استمع إلى المقال

في نهاية 2022، كشفت “OpenAI” على لسان مديرها التنفيذي سام ألتمان عن نموذج الذكاء الاصطناعي “ChatGPT”، ورغم أن الشركة كانت تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي منذ فترة وقدمت أكثر من نموذج آخر، إلا أن “ChatGPT” أصبح أنجح منتج تقدمه الشركة وأحد أنجح المنتجات التقنية في العقد الأخير. 

الكشف عن نموذج “ChatGPT” في كانون الأول/ ديسمبر 2022 كان اللحظة التي ستغير نظرة العالم إلى مفهوم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، وللمرة الأولى، فإن المستخدم العادي البعيد عن علوم البرمجة والحواسيب، أصبح قادرا على استخدام التقنية لصالحه من أجل تحقيق الأموال دون مجهود يذكر. 

منذ تلك اللحظة وحتى اليوم، بدأ سباق بين مختلف المستخدمين عبر الإنترنت من أجل الوصول إلى طرق للاستفادة من “ChatGPT” ماليا وتحقيق دخل إضافي يأتي من الروبوت، حتى يكون هذا الدخل قادرا على إعانة المستخدم بدون مجهود يذكر، لذلك ظهرت الكثير من الاستخدامات له في مختلف المجالات، ومن ضمنها بالطبع صناعة محتوى الإنترنت، ولكن هل يستطيع “ChatGPT” فعلا بناء محتوى يحقق دخل حقيقي، وما هي مخاطر استخدام هذه التقنية في صناعة المحتوى. 

صناعة المحتوى الأصيل

مفهوم صناعة المحتوى هو أحد المفاهيم الجديدة التي دخلت علينا في السنوات الأخيرة، ورغم أن الوظيفة ذاتها موجودة منذ الأزل، إلا أن التوصيف الجديد لها ظهر منذ 5 سنوات أو أقل، وبالنسبة للوافدين الجدد إلى عالم المحتوى والناظرين إلى الوظيفة من الخارج، فإن هذه الوظيفة تشير لمن يعمل عبر الإنترنت دون تحديد لنوع هذا العمل. 

وفي الحقيقة، فإن مفهوم صناعة المحتوى الذي انتشر عبر الإنترنت هو من المفاهيم المطاطية التي يمكن أن تتسع للكثير من الوظائف، والأولى هو تحديد نوعية المحتوى من أجل تحديد الوظيفة، إذ إن وظيفة صانع محتوى الفيديو تختلف كثيرا عن صانع المحتوى الصوتي أو المكتوب. 

الوظائف التي تندرج تحت مسمى صناعة المحتوى متنوعة وعديدة، ولكنها جميعا تمتلك أصولا إعلامية قديمة ومعروفة بالفعل، فإن كان الشخص عاملا في صناعة المحتوى المرئي، فإن هذا يعني أن وظيفته أقرب إلى المخرج أو المسؤول عن مونتاج مقاطع الفيديو، وكذلك الأمر للعاملين في صناعة المحتوى الصوتي سواء كانوا إذاعيين أو مهندسي صوت، ولكن حالة المحتوى المكتوب تختلف كثيرا عن أنواع المحتوى الأخرى. 

صانع المحتوى المكتوب قد يكون أقرب للكاتب الأدبي المسؤول عن تأليف وابتكار قصص من العدم، أو قد يكون أقرب للصحفيين، إذا ماكان محتواه يستند إلى نشر الأخبار أو المعلومات بصورة أو بأخرى، وهو الشكل الأكثر انتشارا بين جميع أنواع صناعة المحتوى، وذلك لأن الدخول إلى هذا المجال نظريا سهل ولا يحتاج إلى أي معدات أو تكاليف خاصة. 

سهولة الدخول إلى مجال صناعة المحتوى المكتوب أو صحافة الإنترنت جذب الكثير من الراغبين في العمل عبر الإنترنت، ودفعهم لمحاولة المشاركة في هذا المجال عبر بناء مواقع أو مدونات أو حتى صفحات تواصل اجتماعي تقترب من أشكال الكتابة الصحفية، ظنًا منهم أن هذا كافي للعمل في صحافة الإنترنت ودون النظر إلى أُسس الصحافة والعمل الصحفي الحقيقي. 

طوفان الداخلين في مجال صحافة الإنترنت أنشأ جيلا واسعا من صنّاع المحتوى المكتوب الذين يرغبون في تقديم أي شيء دون الاهتمام بالمعايير الصحفية الجيدة أو حتى معايير بناء المحتوى الأصيل، وبالتالي وُلّدت الكثير من قطع المحتوى المكتوب المقلدة والمنسوخة سواءً عن عمد أو عبر اقتباسات مُشيّنة أفقدتها أصالتها. 

تعريف المحتوى الأصيل قد يختلف بين شخص وآخر، إذ إن كل أديب أو صحفي ينظر إلى المحتوى الأصيل بناء على خبرته السابقة، ولكن رغم هذا الاختلاف في التعريف، إلا أن الأُسس التي يستند عليها المحتوى الأصيل تظل ثابتة مهما اختلفت التعريفات. 

الكاتبة والباحثة الأدبية ريجي روتمان تضع فارقا واضحا بين ما تصفه بالكتب الحقيقية والكتب التجارية، وذلك دون النظر إلى نوعية الأدب الذي تنتمي إليه هذه الكتب سواء كانت كتب خيال علمي أو قصصية أو حتى تنقل معلومات ووقائع حقيقية، وحتى يزداد الفارق بين النوعين، فإنها ترى أن المصطلحات المستخدمة في الأدب الأصيل لا تخضع لأي سيطرة خارجية أو حتى تُكتب لتجعل القارئ ينظر إليها بصورة بعينها، ولكنها تكون متنوعة وجامحة بدون سيطرة وتضم الكثير من الثقافات والمفاهيم والأفكار.

غياب الأصالة 

صناعة المحتوى المكتوب دون محاولة السيطرة عليه أو توجهيه ليكون خاضعا لأي قيود خارجية هو المقياس الأساسي للأصالة الذي عرفته روتمان، ورغم ذلك، فإن صناعة محتوى الإنترنت تخضع لقوانين وشروط حتى يصبح المحتوى مناسبا للإنترنت من أجل تحقيق أهدافه المختلفة، سواء كانت تحقيق الانتشار الجماهيري الكاذب أو حتى تحقيق الأرباح عبر جذب الزيارات. 

المحتوى المكتوب عبر الإنترنت أصبح يُصنع من أجل محركات البحث، وذلك حتى تظهر المنصة في الأماكن المختلفة وتتمكن من جذب الزيارات وبالتالي تحقيق الأرباح اللازمة، ومن أجل هذا، تُفرض قوانين صارمة على المحتوى المكتوب يجب أن يلتزم بها، وهي قوانين لا تمتّ للأدب أو الصحافة بصلة، ولأن الهدف الرئيسي من هذا المحتوى هو إرضاء الآلات والخوارزميات، أصبح الذكاء الاصطناعي مثل “ChatGPT” هو النموذج المثالي للاستخدام. 

نماذج الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي ما هي إلا أدوات لإعادة التدوير، إذ تقوم هذه النماذج بقراءة ما كُتب في الإنترنت ثم تُعيد تدويره ليصبح مختلفا قليلا حتى تتمكن من خداع محركات البحث والقراء على حد سواء، وبفضل هذه القدرة، ذهب الكثير من صناع المحتوى عبر الإنترنت وأصحاب الشركات إلى هذه الأدوات، وأصبح من المعتاد أن نرى مقالات مكتوبة بالكامل بالاستناد على الذكاء الاصطناعي. 

موقع “Cnet” قرر الاستفادة من هذه التقنية، وقام بكتابة 77 مقالة باستخدام الذكاء الاصطناعي وتحديدا “ChatGPT”، وهي مقالات موجهة لمحركات البحث في الأساس، وما كان من الموقع إلا التراجع عن ما قام به وإعادة تصحيح المقالات السابقة نتيجةً لوجود الكثير من الأخطاء. 

الكثير من أصحاب المواقع الذين يرغبون في جني الأرباح من الزيارات والإعلانات يتوجهون إلى “ChatGPT” ويطلبون كتابة مقالات بالكامل، وبعض صنّاع المحتوى الذين يدّعون اشتغالهم في الكتابة الصحفية والأدبية يقومون بالأمر ذاته، متناسين أن هذا الروبوت ليس قادرا على بناء محتوى من الصفر وكل ما يقوم به هو إعادة تدوير الموجود في الإنترنت دون أن يكون له وجهة نظر ورأي حقيقي. 

تسخير قوة الذكاء الاصطناعي لصالح المحتوى 

وجود الاستخدامات السيئة للذكاء الاصطناعي في عالم صناعة المحتوى لا يعني أن دخول هذه التقنية سيدمر المحتوى المكتوب والمرئي عبر الإنترنت، ولكنه يعني أننا على أعتاب عصر جديد في عالم صناعة المحتوى، وذلك لأن الذكاء الاصطناعي قادر على اختصار ساعات طويلة يتم إهدارها في البحث عبر الإنترنت أو حتى محاولة صناعة محتوى مرئي عبر من لا يمتلكون خبرة كافية. 

الذكاء الاصطناعي قادر على تزويدك بالمصادر الي تحتاج إليها لتكون وجهة نظر حقيقية وواضحة للمحتوى الذي ترغب فيه، يكفي سؤاله عن مجموعة مصادر حتى يقدم لك آلاف المصادر ويلخّصها في كلمات قليلة، ليترك لصانع المحتوى جهود فهم هذه المصادر وتحويلها إلى محتوى جديد تماما. 

أيضا، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في مونتاج بعض مقاطع الفيديو أو الصوت الي لا تتطلب الكثير من المجهود أو الخبرة، ويمكن لصناع محتوى الفيديو أن يوجه الذكاء الاصطناعي ويطلب منه تحويل المقاطع الى محتوى مكتوب مباشرة بشكل سهل وبسيط وسريع للغاية. 

استخدامات الذكاء الاصطناعي في عالم المحتوى كثيرة ومتنوعة، مثل السكين، فإن بعضها جيد والآخر سيء قد يؤذي عالم المحتوى بالكامل. 

آلة قادرة على التدمير 

صناعة المحتوى عبر الإنترنت ليست مجرد مهنة من أجل تحقيق دخل إضافي، بل هي مكبر صوت ينقل رأيك وخبراتك إلى جميع أنحاء العالم في ثوان معدودة، ولكن الجزء الأهم هو أن تمتلك خبرات ورأي ترغب في نقله إلى العالم. 

الذكاء الاصطناعي لا يمتلك رأياً في القضايا المختلفة، ولذلك فإن كل المحتوى الذي ينتجه سيكون مُحيّدًا دون وجود رأيي حقيقي يقف وراءه، وهذا يعني أنه لا يمكن استخدامه لنشر الآراء المختلفة أو حتى تثقيف من يقف أمامك في محاولة لجعله يحصل على رأي جيد وحقيقي يمكن الاعتماد عليه. 

الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بكثرة في بناء المحتوى عبر الإنترنت يعني أننا سنصل إلى نقطة يختفي معها المحتوى الأصيل، وبعد تجاوز هذه النقطة، فإن جميع المحتوى الذي سينتجه الذكاء الاصطناعي سيكون معاد تدويره من محتوى قديم أنتجه ذكاء صناعي آخر، لنجد أنفسنا أمام دائرة مفرغة من المحتوى المتماهي مع الذكاء الاصطناعي الذي لا يحمل بداخله رأياً حقيقياً. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات