استمع إلى المقال

في ظل تصاعد التوترات في الشرق الأوسط، تبرز استراتيجية جديدة في ساحة النزاع تحمل تبعات جسيمة على النظام العالمي؛ إنه قطع كابلات البيانات في أعماق البحر الأحمر، الذي يُعدّ شريان الحياة للاتصالات والإنترنت العالمية. 

هذه الخطوة، التي يُعتقد أن “الحوثيين” يقومون بها تدريجياً، ليست مجرد تصعيد في أساليب الحرب التقليدية، بل هي تحوّل استراتيجي يستهدف البنية التحتية الرقمية الحيوية للعالم. “الحوثيون”، الذين لهم سوابق في استهداف البُنى التحتية وتعطيل سلاسل التوريد عبر البحر الأحمر، يُظهرون مرة أخرى قدرتهم على التأثير في ما هو أبعد من حدودهم الجغرافية، معرّضين بذلك الأمن القومي والاقتصاد العالمي للخطر.

هذه الممارسة ليست جديدة على “الحوثيين”؛ والجديد في الأمر هو تحوّل التركيز نحو البنية التحتية الرقمية، والذي يعكس افتقارهم لفهمٍ عميق بتعقيدات العصر الرقمي وكيفية استخدامها كأداة في الصراعات الجيوسياسية.

مقامرة “الحوثيين” بنتائج عكسية

قال مسؤولون أميركيون يوم الاثنين الفائت، إن ثلاثة كابلات تحت البحر الأحمر توفّر الإنترنت والاتصالات العالمية قد تم قطعها، حيث لا يزال الممر المائي هدفاً للمتمردين “الحوثيين” في اليمن . وفي الوقت نفسه، أدّى هجوم صاروخي لـ”الحوثيين” إلى اشتعال النار في سفينة في خليج عدن، دون وقوع إصابات.

شركة الاتصالات “سيكوم”، قالت، إن “الاختبارات الأولية تشير إلى أن الجزء المتأثر يقع ضمن المناطق البحرية اليمنية في جنوب البحر الأحمر”. وقالت إنها تعيد توجيه حركة المرور التي تمكّنت من تغييرها، على الرغم من تعطّل بعض الخدمات.

أعمال “الحوثيين” تؤثر بشكل متزايد على الاستقرار والأمن في مضيق باب المندب، وهو ممر مائي استراتيجي يربط البحر الأحمر بخليج عدن ويُعدّ حيوياً للتجارة الدولية ونقل النفط. الهجمات المتكررة والأعمال التخريبية من قبل “الحوثيين”، بما في ذلك استهداف السفن وقطع الكابلات تحت البحر، تهدد بإحداث اضطرابات كبيرة في الشحن البحري والاتصالات الدولية، مما يعرّض للخطر ليس فقط الاقتصادات المحلية للدول المطلّة على البحر الأحمر ولكن أيضًا الاقتصاد العالمي.

قطع كابلات الإنترنت في البحر الأحمر يمكن أن يكون له تأثيرات طويلة المدى على البنية التحتية للاتصالات العالمية، مما يؤدي إلى تباطؤ أو انقطاع في خدمات الإنترنت والاتصالات التي تُعتبر حيوية للأعمال التجارية والعمليات الحكومية والاتصالات الشخصية. 

هذا النوع من الأعمال التخريبية يمكن أن يجبر مقدّمي خدمات الإنترنت والشركات على البحث عن طرق بديلة لتوجيه حركة المرور، مما يؤدي إلى تكاليف إضافية وتأخيرات في نقل البيانات.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي هذه الأعمال التخريبية إلى تصعيد التوترات في المنطقة، حيث قد تضطر الدول المتضررة والقوى الدولية إلى الرّد على هذه التهديدات بإجراءات أمنية مشددة وعمليات عسكرية محتملة. وهذا التصعيد للتوترات يمكن أن يؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار الإقليمي ويعرقل الجهود الدبلوماسية لإيجاد حلٍّ سلمي للنزاع في اليمن.

تكتيكات عدوانية

استجابة للتحدي الذي طرأ بعد قطع أربعة من أكثر من خمسة عشر كابلًا بحرياً في البحر الأحمر، والذي يُقدّر بأنه يؤثر على ربع حركة المرور عبر هذه المنطقة، كشفت شركة “اتش جي سي” للاتصالات العالمية (HGC Global Communications) عن الخطوات التي اتّخذتها لمواجهة هذا الوضع. 

تشير التقديرات إلى أن حوالي 15 بالمئة من البيانات المتّجهة من آسيا نحو الغرب تتأثر بشكل مباشر بسبب هذا الحادث، حيث كانت تمرّ عبر هذه الكابلات البحرية الحيوية.

في مواجهة هذا التحدي، قامت شركة “إتش جي سي” بتفعيل خطة متكاملة لإعادة توجيه حركة المرور المتأثرة، تضمنت تحويل البيانات شمالًا عبر البر الرئيسي الصيني إلى أوروبا، وشرقاً من هونغ كونغ عبر الولايات المتحدة نحو أوروبا، بالإضافة إلى استغلال باقي شبكة الكابلات البحرية المكوّنة من أحد عشر كابلًا في البحر الأحمر للتوجيه غرباً.

ففي ظل الوضع الراهن، حيث تم قطع عددٍ من الكابلات البحرية في البحر الأحمر، ومع بقاء 11 كابلًا فقط في الخدمة، تبرز تحديات جسيمة أمام استمرارية الاتصالات. 

إذا واجهنا سيناريو قطع هذه الكابلات الباقية أيضاً، ستكون النتائج مدمرة، مما يعرقل الاتصالات العالمية والإقليمية بشكل كبير. إضافة إلى ذلك، تصبح عمليات الإصلاح شبه مستحيلة بسبب التواجد المستمر والمهدد لـ”الحوثيين” بالقرب من هذه النقاط الحيوية، مما يعقّد جهود الصيانة والإصلاح.

في مواجهة هذا الخطر المحتمل، يتعين على الدول ومقدمي خدمات الاتصالات استكشاف خيارات بديلة عاجلة لضمان استمرارية الاتصال. واحدة من الاستراتيجيات الفورية قد تكون تعزيز استخدام الأقمار الصناعية كمسارات بديلة لنقل البيانات، رغم التحديات المتعلقة بالتكلفة والسعة. 

علاوة على ذلك، قد تدفع هذه الأزمة الدول إلى الاستثمار في تقنيات جديدة مثل الكابلات البحرية المدفونة بعمق أكبر لتجنّب التخريب، أو تطوير شبكات الاتصالات التي تعتمد بشكل أقل على الكابلات البحرية بتوسيع استخدام الألياف البصرية عبر اليابسة حيثما أمكن ذلك.

“الحوثيون” واللعب بالنار

من وجهة نظر العقيد في الجيش اليمني التابع للحكومة الشرعية، محمود الزبير، فإن كابلات الإنترنت البحرية ليست مجرد بُنى تحتية مادية؛ بل هي أدوات جيوسياسية. فمن خلال قطع هذه الكابلات، لا يعرقل “الحوثيون” 25 بالمئة من حركة الإنترنت في المنطقة فحسب، بل ترسل الجماعة اليمنية أيضاً رسالة تحدذٍ وسيطرة على أحد أكثر الطرق البحرية ازدحاما في العالم.

طبقا لحديث الزبير لـ”الحل نت”، فإن جماعة “الحوثي”، المتورطة في الصراع اليمني المعقّد، وجدت نفسها معزولة بشكل متزايد بسبب تكتيكاتها العدوانية. وقد يكون الاستهداف للكابلات البحرية محاولة يائسة لتأكيد قوتها وكسب النفوذ. ومع ذلك، فإن هذا العمل التخريبي يخاطر بإشعال غضب المجتمع الدولي المنهك أصلاً بسبب الصراعات الإقليمية والضغوط الاقتصادية.

من المرجّح وفقا للسيناريوهات التي اطّلع عليها الزبير، هو أن يكون ردّ المجتمع الدولي على مثل هذه الاستفزازات سريعاً وشديداً. إذ إن قطع الكابلات ليس مجرد اعتداء على دولة ما، بل هو اعتداء على النظام العالمي. فهو يعرقل التجارة والأمن والاتصالات، ويؤثر على دول بعيدة عن مركز الصراع. 

وقد يرى المجتمع الدولي، الذي يراقب بالفعل تصرفات “الحوثيين”، أن هذا الأمر قد يكون بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير، مما يدفع إلى عمل جماعي لاستعادة الاستقرار والنظام في اليمن.

وهنا لا يستبعد الزبير، أن تأتي مقامرة “الحوثيين” بنتائج عكسية، حيث قد يكثّف التحالف الدولي، بقيادة القوى البحرية ذات المصالح الخاصة في الممرات البحرية المفتوحة والآمنة، جهودها العسكرية والدبلوماسية لتحييد التهديد، عبر عمل عسكري ينهي سيطرة هذه الجماعة. 

ويمكن أيضا للعقوبات أن تشلّ الشبكات المالية للتنظيم، بينما يمكن للضربات المستهدفة أن تفكك قدراته العملياتية. ويمكن أن تؤدي جهود المجتمع الدولي المتضافرة في نهاية المطاف إلى حلّ التنظيم أو إجباره على الدخول في مفاوضات بشروط غير مواتية له.

خطر على الشرق الأوسط

“الحوثيون”، المعروفون رسمياً باسم “أنصار الله”، هم جماعة مسلّحة ذات توجه زيدي شيعي في اليمن. بدأت حركتهم في أواخر التسعينيات كحركة دينية وثقافية معارضة تحت قيادة “حسين بدر الدين الحوثي”، وكانت تهدف في البداية إلى مكافحة ما اعتبروه توسّعاً للنفوذ السّني والغربي في اليمن. 

بمرور الوقت، تحولت الحركة إلى جماعة مسلّحة بعد دعمها من إيران، ودخلت في صراع مسلح مع الحكومة اليمنية في عدة جولات من القتال بدأت في عام 2004.

العلاقة بين “الحوثيين” وإيران، هي موضوع معقّد ومثير للجدل. إيران، التي تُعتبر قوة شيعية ذات أهداف توسعية في الشرق الأوسط، يُنظر إليها على أنها داعم رئيسي لـ”الحوثيين”، موفّرةً لهم الدعم السياسي والمالي والعسكري.

وهذا الدعم يشمل تقديم الأسلحة، التدريب العسكري، والمساعدات المالية. والهدف من دعم إيران لـ”الحوثيين”، كما يُفسّره العديد من المحلّلين، هو توسيع نفوذها في الشرق الأوسط وإنشاء حليف استراتيجي في اليمن يمكن من خلاله ممارسة الضغط على خصوم إيران الإقليميين، بما في ذلك السعودية.

عندما يتعلق الأمر بالأعمال التي يرتكبها “الحوثيون”، يعتبر البعض أن إيران قد تكون وراءها بشكل غير مباشر. ولكن الدعم الذي تقدّمه إيران لـ”الحوثيين” يعزز قدراتهم ويشجع استمرار النزاع. وهذا يشمل الهجمات على المنشآت النفطية، استهداف السفن في البحر الأحمر، وقطع الكابلات تحت البحر، والتي يمكن أن تُعتبر تكتيكاتٍ تهدف إلى توسيع نطاق الصراع والضغط على الأعداء الإقليميين لإيران.

الكابلات البحرية التي تربط العالم بين بعضه (submarinecablemap)

تحدّيات معقّدة و متصاعدة

تؤدي عمليات القطع التدريجي لكابلات الاتصالات تحت البحر الأحمر إلى تعقيدات متزايدة تؤثر على النطاق العالمي والإقليمي بشكل كبير. في البداية، هذه العمليات تشكّل ضربة قوية للاتصالات العالمية، إذ تعتبر الكابلات البحرية الركيزة الأساسية للإنترنت العالمي، مما يضمن انتقال الغالبية العظمى من البيانات الدولية بكفاءة وسرعة.

وبالتالي، ينجم عن قطع هذه الكابلات اضطرابات ملموسة في الاتصالات، ما يؤدي إلى تأخير في نقل البيانات وزيادة في التكلفة لإيجاد مسارات بديلة لهذه البيانات.

علاوة على ذلك، تتأثر التجارة الإلكترونية والأعمال التجارية بشكل مباشر من هذه الاضطرابات. في ظل العصر الرقمي الحالي، تعتمد الشركات بشكل كبير على الإنترنت لإجراء العمليات والمعاملات التجارية، مما يجعل أي تأخير أو انقطاع في الاتصال يُعدّ تحدّياً كبيراً للحفاظ على الإنتاجية وتحقيق الأرباح. 

بالإضافة إلى ذلك، يتعزز هذا التأثير بشكل أكبر بسبب الاعتماد المتنامي على الاتصالات الفورية، ما يجبر الشركات على البحث عن طرق بديلة وأكثر تكلفة لنقل بياناتها.

يوم أمس الثلاثاء، واجهت عدّة شركات كبرى بما في ذلك “ميتا”(Meta) و”جوجل”(Google)، إضافة إلى شركة”أوبن أيه آي” (OpenAI)، تعطلاً في خدماتها وتباطؤ في استجابة خوادمها، مما أثار القلق بين المستخدمين الذين وجدوا أنفسهم محرومين من الخدمة لعدّة ساعات. 

في الوقت الحالي، لا يزال غير واضح إذا كان هذا التعطل مرتبط بقطع الكابلات الذي حصل مؤخراً في البحر الأحمر أو إذا كانت المشكلة مستقلّة. بغض النظر عن السبب، هذا الحادث يبرز كيف أن انقطاع الإنترنت والاتصالات يمكن أن يؤثر بشكل كبير على حياتنا اليومية، نظراً لاعتمادنا المتزايد على الإنترنت والتكنولوجيا في جميع جوانب الحياة، ما يدفع نحو سيناريو واحد هو إنهاء وجود هذه الجماعة التي بدأت تلعب بالنار ليس مع القوى الإقليمية بل مع العالم أجمع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات