استمع إلى المقال

في أعماق ذاكرة البشرية العريقة ينبض حلم قديم وراء الستار، حلم يعكس رغبة الإنسان في الوصول إلى مستويات جديدة من التواصل والتفاعل، إنه حلم قراءة الأفكار، ماذا لو كان بإمكاني معرفة ما يدور في عقول الآخرين؟ ماذا لو أمكنني فهم أفكارهم وأحلامهم، دون أن يتطلب الأمر أي كلمة مرفقة بشفاههم؟ حلم قديم، امتزجت فيه الأساطير والخيال، ويبدو بالنسبة للكثيرين كشكل آخر من أشكال السحر الذي لن يكون ممكنا يوما ما.

ولكن هنا، في عصرنا الحالي الذي تتسابق فيه التكنولوجيا إلى أبعد الحدود، وتزدهر الأحلام القديمة، وتتحقق في أشكال لم نكن نتخيلها في الماضي، ويأخذان نحو الجوانب الخفية من وعينا وتفكيرنا، فمن خلال الاستشعارات الحسية والتحليلات المعقدة، يبحث العلماء عن وسائل لقراءة الأفكار وترميزها بشكل مفهومٍ دقيق، قد يتمثل ذلك في طرق متنوعة، مثل زرع أجهزة صغيرة في الدماغ تقوم بتسجيل الإشارات العصبية وتحويلها إلى معلومات قابلة للفهم، أو استخدام الأطوار الحديثة من التصوير بالرنين المغناطيسي لمسح أنشطة الدماغ وتفسيرها.

فهل نشهد اقترابا من تحقيق حلم قراءة الأفكار بفضل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، هل سيصبح لدينا القدرة على فهم ما يدور في عقول الآخرين بدقة شبه متناهية، هل ستنقلنا التكنولوجيا إلى عالم لا تُعتبر فيه الأفكار سرا داخليا، بل سلعة يمكن تداولها بين الأجهزة، دعونا نسافر معا إلى عالم الأحلام والتكنولوجيا، حيث تتقاطع الخيال والواقع لنبحث في إمكانية تحقيق حلم البشرية في قراءة الأفكار.

“ميتا” تقرأ العقول باستخدام الذكاء الاصطناعي

في عالم الحواسيب وواجهات التواصل، نجد أنفسنا على أبواب مستقبل قد نتجاوز فيه الواجهات التقليدية مثل اللمس ولوحات المفاتيح، حتى يتعدى الأمر مراقبة حركات الأعين واليد، ليتجه نحو عالم أعمق داخل عقولنا، وعلى الرغم من أن المجتمع لم يصل بعد إلى تلك المرحلة، إلا أننا نقترب منها بسرعة، باحثون في شركة “ميتا”، المالكة لمنصات مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” و”واتساب” و”Oculus” في طريقهم لتحقيق هذا الحلم، وقد أعلنوا عن تطبيق جديد يدعى “مفكرة الصور” (Image Decoder)، وهو تطبيق تعلم عميق يعتمد على نموذجهم المفتوح المصدر “DINOv2“، هذا التطبيق يمتلك القدرة على ترجمة نشاط الدماغ إلى صور دقيقة تُظهر ما ينظر إليه الشخص أو ما يفكر به تقريبا في الوقت الفعلي.

بمعنى آخر، إذا كان باحثا من “ميتا” جالسا في غرفة ومنع من رؤية الشخص الآخر، حتى وإن كان الشخص الآخر في نقطة أخرى من العالم، فإن “مفكرة الصور” ستمكن الباحث من رؤية ما ينظر إليه الشخص الآخر أو ما يتخيله، استنادا إلى نشاط دماغه، طالما كان الشخص الآخر في مرفق للتصوير العصبي، ويخضع لفحص من آلة تخطيط مغناطيسية الدماغ “MEG”.

يصف الباحثون، الذين يعملون في مختبر بحث الذكاء الاصطناعي التابع لـ “فيسبوك” Facebook Artificial Intelligence Research (FAIR) وجامعة “PSL” في باريس، تفاصيل أعمالهم ونظام “مفكرة الصور” بمزيد من التفصيل في ورقة بحثية جديدة.

من خلال هذا البحث، تقوي شركة “ميتا” مبادرتها البحثية الطويلة الأمد لفهم أسس الذكاء البشري، والتعرف على تشابهاته واختلافاته مقارنة بخوارزميات تعلم الآلة الحالية، بهدف بناء نظم ذكاء اصطناعي تمتلك القدرة على التعلم والاستدلال بشكل مشابه للبشر.

كيف يعمل جهاز فك الصور في “ميتا”؟

في بحثهم، يصف الباحثون في “ميتا” تكنولوجيا جهاز فك الصور، هذه التكنولوجيا تجمع بين ميادين مختلفة، كانت تاريخيا مبعثرة، تعلم الآلة، وبالتحديد التعلم العميق، حيث يتعلم الكمبيوتر من خلال تحليل البيانات المصنفة ثم فحص البيانات الجديدة ومحاولة تصنيفها بشكل صحيح، والمجال الآخر هو مجال تخطيط مغناطيسية الدماغ (MEG)، وهو نظام يقيس ويسجل نشاط الدماغ بطريقة غير تداخلية، خارج الجمجمة، باستخدام أجهزة تلتقط التغييرات الطفيفة في الحقول المغناطيسية للدماغ أثناء تفكير الشخص.

باحثو “ميتا” قاموا بتدريب خوارزمية تعلم عميق على 63 ألف نتيجة “MEG” سابقة من أربعة مرضى (اثنين من الإناث واثنين من الذكور، متوسط أعمارهم 23 عاما) عبر 12 جلسة، حيث شاهد المرضى 22,448 صورة فريدة و200 صورة مكررة من تلك الأصلية.

فريق “ميتا” استخدم نموذج التعلم الذاتي “DINOv2“، الذي تم تصميمه لتدريب نماذج أخرى، وتم تدريبه بدوره على مناظر من غابات أميركا الشمالية، والذي تم نشره علنيا من قبل ميتا في نيسان/أبريل 2023.

الباحثون حددوا الخوارزمية لجهاز فك الصور لفحص البيانات الخام والصورة الفعلية لما كان الشخص يراه عندما كان دماغه ينتج نشاط “MEG”، وبهذه الطريقة، من خلال مقارنة بيانات “MEG” بالصورة الأصلية، تعلمت الخوارزمية كيفية فك تشفير الأشكال والألوان المحددة التي يمثلها الدماغ وكيفية ذلك.

نتائج واعدة، ولكن

في النهاية، يظهر لنا هذا البحث الجديد في مجال فك تشفير الأفكار والصور على الدماغ نافذة واعدة نحو المستقبل، بالرغم من أن نظام فك التشفير الصوري ليس مثاليا، إلا أنه قد حقق نجاحا ملحوظا بتحقيق دقة تصل إلى 70 بالمئة في الحالات ذات الأداء العالي، ويمكن لهذا النجاح أن يعزز الأبحاث في مجال فهم العقل البشري والتفاعل بين الصور والأفكار.

مع ذلك، ينبغي لنا أن نأخذ في الاعتبار العديد من الاعتبارات الأخلاقية التي طرحها الباحثون، من بين هذه الاعتبارات، نجد ضرورة الحفاظ على خصوصية الذهن، وهو أمر يتطلب وضع إجراءات وآليات لضمان أن هذه التكنولوجيا لا تتجاوز حدود الاحترام والخصوصية الفردية.

علاوة على ذلك، يجب أن ننتبه إلى تمويل هذا العمل من قبل شركة تم تغريمها بمليارات الدولارات بسبب انتهاك خصوصية المستهلكين، وينبغي أن نتأكد من أن هذه التكنولوجيا لا تستخدم بطرق تنتهك خصوصية الأفراد، أو تستغلها بأي شكل من الأشكال.

إضافة إلى أن هناك قيودا تقنية تمنع حاليا استخدام هذه التكنولوجيا لقراءة أفكار الأشخاص دون موافقتهم؛ ومع ذلك، يجب أن نكون حذرين، ونضمن أن الموافقة الواضحة والمطلوبة من الأفراد تكون متوفرة قبل استخدام هذه التقنية في فك شفرة أنشطة دماغهم.

باختصار، على الرغم من وجود نتائج واعدة في تطوير نظام “مفكرة الصور”، يجب أن نواصل مناقشة الأبعاد الأخلاقية المرتبطة بهذه التكنولوجيا ونعمل على وضع إطار قانوني وأخلاقي يحمي خصوصية الأفراد، ويضمن استخدامها المسؤول والمشروع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات