استمع إلى المقال

في باريس، مدينة النور الضاربة في تاريخ السينما، أُطلقت “اليونيسكو” قبل بضعة أيام وتحديدا بتاريخ 19 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، مؤتمر يدعو بشكل عاجل من صناع الأفلام لمواجهة ما يمكن أن يصبح كابوسا حقيقيا في زمننا الحالي، وهو انتشار الذكاء الاصطناعي في عالم السينما.

لعقود عديدة، استحضر صناع الأفلام مستقبلا خياليا يحاكي قدرة التكنولوجيا على استبدالنا بآلات باردة وقوية عبر أفلامها للخيال العلمي؛ والآن، وبينما نجدهم يتطلعون إلى الأفق، يرفعون شعار الإنذار، ويصرخون بصوت عال، إذا لم يتحرك العالم اليوم لتنظيم ورصد استخدام التكنولوجيا، فسيكون عالم السينما والعديد من مجالات الإبداع بأسرها عرضة للاستيلاء عليها من قِبَل الذكاء الاصطناعي.

هذا التقرير هو استكشاف لتلك المخاوف الملحة والآمال المتضاربة التي تم تناولها في المؤتمر، وسنسلط الضوء أيضا على تأثير غزو الذكاء الاصطناعي على عالم السينما، ونتساءل إذا كان التعاون مع هذه التكنولوجيا الصاعدة سيكون إجابة عن هذا الجدل أم سيزيد تعقيده.

مخاوف جوزيف نيكول

في مؤتمر “اليونيسكو” بباريس، قام المخرج جوزيف ماكجينتي نيكول، المعروف بإخراجه لأفلام مشهورة مثل “Charlie’s Angels” و”Terminator Salvation”، برسم رؤية مثيرة تتعلق بمستقبل صناعة السينما، قدم نيكول تحذيرا مروعا بأن مئات الآلاف من الأفراد في صناعة الأفلام، بدءا من الممثلين وصولا إلى كتّاب السيناريو وفناني الرسوم، قد يتم استبدالهم بالذكاء الاصطناعي خلال العقدين القادمين.

هذا التحذير يستند إلى القدرة المتزايدة للذكاء الاصطناعي على محاكاة سلوك البشر وإنتاج أعمال إبداعية بمستوى يجعلها تصعب التمييز عن الأعمال الإنسانية، تظهر أمثلة ملموسة على ذلك، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتعلم من الأعمال الإبداعية السابقة، وينتج محتوى مستقلا، كما توضح تلك الأمثلة كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون منافسا قويا في صناعة الأفلام.

نيكول يؤكد، أن التقدم السريع للذكاء الاصطناعي يجعل من الصعب تمييز الأعمال الفنية التي ينتجها عن الأعمال التي تم إنشاؤها بواسطة مخرجين بشريين مشهورين بإبداعهم، هذا يجعل المشهد أكثر تعقيدا، ويثير مخاوف حقيقية بشأن مستقبل صناعة الأفلام ومكانتها في واحدة من أكثر الصناعات المبتكرة وتأثيرها في مستوى العالم.

الإيجابيات المحتملة

على الرغم من المخاوف الواضحة بشأن دخول الذكاء الاصطناعي في صناعة الأفلام، إلا أن هناك العديد من الأمور المثيرة للاهتمام، كريستوبال فالنزويلا، الرئيس التنفيذي لشركة “Runway” المتخصصة في إنتاج مقاطع الفيديو باستخدام الذكاء الاصطناعي، يشير إلى أن هذه التقنية تمثل أداة ثورية ستقوم بدمرقط صناعة الأفلام عبر تسريع عمليات الإنتاج وتبسيطها، مما يفتح الباب أمام فرص جديدة للأفراد الموهوبين دون الحاجة إلى معدات باهظة الثمن.

الذكاء الاصطناعي وصناعة الأفلام

مثال على ذلك، تم استخدام تكنولوجيا “Runway” في إنتاج فيلم حاز على جائزة الأوسكار “Everything, Everywhere All at Once”، هذا الفيلم هو مثال على كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد على تحقيق إنجازات فنية رائعة دون تكلفة ضخمة.

فالنزويلا يرى، أن هذا التقدم سيسهم في توسيع قاعدة مبدعي الأفلام، حيث يمكن للأشخاص الموهوبين والمبتكرين الاعتماد على هواتفهم الذكية وتقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج أعمال فنية مذهلة ومحتوى مميز، هذا النهج قد يكون مشابها لكيفية قبول الكاميرا في السينما في القرن التاسع عشر، حيث اعتُبِرت في البداية تهديدا للفن التقليدي، لكنها في النهاية ساهمت في خلق شكل جديد من الفن، وغيّرت العالم من خلال التفاعل الإبداعي معها.

مخاوف “هوليوود”

على الرغم من التطلعات الإيجابية نحو دور الذكاء الاصطناعي في صناعة الأفلام، إلا أن العديد من الشخصيات والمؤثرين في هوليوود يشعرون بالارتياب العميق تجاه هذه الرؤية الإيجابية، تشهد نقابة الممثلين SAG-AFTRA إضرابا طويل الأمد يعتبر الأطول في تاريخها، وهذا ما يؤثر في إنتاج الأفلام والتلفزيون.

إحدى المخاوف الرئيسية تتعلق بملكية مظهر الممثل إذا تم استنساخه بواسطة الذكاء الاصطناعي، كما قام كتّاب السيناريو بإيقاف العمل لعدة أشهر في هذا العام قبل أن يتوصلوا إلى اتفاق مع الاستوديوهات.

دانكن كرابتري-إيرلاند، المفاوض الرئيسي لنقابة SAG-AFTRA، أقر بأن الذكاء الاصطناعي حقيقة ثابتة، ولكنه أشار أيضا إلى وجود مخاوف عميقة من أنه يمكن أن يتم استغلاله من قبل رؤساء الاستوديو والشركات القوية الباحثة عن تحقيق أرباح أكبر من خلال تقليل التكاليف.

كرابتري-إيرلاند قال، “يمكن التعامل مع مثل هذه المخاوف من خلال اتفاق عادل يتعلق بموافقة واضحة وتعويض مالي، كل ممثل لديه وجه واحد فقط وصوت واحد فقط، إذا كانت الشركات تمتلك حرية تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي على تلك الوجوه والأصوات، فإن مسار مهنة الممثل قد ينتهي بشكل محتمل، نحن لن ندعم وقف أو حظر استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة الترفيه، ولكننا نعتقد أيضا أنه يجب على الشركات التي تستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أن تكون ملزمة بتأمين موافقة من أي أفراد يتم استنساخ أدائهم أو مظهرهم أو خاصيتهم التجارية، وتعويض تلك الأفراد بشكل عادل”.

السرقة الأدبية

أحد الأسباب الأخرى التي تجعل صناع الأفلام يترددون في استخدام التكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يعود إلى المخاوف المتعلقة بالسرقة الأدبية، صرحت سارة ديرينج من الجمعية الدولية لنقابات كتاب السيناريو بأن الكتاب المحترفين يشعرون بالقلق إزاء حقوق الطبع والنشر، ولديهم أيضا اعتراض أخلاقي على استخدام الأعمال الأصلية التي قامت شركات الذكاء الاصطناعي باستخدامها دون إذن.

الذكاء الاصطناعي وصناعة الأفلام

ديرينج أوضحت قائلة، “أعتقد أنه يجب أن يتم طلب موافقة الكتاب والفنانين الآخرين على تقديم موادهم لبرامج الذكاء الاصطناعي الإنتاجية، نعتقد أن التعامل بسلبية ليس حلا صحيحا، من الناحية الفنية، لذا نود أن نرى ترخيص واستخدام المواد الفنية التي تحظى بموافقة الكاتب أو الفنان في برنامج الذكاء الاصطناعي”.

مؤيدو الذكاء الاصطناعي يجادلون بأن ذلك قد يؤدي إلى مكاسب إنتاجية هائلة، مما يقلل من الحاجة إلى إعادة تصوير المشاهد وتولي مهام الروتينية الأكثر تفصيلا.

يفون مويندي، فنانة تأثيرات بصرية مقيمة في كينيا، وعملت على أفلام مثل “Avatar” و “The Hobbit” و “Planet of the Apes”، أوضحت قائلة إن الذكاء الاصطناعي قد يكون مساعدا لمن لديهم خبرة واسعة مثلها، إلا أنها تشعر بالقلق من أنه يمكن أن يعيق مسار حياة الأشخاص الذين يبدأون فقط في هذا المجال.

مويندي أضافت، “لن يكون لدي مانع من تغيير الأمور المملة التي يجب عليّ القيام بها بشكل تلقائي؛ ولكن في الوقت ذاته، العمل والتعلم من خلال هذه الأنشطة والأدوات هو ما يمنحك الخبرة والتخصص فيما بعد، إنها الرحلة من خلال العمل الشاق التي تجعلك تصل إلى المكان الذي أنت عليه الآن، لذلك أشعر بالقلق جدا بالنسبة للفنانين المبتدئين الذين يعتمدون فقط على الضغط على زر لإنشاء فكرة بدلا من التحدث مع الآخرين لمعرفة كيفية تطوير فكرة”.

من المسؤول؟

هل يمكن للمخرجين والممثلين والكتاب والموسيقيين الحفاظ على دورهم الإبداعي في عالم مهيمن عليه الآلات، هل يمكن للجمهور الاستمتاع بالأفلام التي تنتجها البرامج الذكية، هل يمكن للتعاون بين البشر والذكاء الاصطناعي أن يخلق عملا فنيا رائعا.

لا توجد إجابة واضحة على هذه الأسئلة، لكن يمكننا أن نستكشف السيناريوهات المحتملة والآثار المترتبة على صناعة الأفلام والثقافة البشرية، في هذا التقرير، قدمنا بعض الأمثلة والحجج لبعض الشخصيات المؤيدة والمعارضة لدور التكنولوجيا في صناعة الأفلام.

إحدى التوصيات لحماية حقوق ووظائف العاملين في هذا المجال من التهديدات المحتملة للذكاء الاصطناعي، هي تشجيع التعاون بين البشر والذكاء الاصطناعي في صناعة الأفلام، بدلا من مواجهته أو استبداله، نعتقد أن هذا التعاون يمكن أن يؤدي إلى نتائج إبداعية وابتكارية تفوق ما يمكن تحقيقه بشكل منفصل، كما نعتقد أن هذا التعاون يمكن أن يزيد التفاعل والانسجام بين البشر والآلات، وأن يخدم مصالح الإنسانية بشكل عام.

لكن هذا التعاون لا يمكن أن يتحقق دون تدخل وتنظيم من قبل الحكومات والمؤسسات الدولية، فهذه الجهات لها دور حاسم في وضع المعايير والقوانين والسياسات التي تضمن احترام حقوق المؤلف والخصوصية والأخلاق في استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في صناعة الأفلام، كما لها دور مهم في دعم وتمويل البحوث والتعليم والتدريب في هذا المجال.

هناك الكثير من المخاوف المتعلقة بالتأثير السلبي للتكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكل عام، فإن الحكومات لم تقم بالكثير لتنظيمها، وقد أشار دانكن كرابتري-آيرلند إلى أن الوقت ينفد لحماية الوظائف من التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكن إذا تعاون قادة العالم الآن لاتخاذ إجراءات، يمكنهم إنقاذ عالم الإبداع البشري.

ليس من العادل أن يحمل العمال البشريون على عاتقهم معركة التصدي لهذه المشكلة بمفردهم، سيكون القوانين العابرة للحدود والتي تتخذها المشرعون المبادرين في وضع حمايات قابلة للتنفيذ أبطال العقود القادمة، لا بد للحكومات والمؤسسات أن تلعب دور قويا للجم وكبح ثورة الذكاء الاصطناعي وتوجيهها للمسار الصحيح عبر القوانين المحكمة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات