استمع إلى المقال

في سباق لبناء حاسوب كمومي عالمي قادر على حلّ المشكلات التي لا تستطيع الحواسيب التقليدية حلّها بسرعة، تستثمر العديد من الشركات في جميع أنحاء العالم مبالغ طائلة من المال في تطوير التكنولوجيا الجديدة، لكن هل تستطيع “مايكروسوفت” التفوق على المنافسين من خلال اختيارها طريقا أكثر تعقيدا.

الشركات الكبرى، مثل “جوجل” و”IBM”، اختارت طرقا معتمدة نسبيا لصنع البتات الكمومية، أو الكيوبت، التي تمثل الأساس للحاسوب الكمومي، حيث تشغل هذه الكيوبتات العمليات الحسابية السريعة بفضل قدرتها على أن تكون في تراكب من حالات التشغيل والإيقاف في نفس الوقت.

بينما تحاول الشركات الأخرى قدر المستطاع تقليل الأخطاء الموجودة في الكيوبتات وتصحيحها، اتخذت “مايكروسوفت” مسارا أصعب، حيث بحثت عن نوع من الكيوبتات التي تخبرنا الرياضيات بوجوب وجودها، لكنها استعصت على علماء الفيزياء لعقود. 

مع ذلك، تأمل “مايكروسوفت”، التي تعمل على تطوير الحوسبة الكمومية منذ التسعينيات، في إنشاء الكيوبتات الطوبولوجية واستغلال خصائصها لجعل الحالة الكمومية قوية للغاية في مواجهة التداخل الخارجي، وذلك في سبيل بناء ما يسمى بالحواسيب العملاقة الكمومية، أو الحواسيب الكمومية الطوبولوجية.

الكيوبتات الطوبولوجية

اليوم، تعتمد الحواسيب الكمومية على مجموعة متنوعة من أنواع الكيوبت، لكن لم يتمكن أي منها حتى الآن من التوسع إلى ما يكفي من الكيوبتات لتحقيق الوعد الكمومي بشكل كامل.

على مدى العقود القليلة الماضية، استحوذت الكيوبتات المستقرة على الجزء الأكبر من الأبحاث الكمومية، لأن الكيوبتات المستقرة ضرورية لحاسوب كمومي عملي.

لذلك، اتخذت “مايكروسوفت” نهجا أكثر تحديا للحوسبة الكمومية الموسعة، حيث تركز أبحاثها في هذا المجال منذ عام 2016 على ما يسمى بالكيوبتات الطوبولوجية، التي يُفترض أنها بطبيعتها أكثر استقرارا من الكيوبتات المنتجة بالطرق الحالية دون التضحية بالحجم أو السرعة.

الكيوبتات الطوبولوجية موجودة كأزواج من أوضاع صفر ماجورانا، وهي نوع من الجسيمات يُعتبر مفتاحا للإنشاء المستقبلي للكيوبتات القابلة للتطوير والمستقرة.

أوضاع صفر ماجورانا تترسب كطبقة على سطح المواد فائقة التوصيل وتُظهر مرونة شديدة في مواجهة الضوضاء البيئية (مثل الحرارة أو الجسيمات دون الذرية الشاردة أو المجالات المغناطيسية). 

هذه الضوضاء البيئية تؤدي إلى فك الترابط، وهي العملية التي تخرج بها الكيوبتات من حالة التراكب وتكشف عن قيمتها. عندما تكشف الكيوبتات عن قيمتها في وقت مبكر جدا، يظهر خطأ قبل انتهاء الحساب.

خلال عام 2017، ناقشت “مايكروسوفت” تقدمها في بناء حاسوب كمومي، ومنحت المطورين أدوات لتجربة نموذج الحوسبة عبر الأجهزة الحالية، حيث ركزت الشركة على جانب مختلف لكيفية عمل الحوسبة الكمومية، الأمر الذي قد يسمح لها بتجاوز “جوجل” و”IBM” والمنافسين الآخرين في هذا المجال.

الاختلاف الرئيسي يتمثل في أن نظام الشركة يعتمد على التطورات في الطوبولوجيا، التي تتيح للشركة الحصول على دقة أفضل بكثير من المنافسين الذي يوفر بعضهم دقة خالية من الأخطاء بنسبة 99.9 بالمئة، لكن “مايكروسوفت” يمكنها الوصول إلى ألف أو عشرة آلاف ضعف ذلك.

“مايكروسوفت” أوضحت في عدة مناسبات أن الكيوبتات الطوبولوجية هي الرهان الوحيد الصالح حاليا على الحوسبة الكمومية المستدامة والقابلة للتطوير بما يتناسب مع الملايين من الكيوبتات.

في عام 2022، أعلنت الشركة عن اكتشافها كيفية إنتاج مرحلة الموصلية الفائقة الطوبولوجية وأنماط صفر ماجورانا المصاحبة لها، مما أزال عقبة كبيرة نحو بناء حاسوب كمومي متدرج من شأنه أن يساعد في حل بعض أصعب المشكلات في العالم.

الحاسوب العملاق الكمومي

باستخدام الكيوبتات الطوبولوجية التي يعمل عليها باحثو الشركة منذ بضع سنوات، أعلنت “مايكروسوفت” عن خارطة طريقها لبناء حاسوبها العملاق الكمومي، حيث حققت الشركة إنجازا مهما في الفيزياء يمثل الخطوة الأولى في مبادرتها الطويلة المدى لبناء الحاسوب العملاق الكمومي القادر على حل بعض أصعب مشاكل العالم.

في العام الماضي، أعلنت “مايكروسوفت” عن إنجاز كبير عندما سلّط فريقها الضوء لأول مرة على قدرتها على إنشاء كيوبتات قائمة على ماجورانا التي تتمتع بميزة كونها مستقرة جدا، خاصة بالمقارنة مع التقنيات التقليدية، لكن من الصعب جدا إنشاؤها أيضا، حيث راهنت الشركة بشكل مبكر على هذه التقنية.

الآن، بعد عام من الإعلان عن هذا الإنجاز لأول مرة، ينشر الفريق ورقة جديدة تثبت أن الشركة حققت هذا الإنجاز الأول في طريقها إلى الحاسوب العملاق الكمومي، حيث تعتمد النتائج على الإنشاء والتحكم بالنظام الكمومي البعيد المنال المسمى ماجورانا، الذي يسمح للشركة بجعل الكيوبتات مقاومة للأخطاء.

الكيوبتات غير مستقرة بطبيعتها، مما يؤدي إلى أخطاء في الحسابات مع الحواسيب الكمومية، الأمر الذي يحد من فائدتها في الوقت الحالي، لكن الشركة تأمل في أن تكون كيوبتات ماجورانا أكثر استقرارا.

هذه الورقة البحثية أكدت أن نهج “مايكروسوفت” يمكن أن يخلق ويتحكم في كيوبتات ماجورانا، وهو تطور وصفته الشركة بأنه أقرب إلى اختراع الصلب، مما أدى إلى انطلاق الثورة الصناعية.

للوصول إلى هذه النقطة، أظهرت الشركة نتائج من أجهزة أكثر وبيانات أكثر بكثير مما كانت عليه قبل عام عندما أعلنت هذا العمل لأول مرة.

في الوقت الحالي، هناك أجهزة كمومية متوسطة الحجم ضوضائية مبنية بالاعتماد على الكيوبتات المادية، لكن لم يتم الاعتماد عليها بعد بما يكفي للقيام بشيء عملي ومفيد للعلم أو للصناعة التجارية.

المستوى التالي الذي بحاجة للوصول إليه كصناعة هو المستوى المرن، بحيث يكون من الممكن العمل مع الكيوبتات المادية ووضعها في كود لتصحيح الأخطاء واستخدامها كوحدة لتكون بمثابة كيوبت منطقي.

للوصول إلى هذه النقطة، فإن هناك حاجة إلى حاسوب كمومي قادر على تنفيذ مليون عملية كمومية موثوقة في الثانية بمعدل فشل واحد لكل تريليون عملية.

لا تزال هناك العديد من العقبات لإثبات جدوى هذا الكيوبتات للحوسبة الكمومية، لكن “مايكروسوفت” تعتقد أن بناءها لحاسوبها العملاق الكمومي باستخدام هذه الكيوبتات قد يستغرق أقل من 10 سنوات، الذي من المفترض أن يكون قادرا على أداء مليون عملية كمومية موثوقة في الثانية.

العمليات الكمومية في الثانية هو المقياس الجديد الذي تقدمه “مايكروسوفت”، حيث تهدف الصناعة ككل إلى تجاوز العصر الحالي للحوسبة الكمومية المتوسطة الحجم (NISQ). عملاقة البرمجيات تفكر في خارطة طريقها والوقت الذي يستغرقه بناء حاسوبها العملاق الكمومي من حيث السنوات وليس العقود.

لا يزال أمام الشركة 5 مراحل أخرى لإنشاء الحاسوب العملاق الكمومي، وتتمثل الخطوة التالية للشركة في بناء الكيوبتات المستقرة المحمية بالأجهزة، حيث يخطو فريق “مايكروسوفت” خطوات كبيرة في عمله لبناء هذه الكيوبتات التي تكون صغيرة وسريعة بما يكفي لإجراء عملية كيوبت واحدة في أقل من ميكرو ثانية. 

بعد ذلك، يخطط الفريق للعمل على تشابك هذه الكيوبتات وتشغيلها من خلال عملية تسمى التجديل، وهو مفهوم تمت مناقشته منذ أوائل القرن الحادي والعشرين على الأقل، من أجل إنشاء نظام متعدد أصغر حجما وإظهار نظام كمومي كامل.

تسريع الاكتشاف العلمي 

بعد حدوث هذا الاختراق في الفيزياء الذي قد يشكل أساس الحاسوب العملاق في المستقبل، تتطلع الشركة إلى ضغط 250 عاما من تقدم الكيمياء وعلوم المواد في الـ 25 القادمة، حيث قال ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة “مايكروسوفت”، “باحثو الشركة قد توصلوا إلى اكتشاف مطلوب منذ فترة طويلة من شأنه أن يسمح لهم بإيجاد الكيوبتات الأكثر موثوقية”.

بالإضافة إلى مشاركة خارطة الطريق، أعلنت “مايكروسوفت” عن “Azure Quantum Elements”، وهي منصتها لتسريع الاكتشاف العلمي من خلال الجمع بين الحوسبة الكمومية والحوسبة العالية الأداء والذكاء الاصطناعي.

علاوة على ذلك، أعلنت الشركة عن Copilot for Azure Quantum، وهو نموذج ذكاء اصطناعي مدرب خصيصا يمكنه مساعدة العلماء والطلاب في إنشاء عمليات حسابية ومحاكاة متعلقة بالكم، ويسمح للباحثين باستخدام اللغة الطبيعية لحل مشاكل الكيمياء وعلوم المواد الصعبة.

بشكل عام، هناك قضايا تتعلق بالسرعة والدّقة والحجم يجب التغلب عليها قبل أن تصبح الحوسبة الكمومية مفيدة للبشرية، لكن الباحثين الأكثر تفاؤلا يعتقدون أن هذه التكنولوجيا القوية قد تكون جاهزة للعمل بحلول نهاية العقد، مما يُحدث ثورة في كل شيء من اكتشاف الأدوية إلى التشفير.

في الختام، من الواضح أن خارطة الطريق هذه طموحة، وبالنظر إلى الوقت الذي استغرقته “مايكروسوفت” لتحقيق الإنجاز الأول، فقد يتعين علينا الانتظار طويلا لرؤية المراحل التالية ومدى نجاح الفريق في تنفيذ الخطط. في ظل وجود شركات، مثل “IBM” و”IonQ”، هادفة إلى تحقيق نتائج مماثلة – لكن باستخدام أساليب مختلفة لبناء الكيوبتات – فإن السباق لتجاوز عصر الحوسبة الكمومية المتوسطة الحجم قد بدأ.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات