صراع السماء.. سباق القوى العالمية لتطوير نظام تحديد المواقع الخاص بها (2)

صراع السماء.. سباق القوى العالمية لتطوير نظام تحديد المواقع الخاص بها (2)
استمع إلى المقال

في ظل البحث عن السيادة والاستقلالية لدى الدول الكبرى، وما يدور حول نزع العولمة سواء على أرض الواقع أو في العالم الرقمي، أدركت بعض الدول أهمية أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية في مختلف جوانب الحياة، وحتى الجانب العسكري، وبعد سنين من الاعتماد على نظام “GPS”، بدأ منذ سنوات ما يُعرف باسم “سباق أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية” بين أربعة لاعبين رئيسيين، الولايات المتحدة بنظام “GPS”، والاتحاد الأوروبي بنظام “جاليليو”، وروسيا بنظام “GLONASS”، والصين بنظام “بيدو”.

هذه الأنظمة تتشابه في بنيتها وآلية عملها إلى حدّ ما، لكنها تختلف في جودة خدماتها ونطاق التغطية العالمية، والأهم من ذلك موثوقية خدماتها وأمانها. نظام “GPS” هو النظام السائد بطبيعة الحال، بينما لم ينطلق نظام “جاليليو” بطاقته القصوى بعد، ولم يستطع نظام “GLONASS” إحداث فرق جوهري.

أما نظام “بيدو” الصيني، فجاء وخلط الأوراق مجددا كونه أول نظام اتصال ثنائي الاتجاه بدلا من أحادي الاتجاه، ويختلف في جانبين رئيسيين عن أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية الأخرى، إذ يمكن له تحديد مواقع أجهزة الاستقبال على سطح الأرض، ويمكن للأجهزة المتوافقة معه إرسال البيانات مرة أخرى إلى الأقمار الصناعية على شكل رسائل نصية.

اقرأ: صراع السماء.. سباق القوى العالمية لتطوير نظام تحديد المواقع الخاص بها (1)

الحكومة الصينية حاولت التسويق للاستخدامات العادية – أي غير العسكرية للنظام – ضمن سياق سلمي، لكن بعض الخبراء لم يثقوا بذلك تماما. يقتبس موقع “صوت أميركا” من الدكتور لاري وورتزل، مفوض لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأمريكية الصينية، “جميع الأجهزة الخلوية يمكن تتبعها، لأنها تتواصل باستمرار مع الأبراج أو الأقمار الصناعية. لذلك كما هو الحال هنا في الولايات المتحدة، هناك مخاوف من أن الشرطة أو الوكالات الفيدرالية يمكنها تتبع الأشخاص من خلال هواتفهم المحمولة. قد يحدث ذلك. وينطبق الشيء نفسه على الهاتف المحمول الذي يعتمد على نظام ’بيدو’”.

لكن على عكس شبكة الجيل الخامس الخاصة بـ “هواوي”، وهي جزء آخر من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي تشن حكومة الولايات المتحدة حملة نشطة ضدها في الدول الشريكة بسبب مخاوف أمنية، لا يشكل “بيدو” تهديدا أمنيا واضحا للمستخدمين خارج آسيا، حيث يتم تثبيت محطات “بيدو” الأرضية.

على الرغم من كثرة المخاوف من أن إشارة التنقل قد تكون قادرة على تثبيت برامج ضارة في جهاز المستخدم، فإن مثل هذا الاحتمال غير مرجّح، وفقا لخبراء الصناعة، ولكن يجدر التنبيه إلى أنه يمكن تثبيت البرامج الضارة من خلال شريحة مستقبل “بيدو”، خاصة في جهاز صيني الصنع، أو إذا كان الجهاز يستخدم خدمة إرسال رسائل ثنائية الاتجاه.

النقل ثنائي الاتجاه يُعد ضروريا لـ “بيدو” لمراقبة موقع المستخدم وتوفير دقة موضع محسّنة ومعالجة لاحقا. علاوة على ذلك، لا يُتوقع من معظم مصنّعي الهواتف الذكية استخدام وظائف “بيدو” للرسائل النصية القصيرة، والاقتصار على خدمات تحديد الموقع، ذلك لأن الخدمة تتطلب قدرا كبيرا من الطاقة، وليست عملية في جهاز غير مخصص.

في حين أن العديد من الهواتف الذكية يمكنها بالفعل استخدام “بيدو” كنظام لتحديد المواقع، فإنه لا يمثّل خطرا أمنيا إلا في حالة وجود محطات أرضية صينية، الأمر الذي يواجه العديد من العقبات في دول أوروبية وفي الولايات المتحدة.

حاجة للابتكار

المنافسة تولّد الابتكار، ومع ذلك، وحتى قبل “بيدو” ، تنافس نظام “GPS” مع كل من “GLONASS” و”جاليليو” في سوق تتطلب تحسينات مستمرة. ومع ذلك، ربما يكون “بيدو” قد رفع عتبة المنافسة، إذ أصبحت أحدث الأقمار الصناعية التابعة لنظام “GPS”، التي تم إطلاقها في عام 2018، تتمتع بدقة أفضل بثلاث مرات من نظيرتها لدى “بيدو”، وقدرات محسّنة لمكافحة التشويش تصل إلى ثماني أضعاف، وطاقة تشغيل تدوم لفترة أطول.

مع توسع الاعتماد العالمي على النّظم العالمية للملاحة عبر الأقمار الصناعية، ستستمر أهمية هذه الأنظمة في جوانب متعددة من الحياة الحديثة في التطور، ونتيجة لذلك، ستلوح في الأفق أسئلة حول السيادة، حيث ستنتشر هذه البنية التحتية الحيوية في مشاعات الفضاء.

في الواقع، كانت الرغبة في السيادة السياسية والسيطرة على البنية التحتية الحيوية هي التي حافظت على استمرارية نظام “جاليليو” خلال سنوات التخطيط والتطوير المرهقة، ويُتوقع أن تدرك المزيد من الدول أن الاعتماد على نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية الخاص بدولة أخرى يجعل بلدا ما، معتمدا على البلد الحاضن والمطوّر لهذا النظام.

الصين، بغض النظر عما حدث في مضيق تايوان، الأمر الذي أشعل لديها ضرورة ابتكار نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية الخاص بها، بحسب روايتها، إلا أنها لم تكن لتقف مكتوفة الأيدي وهي تشاهد مساعي القوى الأخرى كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا لتطوير أنظمتها الخاصة، فقد كان سيُفسّر ذلك على أنه علامة على الضعف أو الدونية، في الوقت الذي ستسعى فيه جاهدة لتقديم نفسها كقوة عظمى صاعدة. 

تهديد محدود؟

على الرغم من البداية الصعبة لـ “GLONASS”، تمكنت روسيا في النهاية في نشر نظامها وتحقيق بعض التعاونات الدولية في استخدامه، بما في ذلك استخدام بعض الدول الذخائر الموجهة بدقة التي تدعم نظام “GLONASS”. ومع ذلك، لم تمثّل تحولا جوهريا في الوضع الراهن، كما أنها لم تأتي ببديل مناسب لنظام “GPS” من الناحية التكنولوجية. 

نظام “غاليليو”، الذي من المقرر أن يصل إلى طاقته الكاملة قريبا، قد يوصف بأنه نظام “GPS” منزوع السلاح دون تحمل المسؤولية السياسية لملكية دولة واحدة. إذ تم تبني نظام “جاليليو” بسرعة من قبل المصنّعين ذو الصلة، وتم تضمين مستقبلاته في مختلف الأجهزة بالفعل.

أما “بيدو”، فهو لا يشكل تهديدا أمنيا للمستخدمين في الدول التي لن تسمح بتواجد محطات “بيدو” الأرضية في أراضيها، ومع ذلك، بالنسبة للدول المشاركة في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، يمثل الأمن مصدر قلق. هذه الدول تضحي بالخصوصية للوصول إلى خدمات هذا النظام.

من الناحية الجيوسياسية، باعت الصين بالفعل خاصيات ومزايا الوصول إلى إشارات نظام ملاحتها العسكرية فقط لباكستان وللمملكة العربية السعودية، مما سمح لهاتين الدولتين باستخدام ذخائر دقيقة التوجيه مزودة بتقنية “بيدو”، والتي لا تحتاج إلى الاعتماد على أنظمة عالمية أخرى للملاحة بالأقمار الصناعية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.