الإلكترونية وغيرها من المحاور ذات الصلة.

وفي طليعة التقدم الرقمي الصيني في المنطقة، توجد شركات الاتصالات المختلفة التابعة للحكومة الصينية نفسها، والتي تأمل في السيطرة على أسواق الشرق الأوسط بينما تساعد في نفس الوقت في تعزيز الأهداف الاستراتيجية الشاملة للصين.

يقول سام بلاتيس، الرئيس التنفيذي لشركة “مينا كاتاليستس” (MENA Catalyst)، وهي شركة شؤون حكومية شرق أوسطية لشركات التكنولوجيا متعددة الجنسيات: “لا يجب إهمال الزاوية التكنولوجية للعلاقات الإماراتية-الصينية. الأرقام الصغيرة حاليًا يمكن أن تكشف كيف يمكن أن تكون استراتيجية في المستقبل القريب”.

يتابع قائلاً: “العمالقة الخمسة في عصر الإنترنت الصيني؛ تينسنت، وعلي بابا، وبايدو، وشاومي، وديدي، هم كيانات غير عادية. حجمها الهائل وإمكانية وصولها إلى رأس المال يعني أن أصغر التحركات في أي بلدٍ هنا [يقصد الشرق الأوسط] يمكن أن تنقل الأسواق إلى مرحلةٍ أخرى.” ومع ذلك، فإن تحركات هذه الشركات في المنطقة ليست ضئيلة بأي حال من الأحوال.

في عام 2017، على سبيل المثال، أعلنت علي بابا عن خطة بقيمة 600 مليون دولار لإنشاء “مدينة التكنولوجيا” -بحجم يبلغ خمسة أضعاف حجم البنتاغون- والتي ستضم في النهاية 3000 شركة تعمل في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي وتطبيقات الأجهزة المحمولة بالقرب من جبل علي في دبي .

كما وطّدت الصين علاقاتها من خلال المشاريع التي تخلق ترابطًا بينها وبين حكومة الإمارات العربية المتحدة. مثال على ذلك طرح شركة شاومي مجموعة متاجر تبلغ مساحة الواحد منها 1500 قدم مربع في دبي. كما منحت بكين متجر “نون”، منافس الشرق الأوسط لأمازون، عملاق التجارة الإلكترونية في المنطقة والذي يتخذ من الإمارات مقرًا له، الموافقة على التوسع في سوق التجارة الإلكترونية المزدهر في الصين.

وفي حديثه في مؤتمر “بوابة الخليج” في البحرين 2018، قال وينستون وينيان ما، الشريك الإداري وكبير مسؤولي الاستثمار في شركة China Silkroad Investment Capital، إنه يعتقد أن التأثير الفوري لطريق الحرير الرقمي سيكون انتشار شبكات ونماذج التجارة الإلكترونية الصينية في المنطقة.

على سبيل المثال، يشير  وينيان ما إلى فعالية التسوق التي تُقام في الصين كل عام في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، خلال عطلة “يوم العزاب” الشعبية في البلاد. يقول: “يشارك الباعة والمستهلكون من أكثر من 200 دولة في النسخة الصينية من الجمعة السوداء. وعندما يكون لديك المزيد من امتدادات البنية التحتية الإلكترونية، سيكون لديك شبكة تجارة إلكترونية في جميع المناطق. وعمالقة التكنولوجيا الصينيون ليسوا غرباء عن التغلب على التحديات اللوجستية للبلدان النامية.”

ويوضح أن اقتصاد الهاتف المحمول الصيني يتوسع بسرعة مع ابتعاد المستهلكين عن أجهزة الكمبيوتر والهواتف الأرضية وبطاقات الائتمان، وتوجههم نحو الهواتف الذكية، بما في ذلك التسوق. يقول: “في الأسواق الناشئة، وكذلك في دول مجلس التعاون الخليجي، تشهد الأسواق نفس الشيء.”

وربما تكون الشركات الصينية أكثر ملاءمة لظروف المنطقة من نظيراتها الأمريكية أو الأوروبية، حتى لو كان وجودها في المنطقة أقل رسوخًا. ويرجع ذلك إلى سببين رئيسيين: الأول هو أن العديد من شركات التكنولوجيا الصينية تشعر بالراحة لدخول الأسواق العربية حيث يوجد نمو تقوده الحكومة، بدلاً من النمو الذي يقوده القطاع الخاص. آخذين بالاعتبار أن معظم اقتصادات المنطقة التي تهيمن عليها الدولة لم تكن فعالة وكافية تاريخيًا، مما يوفر فرصةً للنمو السريع للشركات الصينية.

أما السبب الآخر، فهو أن الفعالية النسبية من حيث التكلفة للعديد من منتجات التكنولوجيا الصينية مثل منتجات شاومي، التي افتتحت متاجر في دبي والقاهرة والرياض، قد تساعد هذه الشركات في الاستفادة من شرائح كبيرة من المشترين ذوي القدرات الشرائية المنخفضة في جميع أنحاء المنطقة.

لكن الخطر يكمن في فكرة أنه في جميع أنحاء العالم، كان توسع البصمة الرقمية للصين في المنطقة مصحوبًا بمخاوف بشأن ما إذا كان يمكن استخدام الاتصالات لتوسيع جهود الاستخبارات الصينية أو يؤدي إلى تنازلات بشأن خصوصية البيانات. ففي تقريرٍ صدر عن مجلس العلاقات الخارجية ومقره الولايات المتحدة، أعرب عن مخاوفه من أن شركات التكنولوجيا الصينية قد تُدخل تقنيات “الباب الخلفي” التي يمكن أن تزيد من عمليات الاستخبارات والدعاية لبكين في البلدان الشريكة لمبادرة الحزام والطريق.

أما من جانبه، قال وينيمان ما في وقتٍ سابق من العام المنصرم إنه يعتقد أن أي مخاوف تتعلق بالتكنولوجيا الصينية هي تأثيرٌ طبيعي لـ “نقطة انعطاف” يمرّ فيها العالم حيث اتصاله ببعضه البعض في أعلى مستوياته والثقة فيه عند أدنى مستوياتها، لذا يجب على الشركات الصينية نفسها تحديد هذه المخاطر وطرح حلول لمعالجتها عند دخولها سوق الشرق الأوسط.

كلمة أخيرة

من الواضح أن طريق الحرير الرقمي يخدم هدفًا يتمثل في تضييق الفجوة الرقمية العالمية بين الأقطاب المتنافسة، كما أنه يتحدى الهيمنة الرقمية الحالية للولايات المتحدة والحصة السوقية المهيمنة لشركات التكنولوجيا فيها. وعلى هذا النحو، يقدم طريق الحرير الرقمي نفسه شريكًا جادًّا في التحول الرقمي لتلك البلدان التي تحتاج إلى منتجات وخدمات رقمية بأسعار تنافسية، ومنافسًا لقادة التكنولوجيا الحاليين. وبغض النظر عن المكان الذي يقف فيه المرء، فإن كل هذا لا يؤكد إلا فكرةً دأبت مئات التقارير والأوراق البحثية على إثباتها؛ وهي أن الحرب العالمية الثالثة ستّتخذ من الفضاء الرقمي ميدانًا لها.

كان هذا الجزء الثاني من سلسلة تقارير “حرب التكنولوجيا الباردة” الخاصة من إكسڤار، والتي نغطي بها مجالات المنافسة التكنولوجية بين قوى العالم العظمى. سنتناول في التقرير القادم المنافسة في مجال “الحوسبة الكمومية”

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.