استمع إلى المقال

في عام 1994، نشر بيل جيتس الرئيس التنفيذي لشركة “مايكروسوفت” التي كانت وما زالت رائدة في مجال الحواسيب الشخصية صورة له في أحد الغابات وهو يمسك بقرص ضوئي “CD” في يده، وفي الناحية الأخرى يقف إلى جواره جبل مكون من 330 ألف ورقة. 

المغزى من هذه الصورة، كان تشجيعا على تبني تقنية الأقراص الضوئية التي كانت تقنية ناشئة في وقتها، وذلك من أجل حماية الغابات ومنع قطع الأشجار التي كانت تصنع منها الأوراق، ورغم أن الرسالة التي تنقلها الصورة تبدو بديهية بالنسبة لنا في العصر الحالي، إلا أن وقتها، كانت ثوريّة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وربما كانت سببا في انتقال الكثيرين لاستخدام الأقراص الضوئية بدلا من الأوراق المعتادة. 

إيمان بيل جيتس و”مايكروسوفت” تباعا بتقنية الأقراص الضوئية ساهم في نشرها بشكل كبير وجعلها رائجة بين المستخدمين حتى أصبحت الوضع الافتراضي، والآن، تستعد “مايكروسوفت” لتقديم تقنية تخزين ثورية جديدة قد تحل محل الاقراص الضوئية والصلبة معا، ولكن ما هي هذه التقنية، وما هو مشروع سيليكا. 

التخزين على الزجاج 

جوهر مشروع سيليكا الجديد الذي تقدمه “مايكروسوفت” هو القدرة على تخزين كميات كبيرة من البيانات والمعلومات على قطع زجاجية صغيرة لا تزيد سماكتها عن 2 ملم ومساحتها 75 ملم، هذا الحجم الصغير للغاية يمثل حجم قواعد أكواب القهوة التي تضعها على المكتب، ورغم هذا، فإن القطعة الصغيرة هذه قادرة على تخزين بيانات حتى 7 تيرابايت لمدة تزيد عن 10 آلاف عام. 

الطريقة التي تعمل بها هذه التقنية تعتمد بشكل رئيسي على شعاع ليزر يمكن التحكم في شدته وشدة نبضاته، وذلك من أجل حفر أخاديد ونقاط على سطح الزجاج تدعى “فوكسل”، وعبر تغيير شدة النبضة ومواصفات شعاع الليزر بشكل عام، يتم حفر مجموعات مختلفة المواصفات من الفوكسل، ويمكن بالطبع استخدام الليزر لحفر طبقات كاملة من الفوكسل عبر التحكم في البعد البؤري لشعاع الليزر، وذلك دون أن تختلط الطبقات مع بعضها البعض أو تؤثر على البيانات المخزنة فيها، لذلك، فإن قطعة الزجاج التي يبلغ سمكها 2 ملم قادرة على استيعاب 100 طبقة من الفوكسل.

مقطع فيديو من “مايكروسوفت” يظهر طريقة الكتابة على قطع الزجاج

لاحقا، يتم قراءة البيانات المخزنة في القرص الزجاجي عبر خواص الضوء المنعكسة من كل فوكسل، إذ طالما كان شكل الفوكسل فريدا من نوعه، فإن الضوء المنعكس منها سيكون فريدا من نوعه أيضا، وعبر مجهر خاص يتم التقاط الضوء المنعكس واستخدام الذكاء الاصطناعي من أجل ترجمته إلى اليبانات التي يمكننا التعرف عليها وقرائتها. 

بالطبع تبدو العملية معقدة أكثر من اللازم وأقرب إلى أفلام الخيال العلمي، ولكن في جوهرها، لا تختلف أبدا عن عملية تخزين البيانات في الأقراص الضوئية أو الصلبة حتى، إذ يتم قراءة البيانات عبر عدسة خاصة موجودة في مشغل الأقراص مهما كان نوعه، ومثلما أصبح من السهل كتابة البيانات على الأقراص الضوئية، فمن المتوقع أن يصبح من السهل كتابة المعلومات على الزجاج وقرائتها لاحقا عبر أجهزة خاصة تنتشر مستقبلا. 

مشروع سيليكا من “مايكروسوفت” يعد أحد أكثر المشاريع الواعدة في التخزين على الأقراص الزجاجية، ولكنه ليس أول من ابتكر هذه التقنية، إذ يكمل المشروع النجاحات التي وصل إليها فريق الباحثين في جامعة ساوثهامبتون عام 2013، إذ تمكنوا من تخزين ملف نصي بحجم 300 كيلوبايت على قرص زجاجي أطلقوا عليه “5D Crystal Memory”، ولكن جهودهم توقفت عند محاولة تخزين هذا الحجم فقط، ومشروع “مايكروسوفت” تمكن من تخطيهم بالطبع. 

نجاح في أرض الواقع

النجاح الذي وصل له مشروع الفريق البحثي في الجامعة جذب أنظار العالم، وفي مقدمتهم إيلون ماسك الذي قرر في 2018 أن يطلق صاروخا فضائيا عبر شركته “SpaceX” يضم سيارة “تسلا رودستر” حمراء تخص إيلون ماسك وبداخلها قرص ذاكرة 5D كريستالي يضم مجموعة كتب “Foundation” للمؤلف اسحاق اسيموف. 

دعم إيلون ماسك واستخدامه للمشروع جذب أنظار العالم ومن ضمنهم “مايكروسوفت” التي بدأت في مشروع سيليكا منذ تلك اللحظة، ولكن طموح “مايكروسوفت” كان أكبر كثيرا من مجرد تخزين مجموعة من النصوص والكتب. 

مشروع سيليكا نجح في تخزين نسخة كاملة من فيلم “سوبرمان” الأصلي الذي صدر عام 1978، وذلك بالتعاون مع شركة “WB” التي تمتلك حقوق الفيلم بالطبع، وقد وقع اختيار الفريق على هذا الفيلم تحديدا لأن بطله كان يستخدم قطع كريستالية لتخزين البيانات وعرضها لاحقا، وقد ظهرت التقنية في هذا الفيلم على أنها تقنية مستقبلية من الفضاء الخارجي. 

طموح “مايكروسوفت” لا يتوقف عند تخزين فيلم واحد مثل “سوبرمان”، وبحسب ما كشفت عنه الشركة في بيان رسمي، فإنها تعاونت مع مجموعة “Elire” التي تركز على التقنية المستدامة وحماية البيئة من أجل وضع القبو الموسيقي الذي جمعته المؤسسة في السنوات الماضية بالكامل على أقراص زجاجية ضمن مشروع “سيليكا”، ليصبح هذا القرص ملاذا آمنا للتراث الموسيقي العالمي لمئات الآلاف من الأعوام المستقبلية. 

لماذا يجب أن نهتم بمشروع سيليكا وتخزين البيانات على الزجاج؟ 

منذ ظهور الحواسيب الشخصية وبدء الثورة الرقمية كان هناك كابوس يطارد كل المهتمين بالمعلومات والتراث العالمي، وهو كيفية حفظ وحماية ما ينتجه العالم الرقمي حتى يصبح مخزنا بأمان ينتظر الأجيال القادمة. 

في الواقع، فإن ترك الإرث الحضاري كان مسعى للإنسان منذ قديم الزمان، إذ حاولت جميع الحضارات ترك إرثها الحضاري على الصخور – التي أثبتت أنها غير قادرة على مواجهة كافة تحديات الزمن-، ثم بدأ الأمر بالتطور حتى وصل إلى الأوراق وجلود الحيوانات التي لا تستطيع مقاومة التحديات الزمنية لمئات وآلاف السنوات. 

نموذج للقطعة الزجاجية التي تخزن بيانات مشروع سيليكا

البعض يعتقد أن التوجه إلى التخزين على الأقراص الصلبة قد يحل هذه المشكلة أو حتى التخزين السحابي، ولكن كلاهما يواجهان التحديات ذاتها، إذ أن العمر الافتراضي للأقراص الصلبة بمختلف أنواعها لا يتجاوز 10 أعوام، وكذلك التخزين السحابي يمثل تحديا كبيرا من أجل حمايته وصيانته، كونه يحتاج إلى خوادم تعمل طوال الوقت واتصال مستمر بالإنترنت. 

لهذا يمثل مشروع سيليكا خطوة هامة في حضارة الإنسان وحفظ هذه الحضارة حتى يراها أجيال المستقبل، لأن المشروع يهدف لإنتاج أقراص زجاجية تستطيع الصمود حتى 10 آلاف عام مقاومة بذلك كافة عوامل الحرارة و التعرية الجوية والتحديات الجغرافية المختلفة إلى جانب كونها تعتمد على تقنية مستدامة وصديقة للبيئة بالطبع. 

حين ينجح مشروع سيليكا بشكل واسع ويصبح متاحا للجمهور أو حتى للباحثين بسهولة، فإن هذا يساعد العالم على تخزين مساحات كبيرة من البيانات الرقمية والإرث الذي نرغب في تركه للأجيال المستقبلية، وبهذا يتمكن إنسان العصر الحديث من قهر تحديات الزمن ويحقق الخلود الفكري.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات