بين نقل الإنتاج والمخاوف.. لا بديل عن تايوان لشركات التكنولوجيا؟

بين نقل الإنتاج والمخاوف.. لا بديل عن تايوان لشركات التكنولوجيا؟
استمع إلى المقال

في ظل المخاوف من نشوب صراع محتمل في آسيا، فإن شركات التكنولوجيا الغربية تحاول نقل الإنتاج خارج تايوان، التي تمثل موردا أساسيا للمصنعين، لكن هل قطع العلاقات مع الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي سهل، وما الثمن الذي قد تدفعه تلك الشركات عند اتخاذ مثل هذه الخطوة.

في الأيام التي تلت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي آنذاك، نانسي بيلوسي، لتايوان في العام الماضي، غُمر الموردون التايوانيون لعمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة، بما في ذلك “أبل” و”جوجل” و”ميتا” و”أمازون”، بطلبات من العملاء.

زيارة بيلوسي أثارت أكثر من مجرد خلاف دبلوماسي بين واشنطن وبكين، التي ردت على رحلتها بمناورات عسكرية غير مسبوقة حول تايوان، حيث تسببت بحدوث أزمة في صناعة التكنولوجيا، التي قد تهدد سلسلة التوريد العالمية للإلكترونيات.

في حال حدوث أي اضطراب خطير في تايوان أو خوض بكين حربا ضد الجزيرة، فإن صناعة التكنولوجيا والإلكترونيات في جميع أنحاء العالم تصبح مشلولة، ولن يتمكن الموردون التايوانيون الإنتاج من خارج تايوان لتأمين الإمدادات.

هاتف “آيفون”

تايوان تشتهر بصناعة أشباه الموصلات المتطورة، لكن شركاتها تنتج أيضا مكونات مهمة أخرى من لوحات الدوائر المطبوعة إلى عدسات الكاميرا المتقدمة، وتدير عمليات تجميع ضخمة للأجهزة في الصين.

هذا الأمر أدى إلى خلق مثلث من الترابط بين تايوان والصين والولايات المتحدة، وقد تعمق حتى مع تصاعد التوترات بين بكين وواشنطن وتايبيه.

من أجل توضيح سبب الترابط، يجب إلقاء نظرة داخل هاتف “آيفون” المنتشر في كل مكان وواحد من أكثر الأجهزة الاستهلاكية نجاحا، حيث باعت “أبل” 2.4 مليار جهاز منذ إطلاقه في عام 2007، وحقق أكثر من تريليون دولار من الإيرادات للشركة في 15 عاما.

نجاح هذا الهاتف يعتمد على سلسلة إمداد آسيوية كبيرة تنتج الرقائق والشاشات ومكبرات الصوت والمزيد. في قلب هذه السلسلة توجد الصين وتايوان، حيث تكشف مكونات “آيفون” عن مدى الترابط الشديد بين سلاسل التوريد في الولايات المتحدة والصين وتايوان.

كل هاتف “آيفون” يحتاج إلى نحو 1500 مكون، ويقع المقر الرئيسي لما يقرب من 70 بالمئة من كبار موردي “أبل”، الذين يصنعون كل شيء، في الصين (26 بالمئة) أو تايوان (23 بالمئة) أو الولايات المتحدة (18 بالمئة)، في حين تقترب اليابان (17 بالمئة) وكوريا الجنوبية (7 بالمئة) من المراكز الـ 5 الأولى.

المكونات الأكثر قيمة، بما في ذلك رقائق المعالجات والمودم والشبكة اللاسلكية والبلوتوث وإدارة الطاقة وعدسات الكاميرا ولوحات الدوائر المطبوعة، مصنوعة في تايوان بواسطة شركات تايوانية، حيث يمثل موردو الجزيرة نحو 200 دولار، أو 36 بالمئة، من إجمالي تكلفة المواد لكل “آيفون”.

مع ذلك، فإن رقائق المعالجات والمودم والشبكة اللاسلكية والبلوتوث مُصممة بواسطة “أبل” أو مطوري شرائح أميركيين أو يابانيين أو أوروبيين آخرين، مثل “سوني” و”بوش” و”كوالكوم”. 

كما يوفر صانعو الولايات المتحدة المواد العالية الأداء، مثل زجاج الجهة الأمامية من شركة “Corning” والمواد اللاصقة من شركة “3M”.

الموردون الصينيون يتركزون في المجالات الأقل تطلبا من الناحية التكنولوجية، مثل الإطارات المعدنية وزجاج الجهة الخلفية والبطاريات ومكبرات الصوت والميكروفون وتجميع المنتجات والأجزاء الميكانيكية. 

على مدى السنوات القليلة الماضية، أصبحت الصين أكبر مصدر إمداد من حيث عدد الشركات، حيث تجاوز عدد الموردين المقيمين في الصين جميع البلدان والمناطق الأخرى.

الصين أيضا هي مكان تجميع 95 بالمئة من جميع أجهزة “آيفون”، وهو رقم لم يتغير كثيرا منذ إطلاقه. إلى جانب ذلك، فإن العديد من الموردين التايوانيين والأميركيين يخدمون “أبل” من مئات المنشآت في الصين.

دون أي من هذه المكونات، لن يكون هناك هاتف “آيفون” كما تعرفه، لكن الصيغة التي نجحت لمدة عقد ونصف تخضع الآن للاختبار في ظل إعادة صياغة التوترات الجيوسياسية لقواعد التصنيع التكنولوجي.

في شهر أيار/مايو الفائت، تعهد قادة مجموعة السبع الذين اجتمعوا في اليابان بتقليل التبعيات في سلاسل التوريد الهامة. 

بين واشنطن العازمة على استعادة إنتاج الرقائق المتقدم من آسيا، وبكين التي تتسابق لتأسيس تفوق تكنولوجي، وجدت تايوان نفسها في خضم هذه المعركة.

صنع في أميركا

في أوائل شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، افتتحت شركة “TSMC” مصنعها الجديد للرقائق في ولاية أريزونا البالغة تكلفته 40 مليار دولار، وهو أول مصنع تايواني لصناعة الرقائق في الولايات المتحدة منذ أكثر من 20 عاما.

هذا المصنع يمثل فرصة للولايات المتحدة لدخول حقبة جديدة في التصنيع المتقدم، حيث تخطط “TSMC”، أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم، لصنع بعض من أشباه الموصلات الأكثر تقدما على أرض الولايات المتحدة بدءا من العام المقبل.

باعتبارها أحد العملاء الأوائل للمصنع ، تتمكن “أبل” من وضع علامة “صنع في أميركا” على شرائحها الأساسية للمرة الأولى.

لكن أشباه الموصلات المتقدمة مثل هذه ليست سوى جزء صغير من سلسلة توريد الإلكترونيات، حيث يتطلب الهاتف الذكي الواحد مجموعة واسعة من الرقائق، وأكثر من 1500 مكون، بالإضافة إلى التجميع النهائي، وكلها تتركز في آسيا، وخاصة الصين وتايوان.

جائحة فيروس “كورونا” كشفت عن نقاط الضعف اللوجستية في سلسلة التوريد الدولية، التي بُنيت على مدى عقود من العولمة.

التوترات الجيوسياسية – وبشكل أكثر تحديدا خطر الحرب على تايوان – تؤدي إلى زيادة الضغط على شركات التكنولوجيا لتغيير طريقة عملها.

في أحد مؤشرات التوتر، فإن هناك توقعات بأن تخوض الصين حربا على تايوان في عام 2025، وستكون واسنطن مدافعة عن تايبيه.

قبل عامين، وبسبب حرب ترامب التجارية، أخبر العملاء شركة تصنيع لوحات الدوائر المطبوعة “Unimicron Technology” أنهم يريدون خيارات الإنتاج خارج الصين، نتيجة لذلك قررت الشركة توسيع القدرة التصنيعية في تايوان

في خضم إجراء “Unimicron Technology” توسعا بمليارات الدولارات في تايوان، زارت بيلوسي تايبيه في شهر آب/أغسطس الماضي، وردت بكين من خلال إجراء تدريبات عسكرية حية قبالة سواحل تايوان.

هذا الأمر سبب التوتر لعملاء الشركة، الذين أصبحوا يريدون بعض بدائل الإنتاج الموجودة خارج الصين وتايوان بسبب مخاوف من اندلاع حرب، لكن الطلب صدم الشركة، إذ من المستحيل نقل سلسلة التوريد خارج الصين وتايوان؛ لأن غالبية سلاسل توريد الإلكترونيات موجودة هناك.

منذ منتصف العام الماضي، طلبت كل من “إنتل” و”إنفيديا” و”ميتا” و”جوجل” و”أمازون” سعة إنتاجية إضافية خارج الصين وتايوان، بينما طلبت كل من “إتش بي” و”ديل” من الموردين البدء ببناء القدرات في جنوب شرق آسيا، حيث تهدفان إلى التخلص التدريجي من الرقائق المصنوعة في الصين بحلول عام 2024.

بالرغم من امتلاك موردي الرقائق لخطة طوارئ للاستعداد لاضطرابات سلسلة التوريد، مثل الحرب، لكن إذا حدث صراع عسكري في مضيق تايوان، فإن هذه الخطة قد تكون عديمة الجدوى.

نتيجة لذلك، تعمل شركات التكنولوجيا مع الموردين لتحسين خطط استمرارية الأنشطة التجارية، بما في ذلك الهدف الطويل الأمد المتمثل في التنويع الجغرافي لسلسلة التوريد في جميع أنحاء العالم.

حتى دون حرب واسعة النطاق، فإن التعطيل الناتج عن الحصار الصيني لتايوان، على سبيل المثال، قد يتسبب في اضطرابات عالمية خطيرة. 

وفقا لتقدير جمعية صناعة أشباه الموصلات، فإن حدوث خلل بإنتاج الرقائق في تايوان قد يتسبب في خسارة نحو 500 مليار دولار من الإيرادات لمصنعي الأجهزة الإلكترونية.

في تقرير حديث لشركة أبحاث السوق “Rhodium Group”، فإن حدوث نزاع في تايوان يعرض أكثر من 2 تريليون دولار من النشاط الاقتصادي للخطر.

خطر الصراع

في البداية، جاءت المخاوف من احتمال الصراع إلى حد كبير من العملاء الغربيين، لكن حتى الشركات التايوانية أصبحت متوترة الآن بشأن التطورات عبر المضيق.

نتيجة لذلك، فإن استراتيجية العديد من موردي شركات التكنولوجيا العاملة في الصين تتمثل بخفض الإنتاج وتسريع نقل الإنتاج إلى جنوب شرق آسيا والهند، وسحب الأموال تدريجيا من الصين في السنوات القليلة المقبلة.

الأمر قد يستغرق 3 سنوات على الأقل في بعض البلدان وحتى 5 سنوات في بلدان أخرى لبناء مصنع أشباه الموصلات من البداية إلى النهاية، وبعد ذلك يحتاج إلى بدء التشغيل.

لا يمكن نقل سلسلة التوريد بين عشية وضحاها بسبب بعض القضايا الجيوسياسية، حيث قد يستغرق الأمر 5 سنوات على الأقل، وحتى أكثر من 10 سنوات، لرؤية بعض التحول الأساسي، لكن واشنطن تحاول تسريع العملية، مع التركيز على الرقائق.

نتيجة لذلك، تقدم واشنطن حوافز لتشجيع الشركات للمساعدة في بناء صناعة أشباه الموصلات في أميركا، حيث يُنظر إلى مصنع “TSMC” في ولاية أريزونا على أنه أحد الإنجازات الكبرى لهذه الدفعة. 

إذا نُفذت جميع الاستثمارات المخطط لها حاليا، فإن أميركا قد تصنع 26 بالمئة من الرقائق المتقدمة في العالم بحلول عام 2027، ارتفاعا من 10 بالمئة حاليا، بينما تنخفض حصة تايوان من 54 بالمئة إلى 45 بالمئة خلال نفس الفترة.

حالة “أبل”

حتى في الأماكن التي يبدو أن الشركات الأميركية تحرز فيها تقدما في تقليل اعتمادها على الصين، فإن الوضع ليس واضحا.

على سبيل المثال، أمضت “أبل” سنوات في حث مورديها على بناء القدرات خارج الصين، ولديها بعض الطاقة الإنتاجية البديلة لجميع خطوط الإنتاج الرئيسية في دول، مثل الهند وفيتنام.

في تايوان، هناك أكثر من 70 موقعا يخدمون الشركة، حيث يصنعون رقائق مختلفة، وشرائح متطورة، ولوحات الدوائر المطبوعة، وعدسات الكاميرات، فضلا عن تقديم خدمات تعبئة واختبار الرقائق.

“أبل” أمضت أكثر من عقد من الزمان في بناء سلسلة التوريد الأكثر تطورا وأمانا ومرونة في مجال التكنولوجيا في العالم لتحقيق الكفاءة والتكاليف المنخفضة. 

الكثير من الشركات العالمية الأخرى حذت حذوها، مما جعل الصين وتايوان في قلب استراتيجيتها التصنيعية، لكن يبدو أن الوقت قد حان الآن لإعادة التفكير في هذا النهج. 

الموردون يواجهون صعوبة في التعامل مع تعقيد وتكلفة المهمة المنتظرة، حيث تطلب شركات التكنولوجيا ابتكار طريقة لصنع قطع غيار في بلدان أخرى بنفس السعر كما هو الحال في الصين أو تايوان.

في الختام، هناك صعوبة بالغة في تلبية رغبات شركات التكنولوجيا، التي تريد أن يكون سعر المكونات في الأجهزة المجمعة في دول آسيوية أخرى، بخلاف الصين وتايوان، هو نفسه الموجود في تلك الدول، لكن قد يكون من المستحيل فعل ذلك، إذ يحتاج المورد إلى توظيف أشخاص جدد أو بناء مصنع جديد أو شحن المكونات من الخارج، الأمر الذي يخلق مشاكل وتبعات وتكاليف لوجستية إضافية. 

الانفصال عن تايوان لن يكون رخيصا، كما أن قطع العلاقات بشكل كامل يكلف أكثر، ويبقى على شركات التكنولوجيا أخذ القرار فيما إذا كانت قادرة أو على استعداد لدفع ثمن هذه التحركات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات