صراع السماء.. سباق القوى العالمية لتطوير نظام تحديد المواقع الخاص بها (1)

صراع السماء.. سباق القوى العالمية لتطوير نظام تحديد المواقع الخاص بها (1)
استمع إلى المقال

أنظمة الملاحة العالمية عبر الأقمار الصناعية توفر خدمة يعتبرها كثير من الناس أمرا مفروغا منه، إذ تنقسم تطبيقات تلك الأنظمة التي يستخدمها الأشخاص إلى خمس فئات رئيسية، تحديد المواقع، والملاحة، والتتبع، ورسم الخرائط وحساب التوقيت.

بشكل عام، يحتوي نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية القياسي على كوكبة مكونة من 24 قمرا صناعيا على الأقل في مدار أرضي متوسط منتشرة في جميع أنحاء العالم لتقديم الخدمات العالمية، وتعتبر إمكانات هذه الأنظمة ضرورية للغاية لدرجة جعلت البلدان والتحالفات ببساطة لا ترغب في الاعتماد على بعضها البعض في نظام يُعتبر الآن لا غنى عنه للسيادة. 

إنشاء هذه الأنظمة بدأ منذ ما يقرب من 50 عاما عندما ابتكر علماء أميركيون نظاما عالميا لتحديد المواقع، وهو الـ “GPS”. لكن اليوم، هناك أربع دول تعمل بأنظمة ملاحة عبر الأقمار الصناعية مختلفة؛ فالولايات المتحدة لديها نظام تحديد المواقع العالمي “GPS”، وروسيا لديها نظام “GLONASS”، والاتحاد الأوروبي لديه نظام “غاليليو”، والصين لديها نظام “بيدو”، كما تمتلك اليابان والهند أنظمة إقليمية، وحتى المملكة المتحدة تخطط لتشكيل كوكبة خاصة بها منذ مغادرتها الاتحاد الأوروبي.

لكن اختلاف أنواع هذه الأنظمة يكشف عن تفاوتات في تطويرها واستخداماتها واعتمادها العسكري، وكذلك في الاستجابة الدولية لها. فمن التأثير المحتمل لـ “بيدو” وتكامله مع مبادرة “الحزام والطريق”، إلى دور “GLONASS” في علاقة روسيا مع الاتحاد الأوروبي، والمخاوف الأمنية، والدقة النسبية لكل نظام، تكشف النظرة العامة إلى وجود توجه إلى محاولة تقويض نظام “GPS” الأميركي، والاستعاضة عنه بمشاريع بديلة قد تدر مليارات الدولارات ويستخدمها ملايين الناس يوميا.

قد يهمك: عالم بلا أقمار صناعية، خطر يهدد العالم

نظام “GPS” الأميركي

نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) هو أول نظام ملاحة عبر الأقمار الصناعية سائد. تم إنشاؤه في أوائل السبعينيات، عندما أرادت وزارة الدفاع الأميركية ضمان نظام ملاحة عبر الأقمار الصناعية مستقر ويمكن الوصول إليه للاستخدام العسكري، إذ أطلقت الوزارة أول نظام ملاحة لها بقمر صناعي لقياس التوقيت والمدى في عام 1978، وتعمل منذ ذلك الحين على تحسين أقمارها الصناعية ونظامها، أحدثها أقمار “GPS III / IIIF” الصناعية التي تم إطلاقها في عام 2018.

هذه التحسينات تساعد في الحفاظ على نظام “GPS” باعتباره المعيار الذهبي لأنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية، واعتبارا من حزيران/يونيو 2021، كان هناك ما مجموعه 31 قمرا صناعيا عاملا في المدار، بما في ذلك الأقمار الصناعية القديمة والجديدة.

النظام يوفر حاليا مستويين من الخدمة، خدمة تحديد المواقع القياسية، والتي تتوفر لجميع المستخدمين بشكل مستمر في جميع أنحاء العالم، وخالية من أي رسوم مستخدمة مباشرة، وخدمة تحديد المواقع الدقيقة، التي يقتصر وصولها على القوات المسلحة الأميركية والوكالات الفيدرالية الأميركية والقوات المسلحة والحكومات الحليفة للولايات المتحدة المختارة.

نظام “GLONASS” الروسي

تماشيا مع النمط الأميركي، وفي خضم الحرب الباردة، قرر الاتحاد السوفيتي إنشاء نظام ملاحة عبر الأقمار الصناعية خاص به. إذ بدأ تطوير “GLONASS” في عام 1976، بعد 3 سنوات فقط من بدء الولايات المتحدة العمل على “GPS”، ويوفر “GLONASS” بيانات تحديد المواقع والسرعة في الوقت الفعلي للأجسام السطحية والبحرية والجوية حول العالم.

الجيل الأول من كوكبة “GLONASS” تم إطلاقها بالكامل في عام 1996، ولكن كانت هناك فجوة في الخدمة بين حكومات “الكرملين”، حيث وصل الحال إلى أن 7 فقط من 24 قمرا صناعيا كانت لا تزال تعمل في عام 2002، مما أضرّ بمصداقية النظام.

لكن انطلاقا من الحرص على استعادة الأمجاد السابقة، أعاد الاتحاد الروسي إحياء النظام، وتشغيله مجددا في 8 كانون الأول/ديسمبر 2011، ويتميز الجيل الحالي بكوكبة من 24 قمرا صناعيا نشطا يمتاز بعمر تصميم أطول، وإلكترونيات فائقة، وأجهزة راديو أكثر قدرة، وعتاد أكثر ثباتا.

نظام “GLONASS” لا يخفي أنه نظاما عسكريا، تديره قوات الدفاع الجوي الروسية، وبما أن النظام مقدّر له أن يكون عالميا، يستخدمه الجيش الروسي في عملياته في جميع أنحاء العالم، كما في أوكرانيا أو حتى عملياته في سوريا خلال العقد الماضي.

اتفاقية تم توقيعها عام 2000 سمحت للصين ليس فقط باستخدام نظام “GLONASS” للملاحة الأساسية، ولكن أيضا لاستخدام الذخائر الموجّهة باستخدامه، والتفاعل مع محطات الرادار الأرضية التي تم بناؤها لدعم “بيدو”، وفي عام 2008، وقّعت البرازيل على استخدام “GLONASS” والمساعدة في تطويره كجزء من اتفاقيتَين رئيسيتَين بشأن التكنولوجيا العسكرية، وفي عام 2010، وقّعت أوكرانيا اتفاقية مع روسيا للمساعدة في تطوير “GLONASS”، بعد أن وافقت على مساعدة الاتحاد الأوروبي في إنشاء نظام “جاليليو”.

أما على صعيد المستهلك، بدأت شركة “Garmin” والعديد من مصنّعي الهواتف المحمولة في دعم كل من “GPS” و”GLONASS” في عام 2011. هذه الشرائح المجمعة، التي تدعم كلا النظامين على الهواتف الذكية والسيارات، أدت فيما بعد إلى الشرائح التي تستخدمها أجهزة الاستقبال الشائعة اليوم، والتي تدعم “GPS” و”GLONASS” و”جاليليو” و”بيدو”.

قد يهمك: العقوبات التقنية تدفع روسيا لاستخدام تقنيات بالية

نظام “جاليليو” الأوروبي

المفوضية الأوروبية ووكالة الفضاء الأوروبية بَنَتا نظام “جاليليو” معا لتزويد الدول الأعضاء به بديلا أوروبيا مستقلا عن نظامي “GPS” و”GLONASS”، حيث يمكن أن تتدهور هذه الأنظمة أو يرفض أصحابها تقديمها في أي وقت، على الرغم من تعهد الولايات المتحدة بعدم القيام بذلك. 

تطبيق نظام “جاليليو” بدأ في عام 2016، ولديه حاليا 26 قمرا صناعيا في المدار، ومن المحتمل أن تصل إلى هدفها المتمثل في 30 قمرا صناعيا في المستقبل القريب، حيث عانت العام الماضي من تأخير في الإطلاق، ويقدم “جاليليو” خدمة مفتوحة ومجانية للعامة، وخدمة منظّمة أكثر دقة تقتصر على الخدمات العسكرية وخدمات الطوارئ.

على النقيض من الأنظمة النظيرة الثلاث، التي تروّج للذخائر الموجهة بدقة والتي تستخدم إشارة آمنة، فإن “جاليليو” هو نظام “أكثر لطفا” يديره مدنيون بدلا من الجيش، ولدى النظام 28 دولة شريكة، ويجب، بموجب القانون، إنتاج وحدات أمان الخدمة في الاتحاد الأوروبي لحماية الملكية الفكرية للأجهزة والبرامج، وتمثل متطلبات الخدمة عقبات أمام مصنعي الذخائر الموجهة بدقة، والتي قد تحتاج إلى تلك المعلومات لتنفيذ التوجيهات التي تدعم نظام “جاليليو” في أسلحتهم.

أثناء تطوير نظام “جاليليو”، نشأت توترات كبيرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. إذ كان الأخير قد خطط لاستخدام نطاق تردد يتداخل مع التردد العسكري لنظام تحديد المواقع العالمي “GPS”، وكان من الممكن أن يمنع تداخل التردد الولايات المتحدة من التشويش على خدمة “جاليليو” عالية الدقة لو وقعت الحرب بين الطرفين، كما كانت لدى الولايات المتحدة مخاوف جدّية بشأن نية الصين أن تصبح عضوا كامل العضوية في برنامج “جاليليو”، لكن وافق الاتحاد الأوروبي في النهاية على تغيير الترددات المخطط لها، وأنهى المشاركة الصينية.

الاتحاد الأوروبي يتعاون مع العديد من المنظمات الحكومية الدولية والدول حول العالم لتعزيز نظام “جاليليو” والاستفادة منه لمساعدة الشركات في الاتحاد الأوروبي. وقد نجح النظام بالفعل عام 2019 في دمج تقنية استقبال إشارات “جاليليو” في مليار هاتف خلوي. ونظرا للطبيعة التعاونية التاريخية لنظام “جاليليو”، فضلا عن الحد الأدنى من عسكرته، فمن المرجّح أن يوفر للولايات المتحدة دعما لنظام “GPS”، لا تهديد.

نظام “بيدو” الصيني

الصين عزمت تطوير “بيدو” بعد أزمة “مضيق تايوان” 1995-1996، عندما تسبب اضطراب غير متوقع في نظام تحديد المواقع العالمي “GPS” في فقدان “جيش التحرير الشعبي” مسار صواريخه الباليستية التي أُطلقت فوق مضيق تايوان، إذ قررت الصين أنها لا تستطيع تحمل تكرار مثل هذا الحادث وتحتاج إلى الاستثمار في نظام خاص قائم على الأقمار الصناعية، وعلى الرغم من أن الصين لديها اتفاقية دائمة مع روسيا لاستخدام “GLONASS” للملاحة الأساسية والذخائر الموجهة به، استمرت في خطتها لتطوير “بيدو”.

نظام “بيدو” يعمل حاليا على الجيل الثالث من الأقمار الصناعية. ففي عام 2000، تم الانتهاء من نسخة “بيدو-1” وبدأ في تقديم خدماته في الصين فقط، وفي عام 2012، تم الانتهاء من “بيدو-2″، وبدأ في تقديم الخدمة إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ. 

أما المرحلة الثالثة والأخيرة من المشروع، “بيدو-3″، فوصلت إلى علامة فارقة في عام 2018 عندما بدأت في تقديم الخدمات على مستوى العالم.

نظام “بيدو” يقدم نوعين مختلفين من الخدمات، خدمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية، وخدمة تحديد الموجات الراديوية عبر الأقمار الصناعية “RDSS”. الخدمة الأولى تعمل بنفس طريقة أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية الأخرى، بينما تختلف الخدمة الثانية اختلافا كبيرا؛ إذ تستخدم محطة أرضية إشارات من أقمار “بيدو” لتحديد موقع المستخدم. 

كما يتيح نهج “RDSS” تبادل الرسائل كبيرة الحجم والتغطية الموسعة، ما يعني أن أي توظيف لـ “بيدو” يسمح للحكومة الصينية بمراقبة موقع المستخدم. ويسمح، كل من النهجَين الذين يعمل بهما النظام، للمستخدم بإرسال اتصالات عبر خدمة الرسائل القصيرة (SMS)، وهي ميزة فريدة من نوعها بين أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية، وتعني الآثار التشغيلية لمثل هذه الميزة أن الحكومة الصينية لديها نظام لبث الرسائل إلى أي مستخدم “بيدو” متوافق في العالم.

على الرغم من أن كل أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية تبث إشارة أكثر دقة للاستخدام العسكري والحكومي فقط، فإن “بيدو” يزود هؤلاء المستخدمين الحساسين بشكل فريد بمعلومات حول الحالة والدقة الحالية لإشارة الملاحة في الوقت الفعلي. حيث تم دمج “بيدو” على نطاق واسع ضمن معدات الجيش الصيني منذ 2014 على الأقل، كما أن الجيش يستخدم ميزة الرسائل القصيرة بكثافة للتواصل بين الوحدات والمقرات في المواقع البعيدة.

الجيش دمج “بيدو” أيضا في ذخائره الموجهة بدقة، بما في ذلك الصواريخ الباليستية وصواريخ “كروز”. وعلى الرغم من أن الصين تروّج لـ “بيدو” في جميع أنحاء العالم، لا سيما في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ودول مبادرة “الحزام والطريق”، فإن علاقتها الأكثر تطورا في هذا الصدد هي مع باكستان.

اعتبارا من كانون الأول/ديسمبر 2018، كجزء من اتفاقية تعاون عسكري مع الصين، كانت باكستان الدولة الوحيدة المسموح لها باستخدام خدمة “بيدو” العسكرية الخاصة. كما وقّعت باكستان أيضا اتفاقية هي الأولى من نوعها مع الصين في 2013 لتثبيت خمسة محطات أرضية لـ “بيدو” ومركز معالجة واحد، مما يسمح بمزيد من الدقة في الدولة.

في 9 تموز/يوليو 2019، وافق المجلس الاستشاري للمملكة العربية السعودية على مسودة مذكرة تفاهم للتعاون في الاستخدام العسكري لـ “بيدو”، حيث وقّعت المذكرة وزارة الدفاع السعودية وإدارة تطوير المعدات باللجنة العسكرية المركزية الصينية، وأتى هذا الاتفاق بعد “منتدى بيدو” الثاني للتعاون بين الصين والدول العربية، الذي انعقد في الفترة من 1 إلى 2 نيسان/أبريل 2020، في تونس العاصمة. قبل هذا الحدث، ورد أن البلدين اتفقا في مارس/آذار 2019 على “تعميق التعاون العسكري من أجل التعزيز المشترك للسلام والاستقرار الإقليميين”.

الصين تسوّق لـ “بيدو” بقوة في القطاع الخاص كذلك، لا سيما كجزء من مبادرة “الحزام والطريق” في البلدان الآسيوية. ففي عام 2013، تعاونت شركتا الإلكترونيات “كوالكوم” و”سامسونج” لتقديم الهواتف الذكية الأولى المتوافقة مع نظام “بيدو” إلى السوق، وكانت تلك الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية أيضا أول أجهزة تتوافق مع ثلاثة أنظمة ملاحة مختلفة، “GPS” و”GLONASS و”بيدو” معا، كانت تلك علامة بارزة لإدراج “بيدو” في سوق الإلكترونيات الاستهلاكية العالمية.

بحلول نهاية عام 2019، استخدم أكثر من 70 بالمئة من الهواتف الذكية الصينية نظام “بيدو” لخدمات تحديد المواقع، وتهدف الصين إلى استخدام “بيدو”، جنبا إلى جنب مع شبكات الجيل الخامس، للسيطرة على سوق خدمات الاتصالات  والتي تتصور الصين أنها ستشمل تقنيات الجيل التالي مثل المركبات ذاتية القيادة كذلك. وتم بالفعل توقيع اتفاقيات استخدام “بيدو” بموجب مبادرة “الحزام والطريق” التوسعية مع 120 شريكا، أكثر من 30 دولة، 400 مليون، مستخدم و6.5 مليون مركبة تستخدم “بيدو”.

قد يهمك: ما الذي يجعل الشرق الأوسط مركزا للمد التكنولوجي الصيني؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.