استمع إلى المقال

شركة “نوكيا” الفنلندية هي شركة غنية عن التعريف فهي واحدة من أشهر وأحب الشركات في العالم، اشتهرت بإنتاج الهواتف المحمولة والشبكات والخدمات الرقمية، لكن قبل أن تصبح “نوكيا” بهذه الصورة، كانت تمارس أنشطة مختلفة في مجالات الورق والمطاط والكابلات.

تاريخ “نوكيا” بدأ في عام 1865، عندما أسس المهندس فريدريك إيدستام مصنعا للبّ على ضفاف نهر تامركوسكي في بلدة تامبري، جنوب غرب فنلندا في عام 1898، انضم إليه رجل الأعمال ليو ميشيلين، وأسس شركة الصناعات المطاطية الفنلندية المحدودة، التي بدأت بإنتاج الأحذية والإطارات وغيرها من المنتجات المطاطية في عام 1912، وأيضا تم تأسيس شركة لصناعة الكابلات الفنلندية المحدودة، التي اختصت بإنتاج الأسلاك والكابلات الكهربائية.

في عام 1967، اندمجت هذه الشركات الثلاث تحت اسم “نوكيا”، وبدأت بالتوسع في مجالات جديدة مثل الإلكترونيات والاتصالات، في أواخر الثمانينات أصبح قسم الاتصالات هو الأهم في الشركة، وأطلقت أول هاتف محمول لها في تسعينات القرن الماضي هو موديل “نوكيا 1011″، الذي أُطلق عام 1992، وكان يعتبر واحدا من أوائل الهواتف المحمولة التي تم تصنيعها بواسطة الشركة.

نوكيا 1011

هاتف “نوكيا 1011” اعتبر نقلة هامة في صناعة الهواتف المحمولة، حيث كان يتميز بحجمه الصغير وخفة وزنه بالمقارنة مع الموديلات السابقة، وقد حقق الهاتف نجاحا تجاريا واسعا، وساهم في إرساء مكانة “نوكيا” كشركة رائدة في صناعة الهواتف المحمولة.

“نوكيا” شهدت نموا مذهلا في سوق الهواتف المحمولة، حيث ابتكرت أجهزة ذات تصاميم جديدة ومزايا متقدمة، كانت أول شركة تطلق هاتفا يعمل بتقنية “GSM” (نظام الاتصالات المتحركة العالمية)، وهي تقنية الجيل الثاني للهواتف المحمولة، تم إطلاق هاتف “نوكيا 101” في عام 1992، وهو أول هاتف يعمل بتقنية “GSM” في العالم، كما أنها أول من أطلقت هاتفا يستخدم خدمة “SMS” (الرسائل القصيرة) في عام 1993، و كانت “نوكيا” أول من أطلقت هاتفا يحتوي على كاميرا عام 2002، وأول من أطلقت هاتفا يعمل بشبكة “UMTS” (الجيل الثالث) في عام 2003.

بفضل هذه الابتكارات والجودة العالية، أصبحت شركة “نوكيا” أكبر بائع للهواتف المحمولة في العالم من عام 1998 إلى عام 2012، وحققت أرباحا ضخمة وشهرة واسعة، حيث كانت الشركة تمثل رمزا للتفوق التكنولوجي والنجاح التجاري في فنلندا والعالم.

ابتكارات “نوكيا” والتفوق التكنولوجي

“نوكيا” كانت دائما سباقة في مجال الابتكار والتكنولوجيا، وذلك بفضل استثمارها في البحث والتطوير والمشاركة في وضع المعايير العالمية والتعاون مع الشركاء في النظام الإيكولوجي.

في عام 1925، أنشأت شركة “نوكيا” أول مختبر لها لإجراء التجارب اللاسلكية، وفي عام 1947، اخترعت أول جهاز للاتصالات المحمولة في فنلندا، وفي عام 1960، أطلقت الشركة أول جهاز تلفزيون لها، وفي عام 1979، شاركت في تأسيس شركة موبيرا، التي صنعت أول هاتف سيارة في العالم.

في التسعينات، قامت شركة “نوكيا” بإطلاق سلسلة من الهواتف المبتكرة والمميزة، مثل “نوكيا 2110″، الذي كان أول هاتف يستخدم خدمة SMS (الرسائل القصيرة)، و”نوكيا 8110″، وهو أول هاتف به شكل منحنٍ وغطاء قابل للانزلاق، و”نوكيا 3210″، كأول هاتف يحتوي على لعبة ثعبان (Snake)، كما قامت الشركة بإطلاق نظام تشغيل “Symbian OS” للهواتف الذكية في عام 1998، وأطلقت سلسلة “نوكيا Communicator”، التي كانت تجمع بين الهاتف والحاسوب الشخصي.

في بداية الألفية الجديدة، استمرت شركة “نوكيا” في ابتكار منتجات جديدة وخدمات رقمية، مثل نظام تشغيل “Maemo” لأجهزة إنترنت الجيب (Internet Tablet) في عام 2005، وخدمة “Ovi Store” لتحميل التطبيقات والألعاب والمحتوى في عام 2009، وكما قامت الشركة بإطلاق أول هاتف يحتوي على كاميرا في عام 2002 (نوكيا 7650)، وأول هاتف يعمل بشبكة “UMTS” (الجيل الثالث) في عام 2003 (نوكيا 6650)، وأول هاتف يحتوي على كاميرا بدقة 41 ميجابكسل في عام 2012 (نوكيا 808 PureView).

بهذه الابتكارات وغيرها، تمكنت “نوكيا” من تحقيق التفوق التكنولوجي والريادة في صناعة الهواتف المحمولة، وحصلت على العديد من الجوائز والبراءات والاعترافات، كما ساهمت في تطوير المعايير العالمية للاتصالات، مثل “GSM” و”UMTS” و”LTE” و”5G”، وشاركت في مشاريع بحثية مهمة، مثل مشروع إنترنت الأشياء (IoT) ومشروع الحوسبة السحابية (Cloud Computing).

تحول الاتجاهات التكنولوجية

صناعة الهواتف الذكية هي صناعة حيوية ومتغيرة باستمرار، تتأثر بالعديد من العوامل مثل التطور التكنولوجي والمنافسة الشديدة والطلب المتزايد والتفضيلات المتباينة للمستهلكين، في السنوات الأخيرة شهدت صناعة الهواتف الذكية تغييرات كبيرة فيما يتعلق بالموردين والمنتجات والخدمات والشبكات.

من حيث الموردين، فقد تغير ترتيب الشركات الرائدة في سوق الهواتف الذكية على نحو ظاهر، حيث ظهرت شركات جديدة من آسيا مثل “شاومي” و”أوبو” و”فيفو” و”ريلمي” “هواوي”، وانخفضت حصة شركات أخرى مثل “نوكيا” و”إل جي” و”سوني”، وكذلك ازداد التنوع في عروض الموردين، حيث بدأت بعض الشركات بإطلاق هواتف قابلة للطي أو قابلة للانزلاق أو مزودة بشاشات عرض ثانوية أو كاميرات مخفية.

من حيث المنتجات، فقد شهدت صناعة الهواتف الذكية تطورا كبيرا في مزايا الأجهزة والبرمجيات، مثل تحسين جودة الشاشة والصوت والبطارية والذاكرة والمعالج والكاميرا، كما شهدت صناعة الهواتف الذكية أيضا ازدهارا في خدمات التطبيقات والألعاب والإعلام والتجارة والصحة والتعليم وغيرها، التي تزيد من قيمة الأجهزة للمستخدمين.

من حيث الشبكات، فقد شهدت صناعة الهواتف الذكية انتقالا من شبكات الجيل الرابع “4G” إلى شبكات الجيل الخامس “5G”، التي توفر سرعة أعلى وانخفاضا في التأخير وزيادة في سعة التحميل، كما شهدت صناعة الهواتف الذكية تحولا نحو استخدام تقنيات جديدة مثل إنترنت الأشياء (IoT) والحوسبة السحابية (Cloud Computing) والذكاء الاصطناعي.

هذه التغيرات والتحولات تشكل تحديات وفرصا لصناعة الهواتف الذكية، حيث تتطلب من الشركات مواكبة التطورات التكنولوجية وتلبية احتياجات وتوقعات المستهلكين والتميز عن المنافسين.

استراتيجية “نوكيا” وتدهور نموها

مع تغيرات صناعة الهواتف الذكية وتحول الاتجاهات التكنولوجية، واجهت شركة “نوكيا” تحديات كبيرة في الحفاظ على مكانتها الرائدة في السوق، وفشلت في تطوير استراتيجية فعالة لمواجهة المنافسة والابتكار.

أحد أبرز التحديات التي واجهت الشركة كان دخول شركة “أبل” إلى سوق الهواتف الذكية في عام 2007، بإطلاق هاتف “آي فون”، الذي قدم تجربة مستخدم جديدة ومبتكرة، تعتمد على شاشة لمسية كبيرة ونظام تشغيل “iOS” ومتجر تطبيقات “آب ستور”، كما دخلت شركة “جوجل” إلى سوق الهواتف الذكية في عام 2008، بإطلاق نظام تشغيل “أندرويد”، الذي قدم منصة مفتوحة المصدر ومرنة للمطورين والشركاء، ومتجر تطبيقات “جوجل بلاي”.

هذان الشريكان الجديدان أحدثا ثورة في صناعة الهواتف الذكية، حيث انتقل التنافس من المنتجات إلى المنصات، وزاد الطلب على التطبيقات والخدمات الرقمية، هذا التغير أثر سلبا على استراتيجية “نوكيا”، التي كانت تعتمد بشكل رئيسي على نظام تشغيل “سيمبيان” (Symbian)، الذي كان بطيئا ومعقّدا وغير جذاب للمستخدمين والمطورين.

شركة “نوكيا” فشلت في ملاحظة هذه التغيرات في بداية المرحلة، وظلت مستمرة في إطلاق هواتف ذات مزايا محسَّنة، لكن دون تغيير جذري في التصميم أو التجربة، كما فشلت أيضا في اختيار شريك مناسب للانضمام إلى منصة أخرى، حيث رفضت التعاون مع “جوجل” لإطلاق هواتف “أندرويد”، وأبرمت اتفاقية مع “مايكروسوفت” لإطلاق هواتف “ويندوز فون” (Windows Phone)، التي لم تحظَ بقبولٍ كبير من السوق.

ويندوز فون جهاز نوكيا
نظام ويندوز فون لأجهزة نوكيا

هذه الخطوات الخاطئة أدت إلى تراجع نمو “نوكيا” في سوق الهواتف الذكية، وتراجع حصتها السوقية بحسب موقع الإحصائيات “statista” من 38.6 بالمئة في عام 2007 إلى 3.1 بالمئة في عام 2013، كما أدت إلى خسارة الشركة للعديد من المواهب والموارد والثقة والسمعة.

انحدار “نوكيا” في سوق الهواتف

بعد أن كانت “نوكيا” أكبر شركة لصناعة الهواتف المحمولة في العالم حتى عام 2011، خسرت المركز الأول لصالح “سامسونج”، التي استطاعت تقديم هواتف ذكية تعمل بنظام “أندرويد” وتلبي احتياجات ورغبات المستهلكين كما خسرت “نوكيا” حصتها من سوق بنية تحتية مزودي خدمة الشبكة، التي كانت تشكل جزءا كبيرا من دخلها، بسبب المنافسة الشديدة من شركات أخرى مثل “هواوي” و”إريكسون”.

مبيعات “نوكيا” أيضا انخفضت من 42.45 مليار يورو في عام 2010 إلى 21.85 مليار يورو في عام 2020، بانخفاض قدره 48.5 بالمئة، انخفضت حصة “نوكيا” من سوق الهواتف المحمولة من حوالي 40 بالمئة في عام 2008 إلى أقل من 4 بالمئة في عام 2020، بانخفاض قدره 90 بالمئة.

مبيعات نوكيا
صافي مبيعات نوكيا في جميع أنحاء العالم من 1999 إلى 2022 – المصدر: statista

هذا التدهور في أداء “نوكيا” يعكس فشلها في التأقلم مع تغيرات صناعة الهواتف الذكية والابتعاد عن رؤيتها ومهمتها وقيمها، كما يعكس فشلها في استغلال قدراتها ومزاياها التنافسية والابتكارية، التي كانت تميزها في الماضي.

إن انحدار “نوكيا” في سوق الهواتف وتراجع حصتها السوقية هو نتيجة لسلسلة من الأخطاء الاستراتيجية والإدارية والتسويقية.

استعادة الأمجاد

بعد أن تراجعت “نوكيا” في سوق الهواتف، وخسرت حصتها السوقية، لم تستسلم الشركة للهزيمة، بل قامت بمحاولات عدة للعودة واستعادة مكانتها في صناعة الهواتف، بعض هذه المحاولات هي.

بيع قسم الأجهزة المحمولة إلى مايكروسوفت

في عام 2013، قامت “نوكيا” ببيع قسم الأجهزة المحمولة إلى مايكروسوفت بمبلغ 7.2 مليار دولار، في محاولة للتخلص من الخسائر والديون والتركيز على قطاعات أخرى مثل الشبكات والخدمات، هذه الصفقة أنهت علاقة “نوكيا” بنظام تشغيل “ويندوز فون”، الذي لم يحقق النجاح المطلوب في سوق الهواتف الذكية.

إطلاق هواتف جديدة تحمل علامة “نوكيا”

في عام 2016، أبرمت “نوكيا” اتفاقية مع شركة “HMD Global”، التي تأسست من قبل مديرين سابقين في “نوكيا”، لإطلاق هواتف جديدة تحمل علامة الشركة، هذه الهواتف تعمل بنظام تشغيل “أندرويد”، وتستهدف فئات مختلفة من المستخدمين، من الأساسية إلى المتطورة، كما تحافظ هذه الهواتف على بعض خصائص “نوكيا” التقليدية، مثل التصميم الجذاب والجودة العالية والبطارية الطويلة.

تطوير قطاع الشبكات والخدمات

في عام 2016، قامت شركة “نوكيا” بالاستحواذ على شركة “ألكاتيل-لوسنت” (Alcatel-Lucent)، وهي شركة فرنسية-أميركية تعمل في مجال الشبكات والاتصالات، هذه الصفقة كانت جزءا من استراتيجية الشركة لتطوير قطاع الشبكات والخدمات، وزيادة حصتها في سوق بنية تحتية مزودي خدمة الشبكة، كما قامت “نوكيا” بإطلاق خدمات جديدة في مجالات مثل الحوسبة السحابية (Cloud Computing) والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء (IoT) والواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR).

المشاركة في تطوير شبكات الجيل الخامس

في عام 2018، قامت “نوكيا” بإطلاق منصة “Nokia 5G Future X”، وهي منصة تهدف إلى توفير حلول شاملة لبناء شبكات الجيل الخامس، التي توفر سرعة أعلى وانخفاض في التأخير وزيادة في سعة التحميل، كما قامت الشركة بالتعاون مع عدة شركات ومؤسسات لاختبار وتطبيق شبكات الجيل الخامس في مجالات مثل الصحة والتعليم والصناعة والزراعة.

هذه المحاولات تظهر أن “نوكيا” لم تستسلم للهزيمة، بل حاولت استغلال قدراتها وخبراتها وشراكاتها للعودة واستعادة مكانتها في صناعة الهواتف، لكن هل كانت هذه المحاولات كافية وناجحة، وما هي فرص نجاح “نوكيا” في السوق الحالية ومستقبلها المحتمل، سنقيم ذلك في المحور الأخير.

فرص نجاح “نوكيا”

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن شركة “نوكيا” واجهت وما زالت تواجه تحديات كبيرة في استعادة مكانتها في صناعة الهواتف، التي تشهد تغيرات سريعة ومنافسة شرسة، لكن يمكن أيضا القول إن الشركة تمتلك فرصا وإمكانات للعودة والنجاح، إذا استطاعت تطوير استراتيجية واضحة ومتكاملة تستند إلى قوتها وخبرتها وابتكارها.

من جهة، يجب على “نوكيا” تحسين أدائها في سوق الهواتف الذكية، التي تشكل جزءا كبيرا من الطلب على الاتصالات والتكنولوجيا؛ لذلك، يجب على الشركة تقديم هواتف ذكية تتميز بالجودة والتصميم والسعر والخدمة، وتلبي احتياجات وتوقعات المستخدمين في مختلف الأسواق والفئات، كما يجب أن تعمل على تطوير منصة قوية للبرمجيات والتطبيقات والخدمات الرقمية، تضاف إلى منصة “أندرويد” التي تستخدمها، وتزيد من قيمة هواتفها للمستخدمين؛ بالإضافة إلى كل ذلك، يجب على “نوكيا” تعزيز استراتيجيات التسويق والعلامة التجارية، لإعادة بناء ثقة المستهلكين والشركاء في منتجاتها وخدماتها.

من جهة أخرى، يجب على “نوكيا” استغلال قدراتها في سوق بنية تحتية مزودي خدمة الشبكة، التي تشكل جزءا مهما من دخلها وسمعتها؛ لذلك، يجب عليها مواصلة تطوير حلول شاملة لبناء شبكات الجيل الخامس، التي تعد المستقبل للاتصالات والتكنولوجيا، كما يجب التعاون مع شركات ومؤسسات مختلفة لإثبات قدرتها على دعم مشاريع مبتكرة في مجالات مثل الصحة والتعليم والصناعة والزراعة.

في الختام، يمكن القول إن “نوكيا” تمر بمرحلة حرجة في تاريخها، حيث تحتاج إلى إثبات قدرتها على التجديد والتأقلم مع التغيرات التي تحدث في صناعة الهواتف، لكن يمكننا القول بثقة إن “نوكيا” تملك موارد وخبرات وشراكات تمكّنها من العودة والنجاح، إذا استطاعت تطوير رؤية ورسالة وقيمة واضحة لمستقبلها، نأمل أن تستطيع في استعادة مجدها السابق، والمساهمة في تطور الاتصالات والتكنولوجيا في العالم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات