استمع إلى المقال

العودة إلى الماضي السحيق من الأمور الشيقة التي تثير فضول الكثيرين، فالآثار القديمة والتحف التاريخية تمثل جزءا هاما من تاريخ البشرية، وتساعدنا على فهم الحضارات السابقة والتعرف على عاداتهم وتقاليدهم وأساليب حياتهم، ومع تقدم التكنولوجيا، شهدنا انتشارا متزايدا للتقنيات الحديثة التي تساعد على اكتشاف الآثار والأطلال بشكل أكثر دقة وفعالية.

هذه التقنيات الحديثة تتمثل في استخدام أحدث الأجهزة الإلكترونية والمسح الجيوفيزيائي والطائرات بدون طيار والتصوير الجوي والأقمار الصناعية وغيرها، والتي تمكّننا من الكشف عن الآثار والحضارات الضائعة التي لم تكن معروفة سابقا، أو التي كانت مدفونة تحت الأرض لقرون عدة.

فما هي التقنيات الحديثة التي تُستخدم لاكتشاف الآثار القديمة، وكيف يمكن لهذه التقنيات زيادة دقة تحليل ودراسة الآثار، وهل ستؤدي التقنيات الحديثة إلى تغيير في التفسيرات.

قد يهمك: من القمر إلى المريخ.. تطور تقنيات الفضاء لاستكشاف الكون

ما الحاجة للتكنولوجيا في اكتشاف الآثار؟

التكنولوجيا تُستخدم في عملية البحث عن الحضارات والآثار لأسباب عديدة، منها.

زيادة دقة وفعالية عمليات البحث

التقنيات الحديثة والأدوات الإلكترونية تتيح استخدام أساليب وأدوات تحليل أكثر دقة وفعالية، مما يسهّل الكشف عن المواقع الأثرية، ويسرّع من عملية تحليل العينات الأثرية.

حفظ الآثار والتراث الثقافي

التكنولوجيا تساعد على الحفاظ على الآثار والتراث الثقافي من خلال استخدام تقنيات التصوير والمسح الجيوفيزيائي والرادار للكشف عن المواقع الأثرية دون الحاجة إلى حفريات تؤدي إلى تلف أو تدمير الآثار.

فهم أفضل للحضارات القديمة

التكنولوجيا تتيح فهم أفضل للحضارات القديمة من خلال استخدام أساليب تحليل وتفسير أكثر دقة، وتوفير الأدوات والمعدات اللازمة لتحليل وفهم العينات الأثرية بشكل أفضل.

التكنولوجيا في خدمة علم الآثار

التكنولوجيا تمثّل عاملا مهما في تطوير السبل لاكتشاف الآثار وزيادة دقة البحث عن الحضارات والآثار، وبفضل الكثير من التقنيات الحديثة، يمكننا الحصول الآن على صورة أفضل وأكثر دقة عن الحضارات القديمة وتاريخها، مما يمكننا من فهم الماضي بشكل أفضل وإثراء معرفتنا وثقافتنا.

في هذا السياق تحدث الباحث والخبير الأثري الدولي سعد إسماعيل لمؤسسة “إكسڤار” حول الأدوات والتقنيات المستخدمة في توسيع وتطوير علم الآثار، موضحا بأن هناك عدة تقنيات ساعدتهم في زيادة كفاءة ودقة العمل في بعثاتهم الأثرية حول العالم وفي المنطقة.

إسماعيل أشار إلى وجود مجموعة من التقنيات والطرق ومنها.

الطرق الجيوفيزيائية

تحليل مقاومة التربة للتيار الكهربائي

هذه الطريقة تم استخدامها للكشف عن الآثار لأول مرة في عام 1946 من قبل الأستاذ اتكنسون في موقع يعود إلى العصر الحجري الحديث في دورستر بأكسفورد، وتستند هذه الطريقة إلى تقدير مقاومة مختلف أجزاء التربة، بما في ذلك الطين والأحجار، للتيار الكهربائي.

في حال كانت التربة طينية، فإن شدة المقاومة تكون ضعيفة بسبب احتوائها على نسبة عالية من الماء الذي يسهل عملية نقل التيار الكهربائي، بينما إذا كانت فيها أحجار، فإن المقاومة تكون أقوى، وفي حالة وجود فجوة مثل حفرة قبر أو مطمورة، يتوقف مرور التيار الكهربائي تماما.

هذه الطريقة تُعد فعالة بشكل أكبر في المناطق الرسوبية، حيث يمكن أن تكون المقاومة بسبب وجود آثار، ومع ذلك، فإن النتائج غير مضمونة ومؤكدة في المناطق الصخرية والصحراوية الرملية الجافة.

تم استخدام العديد من الأجهزة المختلفة لقياس مقاومة التربة للتيار الكهربائي، والتي تتطور باستمرار، بدأ الأستاذ اتكنسون باستخدام جهاز ميجر “MEGGER”، وظهرت لاحقا أجهزة أخرى مثل جهاز قياس فرق الجهد “POTENTIOMETER” وجهاز مقياس النسبة الكهرومغناطيسية “RATIOMETER” وجهاز “GALVANOMETER” وجهاز “ELECTRONIC MILLIVOLTMETER”.

عملية القياس تتم عن طريق غرس وتدين معدنين في باطن الأرض على عمق متساوٍ، ثم يتم تمرير تيار كهربائي عبرهما متصل بجهاز قياس شدة المقاومة، بعد ذلك، يتم نقل المعادن إلى مواقع أخرى على مسافات متساوية وتسجيل النتائج في كل نقطة تم قياسها، وتتم إعداد المخطط البياني لتحديد مواقع الضعف في المقاومة، والتي تشير إلى وجود آثار في الأرض.

يمكن استخدام أربعة أوتاد عوضا من وتدين في قياس مقاومة التربة، ويتم وضعها في استقامة واحدة بمسافات متساوية، يختلف العمق الذي يمكن للتيار الكهربائي الوصول إليه حسب المسافة بين النقطتين المتتاليتين، وعلى سبيل المثال، إذا كانت المسافة بين النقطتين المتتاليتين هي 1 متر، فسيكون العمق الذي يمكن للتيار الوصول إليه هو 1 متر.

على الرغم من استخدام هذه الطريقة بشكل واسع، إلا أن لها العديد من العيوب، فهي تتطلب وجود أربعة أشخاص على الأقل لتطبيقها، بالإضافة إلى أنها بطيئة، وتتطلب غرس ونزع الأوتاد في كل مرة، كما يصعب تطبيقها في بعض المناطق الصخرية أو الجافة، وفي المناطق التي تكثر فيها المياه الجوفية.

اكتشاف الآثار

تحديد قوة المجال المغناطيسي

طريقة تحديد قوة المجال المغناطيسي تعد من بين أفضل الطرق الجيوفيزيائية المُستعملة للكشف عن المواقع الأثرية الموجودة في باطن الأرض، إذ تتميز هذه الطريقة بسهولة تنفيذها وسرعتها ودقتها في تحديد الآثار التي يقل عمقها عن 6 أمتار من سطح الأرض.

على الرغم من ذلك، تتأثر هذه الطريقة بعدة عوامل تُقلل من أهمية نتائجها في بعض المناطق، وخاصة المناطق الحضرية التي تحتوي على أسلاك كهربائية ومعدات حديدية، مثل السيارات والسكك الحديدية، وغيرها التي تشوش على جهاز قياس قوة المجال المغناطيسي، لذلك، تعد هذه الطريقة مناسبةً للاستخدام في المناطق الريفية البعيدة عن أي تأثير من هذا القبيل.

هذه الطريقة تقوم على اكتشاف مواد تمتلك خاصية مغناطيسية في باطن الأرض، كصخور وتربة تحتوي على الحديد، والقطع الأثرية المصنوعة من الحديد مثل اللقى والتحف، والفخار المُصنع من الطين المركب من أكاسيد الحديد التي تتحول إلى مادة مغناطيسية بعد حرقها، كما يحدث بالنسبة للطوب المشوي والآجر.

قياس قوة المجال المغناطيسي يتم بواسطة جهاز “الماجنتومتر” الذي يحتوي على أقراص مدمجة تظهر عليها النسب، ويُسجل هذا على ورق مليمتري بشكل خط بياني.

لتطبيق الطريقة، يتم تقسيم المنطقة إلى مربعات، ويتم قياس المجال المغناطيسي في المناطق التي تتقاطع فيها هذه المربعات باستخدام الجهاز، ويتم تسجيل القراءات وتحليلها لتحديد مواقع اللقى الأثرية في باطن الأرض.

هذه الطريقة بسيطة وسريعة ودقيقة في تحديد اللقى الأثرية التي تكون عمقها أقل من 6 أمتار من سطح الأرض، ولكنها تتأثر بعوامل مثل وجود الأسلاك الكهربائية والمعدات الحديدية في المناطق الحضرية التي يمكن أن تشوش على قراءات الجهاز. وبالتالي، فإن هذه الطريقة تصلح بشكل أفضل للاستخدام في المناطق الريفية.

طريقة المقاومة السمعية

طريقة المقاومة السمعية تعتمد على اكتشاف الاختلاف في صدى الصوت عندما يتردد على التربة، يتم تحديد هذا الاختلاف باستخدام جهاز الرنين، الذي يتألف من أسطوانة بقطر 3 بوصات (حوالي 7.5 سم) مملوءة بالرصاص ومغلقة من الجهات جميعها.

الجهاز يحتوي على أنبوب حديدي قصير ينتهي خارج الأسطوانة بمقبض خشبي طويل حوالي 1.5 متر، مع جزء محدب بشكل قدم يستخدم لترطيب الأرض.

يمكن استخدام جهاز آخر لقرع الأرض يتألف من كتلة وزنها 5 كلغ. يوضع راصد صوتي أرضي شاهد على بعد مترين منه، ويستخدم لتسجيل وقت انطلاق الموجة، يتم وضع 12 راصدا صوتيا في دائرة حول الرواصد، ويتم تسجيل صدى الصوت في خطوط بيانية.

هناك جهاز آخر يتألف من قضيب معدني يتم إدخاله في التربة، ويتسبب في إنتاج موجات صوتية عندما يتم ضربه، يختلف انعكاس الصوت في التربة التي تحتوي على بقايا أثرية عن ذلك في التربة التي تحتوي على مكونات متجانسة، مما يتيح للجهاز تحديد وجود بقايا أثرية في التربة.

أضاف إسماعيل أن هذا فيما يخص الطرق الجيوفيزيائية، ولكن هناك أيضا طرق تستخدم الأشعة، وقد لعبت التكنولوجيا دورا كبيرا في تطويرها أدوات وآليات عمل جديدة خلال السنوات الماضية ومنها.

الأشعة السينية

اكتشاف الأشعة السينية في عام 1895 من أهم الإنجازات العلمية التي ساهمت في تقدم البحث العلمي، وما زال هذه التقنية تتطور باستمرار، وتلبي حاجتنا بشكل مذهل، وذلك بفضل قدرتها على اختراق الأجسام، وقد تم استخدامها في مجال الآثار الأثرية للكشف عن الآثار المدفونة تحت الطبقة السطحية، حيث تختلف طبيعتها عن الطبقة الترابية العلوية. وتتوقف قدرة اختراق هذه الأشعة على كثافة الأجسام الموجودة في الأرض.

الأشعة الكونية

الأشعة الكونية تحتوي على جسيمات ميزونية بطاقة ملايين الفولتات الإلكترونية، وهي تسقط من الفضاء الخارجي بانتظام على سطح الأرض بالقوة نفسها، وفي الاتجاهات جميعها، ورغم قوتها النفاذة في الأجسام، إلا أن قدرتها تخف تدريجيا كلما زادت صلابة وسماكة الأجسام، ويتم تقدير قوة نفاذ هذه الأشعة باستخدام جهاز يُعرف بـ “غرفة الشرار”.

جهاز “غرفة الشرار” هو جهاز يستخدم في الكشف عن المقابر أو الغُرف المطمورة والمجوفة، ويتكون من آلة حَفْر تُوجد في نهايتها آلة تصوير فوتوغرافي، وعادة ما يُستخدم هذا الجهاز في عمليّات الكشف عن المقابر أو الغُرف المطمورة والمجوفة، حيث يمكن تصويرها دون الحاجة للحفر كاملا.

اكتشاف هذه الأشعة تم عام 1912 على يد الفيزيائي فيكتور هس، وأطلق عليها أحد علماء الطبيعة في عام 1923 اسم “الأشعة الكونية”، وتم استخدامها في هرم خوفو حيث ساعدت على تحديد موقع غرفة الدفن داخل الهرم، والتي لم تكن معروفة سابقا، وبقياس حجم الأشعة الكونية التي تنفذ إلى داخل الهرم، لاحظوا أن تكون الأشعة المتجهة نحو غرفة الدفن أكبر حجما؛ نظرا لأنها أقل سماكة من الحجر الأكثر كثافة، وعن طريق الجهاز نفسه تم تحديد المسافة بين خارج الهرم وغرفة الدفن.

اكتشاف الآثار

جهاز “Periscope Nistri”

جهاز “Periscope Nistri” هو جهاز بصري تم تطويره في إيطاليا في عام 1959 للاستخدام في الآثار والتنقيبات الأثرية، وتحديدًا للاستخدام في مراقبة الأماكن التي يصعب الوصول إليها، مثل الأماكن التي تحتوي على آثار أو لوحات جدارية داخل المقابر والغرف المدفونة تحت الأرض قبل فتحها والدخول إليها.

الجهاز يتكون من أداة حفر تنتهي بكاميرا فوتوغرافية، ويمكن استخدامها لتصوير محتويات هذه المناطق دون الحاجة إلى حفرها. يعتبر هذا الجهاز مهما جداً في اكتشاف الآثار والتنقيبات الأثرية حيث يمكن استخدامه للكشف عن المواقع الأثرية المهمة دون تدميرها أو الإضرار بها.

حول ما يخص منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومدى لحاقها في ركب الدول المتقدمة في تطوير طرق وأدوات علم الآثار، أكد إسماعيل، بأن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت تطورا كبيرا في أساليب وتقنيات البحث والتنقيب عن الآثار، والتي تساعد على حفظها والحفاظ عليها. ويمكن تلخيص بعض هذه التقنيات والأساليب كما يلي.

التصوير الجوي

حيث يتم استخدام الطائرات أو الطائرات بدون طيار لالتقاط الصور الجوية للمواقع الأثرية، ويمكن من خلالها تحديد المباني والأراضي والتضاريس والآثار الأثرية الموجودة تحت الأرض.

طريقة الكربون

طريقة الكربون 14 أو الـ “C14” وهي طريقة حديثة للكشف عن الآثار وتحديد تاريخها الزمني. تعتمد هذه الطريقة على قياس نسبة الكربون 14 الموجودة في المواد العضوية الموجودة في الأثر (مثل العظام أو الأخشاب) إلى الكربون 12 و13.

إنتاج الكربون 14 يتم بشكل طبيعي في طبقات الجو العليا عن طريق تأثير الإشعاع الكوني، ويتم امتصاصه من الجو من قبل النباتات خلال عملية التمثيل الضوئي. ومن ثم، يتم نقله من خلال الغذاء إلى الكائنات الحية الأخرى، بما في ذلك الإنسان.

عندما يموت الكائن الحي، يتوقف إمداد الجسم بالكربون 14، ويبدأ الكربون 14 الموجود في الجسم بالتحلل بشكل تدريجي إلى الكربون 12. وبتحديد نسبة الكربون 14 المتبقي في الأثر، يمكن تحديد عمره باستخدام التقنيات الحديثة للمعايرة.

إذا كان للأثر تركيبة عضوية قابلة للتحلل، فيمكن إجراء تحليل الكربون 14 عليها، وذلك بإخراج عينة صغيرة من الأثر وتحليلها في المختبر. ويمكن أيضا تطبيق هذه الطريقة في الآثار المتحجرة أو المعادن العضوية، عبر إجراء تحليل الكربون 14 على الجزء العضوي المتبقي فيها، مثل القشرة الخارجية للصخور.

قد يهمك: “الاندماج النووي”.. هل ينهي مرحلة الوقود الأحفوري؟

الأقمار الصناعية

تقنية الأقمار الصناعية، وتستخدم في التصوير الجوي ورصد المواقع الأثرية والحفاظ عليها ومراقبتها والحد من السرقة والتدمير.

معرفة الماضي بالتقنية

بعد استعراض التقنيات الحديثة التي تساعد على اكتشاف الآثار القديمة، يبدو أننا نمتلك الكثير من الأدوات التي تساعدنا على العبور إلى الماضي وفهمه بشكل أفضل.

البشرية تعلمت كيفية استخدام تقنيات الرادار والليزر والمسح الجوي والمغناطيسية والأشعة السينية والكربون 14 لاستكشاف الآثار واستخلاص المعلومات الثمينة منها، ومع استمرار التقدم التكنولوجي، يمكننا التوقع بأن هناك المزيد من التقنيات المذهلة التي ستساعدنا في توسيع معرفتنا وتحقيق تطور جديد في حقل علم الآثار.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.