كابلات الإنترنت البحرية في آسيا.. رهينة للتوترات الجيوسياسية؟

كابلات الإنترنت البحرية في آسيا.. رهينة للتوترات الجيوسياسية؟
استمع إلى المقال

في عالمنا اللاسلكي الذي يُبث عبر الأقمار الصناعية، من السهل أن ننسى أن معظم اتصالاتنا الإلكترونية لا تزال تعمل عبر الأسلاك، ويتضمن ذلك الغالبية العظمى من المكالمات الدولية والرسائل النصية وعمليات الإرسال عبر الإنترنت، التي يجب نقلها عبر الكابلات البحرية التي تمتد عبر القارات في قاع المحيط.

الكابلات البحرية تمثل أكثر من 99 بالمئة من حركة البيانات العابرة للقارات. لدعم تنميتها الاقتصادية في السنوات الأخيرة، شهدت منطقة المحيط الهادئ في آسيا أنشطة مهمة في مد هذه الكابلات.

مع ذلك، أصبحت الكابلات البحرية في قارة آسيا الحاملة للكثير من بيانات العالم نقطة محورية للتوترات الجيوسياسية التي تشمل الصين، حيث تواجه شركات الاتصالات والتكنولوجيا تأخيرات في خطوط متوترة على طول أرضية بحر الصين الجنوبي، أحد طرق البيانات الفائقة السرعة في العالم.

مالكو الكابلات، مثل شركات الاتصالات اليابانية والسنغافورية، إلى جانب عمالقة التكنولوجيا الأميركيين “ميتا” و”جوجل”، يحاولون تجاوز البحر المتنازع عليه، الذي ادعت بكين ملكيته بالكامل تقريبا. 

هذا يعني تكاليف أعلى لمدّ الكابلات وتشغيلها. في الوقت الذي أصبحت فيه الاتصالات السريعة ضرورية للحياة الحديثة، خاصة بعد أن شجعت جائحة فيروس “كورونا” الناس على قضاء المزيد من الوقت في المنزل، فإن الاضطرابات الحاصلة هناك تمثل مشكلة لاقتصادات المنطقة.

نظرة تاريخية

أولى كابلات الاتصالات البحرية التي تم وضعها بداية من خمسينيات القرن التاسع عشر كانت تحمل حركة التلغراف، مما أدى إلى إنشاء أول روابط اتصالات فورية بين القارات، مثل أول كابل تلغراف عبر المحيط الأطلسي الذي بدأ تشغيله في 16 آب/أغسطس 1858.

عند توصيل جزيرة جاوة الإندونيسية بمدينة داروين الأسترالية في عام 1871 تحسبا لاستكمال خط التلغراف الأسترالي في عام 1872، فإن الكابلات البحرية ربطت لأول مرة جميع قارات العالم (باستثناء القارة القطبية الجنوبية).

الأجيال اللاحقة من الكابلات نقلت حركة الهاتف، ومن ثم حركة اتصالات البيانات. هذه الكابلات المبكرة استخدمت أسلاكا نحاسية في قلبها، لكن الكابلات الحديثة تستخدم تقنية الألياف الضوئية لنقل البيانات الرقمية، التي تشمل الهاتف والإنترنت وحركة البيانات.

العرقلة الصينية

الصين بدأت بإعاقة مشاريع مد كابلات الإنترنت تحت سطح البحر وصيانتها عبر بحر الصين الجنوبي، حيث تسعى بكين إلى ممارسة المزيد من السيطرة على البنية التحتية التي تنقل بيانات العالم.

التأخيرات الطويلة في الموافقة والمتطلبات الصينية الأكثر صرامة، بما في ذلك تصاريح العمل التي تتم خارج المياه الإقليمية المعترف بها دوليا، دفعت الشركات إلى تصميم طرق تتجنب بحر الصين الجنوبي.

بحجة مخاوف تتعلق بالأمن القومي، مثل التجسس أو تركيب معدات غريبة، فإن السلطات الصينية تأخرت بمنح الائتلاف التجاري الذي يمد كابل “SJC2” تصاريح تسمح بعبوره بحر الصين الجنوبي.

هذا الكابل قيد الإنشاء البالغ طوله 10500 كيلومتر، الذي يربط اليابان بسنغافورة بالإضافة إلى تايوان وهونغ كونغ، تأخر كثيرا عن موعد إتمامه المقرر لعام 2020 بسبب اعتراضات الصين وقضايا التصاريح الطويلة.

اعتبارا من شهر نيسان/أبريل الماضي، تجاوز الائتلاف التجاري عقبة كبيرة، بحيث قد يكون من الممكن إكمال المشروع بحلول النصف الثاني من عام 2024.

النزاعات الإقليمية والبحرية في المنطقة، إلى جانب التنافس المكثف بين الولايات المتحدة والصين، قد تعني المزيد من العوائق أمام الطرق الأكثر كفاءة لربط المنطقة، مما يؤدي إلى ضبابية آفاق المشاريع المستقبلية التي تهدف إلى تعزيز التجارة والاتصال العالميين.

بينما تأخر “SJC2” لبضع سنوات، فإن بعض المشاريع لم تتمكن حتى من الانطلاق.

أهمية الكابلات البحرية

من خلال التعامل مع جميع حركة البيانات الدولية تقريبا، من الرسائل النصية إلى مقاطع الفيديو والمكالمات الهاتفية، فإن الكابلات البحرية تُعد العمود الفقري للاقتصاد العالمي.

هناك أكثر من 450 كابلا يمتدون على مسافة 1.4 مليون كيلومتر، وهو ما يكفي للدوران حول الأرض 30 مرة. 

كابلات الألياف الضوئية الحديثة يجري تمديدها على عمق 8 كيلومترات تحت سطح المحيط.

بالنسبة لموفّري المحتوى، مثل “يوتيوب” و”نتفليكس” و”أمازون”، فإن التأكد من أن هذه الكابلات لديها سعة كافية يعد أمرا بالغ الأهمية.

قبل عام 2012، كان مقدمو المحتوى يمثلون أقل من 10 بالمئة من عرض النطاق الدولي، لكن هذه الحصة قفزت إلى 71 بالمئة بحلول عام 2022.

بين عامي 2023 و 2025، هناك خطط لمشاريع كابلات بحرية في آسيا بقيمة 2.59 مليار دولار، أكثر من 6 أضعاف قيمة المشاريع المنفذة بين عامي 2000 و 2022. 

الكابلات الكبيرة عبر المحيط الهادئ تكلف مئات الملايين من الدولارات لكل منها. عادة ما يتحمل ذلك ائتلافات تجارية من شركات الاتصالات أو التكنولوجيا، مثل “ميتا” و”جوجل” و”مايكروسوفت” وأمازون”.

التأخير في الحصول على التصاريح يؤثر بجدول البناء بالكامل ويزيد التكاليف بملايين الدولارات. 

من الحصول على التصاريح إلى المسح وإنتاج الكابلات وشراء السفن، التي لا يوجد منها سوى 50 في جميع أنحاء العالم، فإن خطط إدارة المشاريع تضع في الحسبان زيادات مدّتها 3 سنوات في المتوسط.

هذا كله يحدث قبل مدّ المتر الأول من الكابل، حيث تواجه هذه الصناعة العقبات السياسة بشكل أكبر.

الرد الانتقامي الصيني

وفقا للقانون الدولي، تتطلب الدول أو الشركات التي تمدد الكابلات الحصول على تصاريح حكومية للوصول إلى قاع البحر في نطاق 12 ميلا بحريا من أراضي الدولة، لكن الإذن ليس مطلوبا في العادة في المياه التي تتراوح بين 12 و 200 ميلا بحريا من اليابسة، والمعروفة باسم المنطقة الاقتصادية الخالصة للدولة.

لكن السلطات الصينية لديها عملية موافقة مطولة للمشاريع ضمن ما نصّت عليه من تلقاء نفسها باسم “خط القطاعات الـ 9″، وهو خط الترسيم غير المحدد بدقة الذي تستخدمه الصين للتعبير عن مزاعمها بامتلاك الجزء الأكبر من بحر الصين الجنوبي، والذي يعد طريقا شهيرا للكابلات البحرية، حيث يوفر المسار الأكثر كفاءة لربط شرق آسيا بجنوب وغرب القارة، وكذلك إلى إفريقيا.

متطلبات الصين لا تتفق مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، حيث أن متطلبات التصاريح الخاصة بها امتدت إلى ما هو أبعد من المنطقة الاقتصادية الخالصة لتشمل كل بحر الصين الجنوبي تقريبا، وجزء كبير من هذه المنطقة هو المنطقة الاقتصادية الخالصة لجيران الصين.

في عام 2016، وجدت محكمة دولية في لاهاي أن “خط القطاعات الـ 9” يفتقر إلى أساس قانوني. خلال عام 2020، أصدرت 9 دول على الأقل، من بينها المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، بيانات ترفض مزاعم بكين. في غضون ذلك، تواصل البحرية الأميركية إبحار “بعثات حرية الملاحة” عبر المنطقة.

مع ذلك، لا تزال الشركات تسير حسب رغبة بكين. بالنسبة لمشروع ” SJC2″، فإن الموافقة والترخيص للأرض في هونغ كونغ شفافان نسبيا، لكن المشكلة بعد ذلك هي مع الصين.

حتى قبل أن تقدم الائتلافات التجارية طلبا رسميا، فإنه يجب أن تحصل على خطاب عدم ممانعة من جيش التحرير الشعبي، الذي طلب في الماضي إعادة توجيه تلك الكابلات.

التأخيرات الأخيرة هي رد انتقامي من جانب بكين على سعي واشنطن لإخراج شركات التكنولوجيا والاتصالات الصينية من البنية الرقمية للولايات المتحدة.

التوترات الثنائية تصاعدت بشكل حاد منذ عام 2020، عندما بدأت إدارة ترامب بمنع مشاركة الصين في مشاريع في إطار برنامج “الشبكة النظيفة“، الذي يشمل مقاييس الكابلات البحرية.

وسط حملة بكين على حرية التعبير في هونغ كونغ، ألغت واشنطن أو عدلت مشاريع الكابلات الجديدة ذات الصلة بالإقليم، كما رفضت واشنطن أيضا الحصول على تصريح للكابلات البحرية التي تربط الولايات المتحدة بالبر الرئيسي للصين وهونغ كونغ.

التنافس يدفع إلى تنويع الطرق

العديد من المشاريع قيد الإعداد تسعى إلى تجنب تحدي بحر الصين الجنوبي. المستثمرون يمدون كابلات جديدة تصل إلى اليابان وتايوان والفلبين وسنغافورة وأماكن أخرى، مع الاستفادة من الكابلات الموجودة داخل آسيا للتواصل مع الصين.

البيانات البحثية تشير إلى أن هذا النهج في استخدام نقاط الهبوط البديلة يتم اعتماده بشكل متزايد، حيث أن الشركات مترددة في المخاطرة بأي إجراء يمكن حظره أو تخريبه، لأن تكلفة التعاقد مع السفن التي تمدّ الكابلات قد تبلغ نحو 100 ألف دولار في اليوم.

بحلول عام 2024، تأمل “ميتا” و”جوجل” في بناء “Echo“، وهو خط يربط كاليفورنيا بسنغافورة عبر غوام وإندونيسيا.

بينما تخطط “ميتا” وشركة الاتصالات السنغافورية “Keppel” لإكمال “Bifrost“، أول الكابلات عبر المحيط الهادئ التي تعبر بحر جاوة.

خلال عام 2024، تأمل “ميتا” و”جوجل” وNTT” وآخرون في إنهاء “Apricot“، وهو أول كابل داخل آسيا يتجنب بحر الصين الجنوبي من خلال المرور عبر المياه الشرقية لفلبين وإندونيسيا.

على مدار الأعوام الـ 3 الماضية، كافحت الشركات من أجل الحصول على التصاريح، خاصة بالنسبة للمياه الإقليمية التي تطالب بها الصين، وأصبحت كيفية تقليل هذا الخطر إحدى الأولويات القصوى للمشاريع الجديدة.

مع ذلك، فإن الكابلات الأطول تؤدي إلى تأخيرات زمنية، مما يقلل من الأداء. هذه قضية حاسمة في صناعات مثل التمويل، حيث يكون الوقت جوهريا.

نتيجة لذلك، صُمم كابل “Apricot” بحيث تكون مسألة اتباع مسارات متعددة أثناء نقل البيانات بين العقد أولوية، مع العلم أن زمن الوصول لن يكون الأسرع.

الاقتصادات الأخرى في المنطقة، بما في ذلك تايوان والفلبين، شددت اللوائح المتعلقة ببناء الكابلات.

على مدى السنوات القليلة الماضية، أصدرت إندونيسيا تصاريح فقط للطرق التي حددتها السلطات، مما أدى إلى تأخير طفيف لمشروع المشمش “Apricot“.

هذا الأمر دفع الشركة السنغافورية للاتصالات إلى استكشاف مسارات بديلة لربط محاور البيانات، لكن بصفتها مزود اتصالات إقليمي، فإنه من الصعب تجنب بحر الصين الجنوبي بالكامل.

دعم سياسي

على هامش قمة مجموعة الـ 7، التقى زعماء الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، وأصدر القادة بيانا مشتركا وبيان رؤية وصحيفة حقائق تضمنت دعما لشبكات الكابلات البحرية العالية الجودة في المحيطين الهندي والهادئ.

الاتفاق على الكابلات البحرية يمثل جزءا من جهد لتحسين الاتصال في المنطقة من خلال تطوير البنية التحتية المرنة.

البيان المشترك قال، “نحن ندرك الحاجة الملحة لدعم شبكات الكابلات البحرية العالية الجودة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي تعد أساسية للنمو والازدهار العالميين”.

المجموعة أعلنت عن الشراكة الرباعية لتوصيل الكابلات، التي تعزز أنظمة الكابلات في المحيطين الهندي والهادئ، بالاعتماد على الخبرة العالمية لبلدان الرباعية في تصنيع وتسليم وصيانة البنية التحتية للكابلات.

ختاما، من أجل ضمان شبكة متنوعة ومرنة، يجب على الشركات العاملة في هذا المجال أن تكون منفتحة للعمل مع أطراف متعددة. إذا لم يتغير شيء خلال السنوات القادمة، فإن الأمور قد تصبح أصعب، خاصة بالنسبة لصناعة الكابلات البحرية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات