استمع إلى المقال

عندما نتأمل في عجائب التاريخ والثقافات القديمة، نجد أنها تشبه عبقرية مفقودة، إنّ علم الآثار هو الأداة التي نستخدمها لكشف أسرار تلك الحضارات القديمة وفهم موروثها الثقافي، ولكن على مر السنين، ضاعت منا العديد من اللفافات القديمة والبرديات التي تحمل مفاتيح الحكمة والمعرفة، هذا الضياع لم يكن نتيجة لنقص في الاهتمام بالآثار القديمة، بل كان نتيجة لضعف تقنيات علم الآثار وظروف الحفظ وعوامل الزمن.

منذ عشرات السنين، وعلم الآثار يواجه تحديات هائلة في محاولته للكشف عن أسرار الماضي، فالبرديات واللفافات القديمة تمثل مفتاحا لفهم عميق للحضارات القديمة، ولكن مع مرور الزمن، اصطدم علماء الآثار بعوائق كبيرة تحول دون فك هذه الألغاز القديمة، كانت هذه العوائق تتمثل في أوجه متعددة، بدءا من تدهور حالة اللفافات والألواح وصولا إلى صعوبة الوصول إليها؛ بسبب الظروف الجغرافية أو السياسية.

مع ذلك، لا تبدو الأمور مظلمة بالكامل، حيث يلوح في الأفق أمل جديد، إن التقنيات الجديدة والمشاريع المبتكرة تسعى لاستعادة تلك الألواح القديمة وفتحها للعالم، إنها محاولة مستميتة للتغلب على تلك التحديات التي واجهها علم الآثار لسنوات طويلة، ومن خلال التكنولوجيا والتعاون، قد يكون بإمكاننا أخيرا كشف أسرار ماضينا القديم واستعادة الحكمة التي اندثرت مع مرور الزمن.

برديات هيركولانيوم

هي لفائف قديمة تم اكتشافها في منطقة ثوران جبل فيزوفيوس هو حدث تاريخي مهم ومأساوي في العالم القديم، وقع الثوران في عام 79 بعد الميلاد، ودمر عدة مدن رومانية، مثل بومبي وهركولانيوم، وقتل آلاف الأشخاص، أصبحت اليوم هذه اللفائف قابلة للفك بفضل مشروع الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، إذ أصبح الطالب في علوم الحاسوب، الذي يدعى لوك فاريتور، أول شخص خلال الألفي عام الماضيين يرى كلمة كاملة داخل لفافة لم تُفتح من قبل، وذلك ضمن تحدي فيزوفيوس الذي يقدم جوائز نقدية لأولئك الذين يستطيعون معرفة ماذا تقول اللفافة.

الاكتشافات السابقة التي قام بها الباحثون، تحققت بفضل النهج مفتوح المصدر للتحدي، ورغم أن تقنيات التعلم الآلي التي استخدمها المشتركون ليست جديدة بشكل خاص، ولكن جلب “عقلية المصدر المفتوح لمشروع أكاديمي” هو ما سمح بتحقيق إنجازات سريعة كهذه، حسبما أوضح جي بي بروسما، المتحدث باسم التحدي، وأكمل بروسما قائلا، “من خلال نشر البيانات بشكل مفتوح وإنشاء حوافز مشجعة للمشتركين، تمكن المشتركون من استكشاف المزيد من الأفكار، وأكثر مما يمكن لفريق صغير من الأكاديميين أن يفعلوه في نفس الإطار الزمني”.

هذا النموذج يُظهر كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورا حاسما في تطوير أدوات وآليات تساعد علماء الآثار في فك طلاسم ورموز العديد من اللفافات والبرديات والألواح الطينية التالفة، إن تبني النهج مفتوح المصدر يعزز التعاون بين المتخصصين، ويتيح لهم الوصول إلى معلومات وأدوات مشتركة، مما يساعد على تسريع عملية البحث والكشف عن الأسرار التاريخية المخفية داخل هذه القطع الأثرية القديمة.

كيف تم استخدام الذكاء الاصطناعي لفك رموز النص القديم؟

هذا التحدي هو مبادرة لتسهيل الوصول إلى محتوى اللفائف التي تم فتحها افتراضيا بواسطة رؤية الحاسوب من قبل فريق من جامعة كنتاكي بقيادة الدكتور برينت سيلز في عام 2015، كانت اللفائف محمية، ولكنها أصبحت هشة جدا بسبب تأثير الرماد البركاني، وتم إنشاء صورة ثلاثية الأبعاد كاملة للفائف باستخدام الأشعة المقطعية في عام 2019، مما دفع رجال الأعمال نات فريدمان ودانيال جروس لدعم مسابقة هذا العام لجعل البحث متاحا للجميع.

استخدم الطالب لوك فاريتور، الفائز بالجائزة، اكتشافات سابقة لأنماط تشققات الحبر التي قام بها مشارك آخر يُدعى كيسي هاندمر، تم تدريب نموذج التعلم الآلي من قبل فاريتور على التعرف على هذه الأنماط، والتي أصبحت بعد ذلك مصدرا لتحسين أداء التعرف على النموذج؛ في نهاية المطاف، وجد نموذج فاريتور تركيبا من الحروف يشكل كلمة “بورفيراس”، وهي كلمة قديمة تعني الأرجواني.

حصل فاريتور على جائزة قدرها 40,000 دولار لإيجاده أول كلمة؛ بالإضافة إلى ذلك، استخدم مشارك آخر يُدعى يوسف نادر، والذي يدرس علوم الروبوتات الحية طريقة أخرى تستند إلى نموذج غير مراقب للبيانات، ثم ضبط البيانات على “علامات التقطيع”، اكتشف نادر حروفا تشكل على الأرجح كلمتي “تحقيق” و”مماثلة”، وحصل على جائزة قدرها 10,000 دولار لإنجازه.

يرجح أن تحتوي اللفائف على نصوص من فيلوديموس، فيلسوف من المدرسة الأبيقورية، من خلال استخدام هذه التقنية، يأمل الباحثون في قراءة لفائف أخرى تم اكتشافها في الموقع، مما سيزيد كمية المؤلفات التي نمتلكها من الأدب القديم.

الآن بعد حل جزء كبير من اللغز، بدأ سباق لحل باقي الأسئلة، سيمنح تحدي فيزوفيوس جائزة رئيسية قدرها 700 ألف دولار لأول شخص يستطيع قراءة “أربعة أجزاء نصية” من اللفائف، يمكن للمهتمين بالمشاركة الحصول على مزيد من التفاصيل على موقع التحدي.

مستقبل علم الآثار

مع تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بسرعة نحو الأمام، يبدو أن مستقبل علم الآثار سيشهد ثورة هائلة، سيقدم الذكاء الاصطناعي أدوات قوية لفهم واستعادة التراث الثقافي للبشرية بطرق لم نكن نحلم بها في السابق، وسيسمح لنا الذكاء الاصطناعي بفك الألغاز التاريخية المستعصية والكشف عن أسرار الماضي بطرق أسرع وأكثر دقة.

في المستقبل، سيكون للباحثين وعلماء الآثار وسائل مذهلة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل وترجمة النصوص القديمة، مما يفتح آفاقا جديدة لفهم تاريخ البشرية،. سنشهد أيضا استخدام الذكاء الاصطناعي في استعادة الفنون والأعمال الفنية المفقودة، مما يجلب لنا لوحات نسيناها ومجموعات فنية ضاعت في أعوام النزاعات.

فيما يتعلق بالحفاظ على المواقع الأثرية، سيوفر الذكاء الاصطناعي تقنيات تحسين التحليل والحفاظ على هذه المواقع بكفاءة أكبر، سيساعد على تحديد المخاطر المحتملة واتخاذ الإجراءات الوقائية بشكل أفضل.

إن مستقبل علم الآثار مع الذكاء الاصطناعي سيكون مشرقا وملهما، سيساهم هذا التقدم في الحفاظ على تراث البشرية وتوسيع معرفتنا بالماضي بطرق مذهلة، ومع التزايد المستمر في التعاون والاستفادة من تلك التكنولوجيا، سنكون قادرين على الحفاظ على تاريخنا ونقله إلى الأجيال القادمة بشكل أفضل من أي وقت مضى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات