استمع إلى المقال

يشهد العالم اليوم تحولا تكنولوجيا مذهلا يجتاح مختلف جوانب حياتنا، ولعل أحد أبرز القطاعات التي استفادت بشكل لافت من هذا التقدم، هو قطاع الصحة، فقد أصبحت التكنولوجيا الطبية الرائدة شريكا أساسيا في تطوير وتحسين الرعاية الصحية بكل فروعها، وحققت التقنيات الحديثة انقلابا جذريا في الصحة، مما ساهم بتعزيز فعالية العلاج، وتحسين تشخيص الأمراض، وتوسيع نطاق الوقاية الصحية ورعاية المرضى بشكل لم يكن متوقعا.

تقدم التكنولوجيا في تطبيقات الطب والصحة قد أنقذ حياة العديد من البشر، وساهم في تحسين نوعية حياتهم، فمن خلال العديد من التقنيات المبتكرة، تم توسيع نطاق الوصول إلى الرعاية الصحية وتحسين الفحص الطبي والعلاج بشكل لم يكن ممكنا في الماضي.

توظيف الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة يعتبر من بين أهم التطورات في مجال الصحة، فتمكن الأطباء اليوم من تحليل كميات هائلة من البيانات الطبية بشكل أكثر دقة وسرعة، مما يمكنهم من وضع تشخيص أكثر دقة للأمراض وتخصيص العلاج على نحو فردي، كما يُمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الأطباء في اتخاذ القرارات المعقدة والتنبؤ بالاحتمالات المرتبطة بالمرض.

من جهة أخرى، ساهمت التقنيات الطبية المتقدمة مثل الجراحة بالروبوت والطباعة الثلاثية الأبعاد في تحسين الإجراءات الطبية وتقليل المخاطر وفترات التعافي، كما تطورت أجهزة المراقبة الصحية القابلة للارتداء، مثل الأجهزة الذكية والساعات الذكية، لتقديم معلومات دقيقة عن صحة المستخدم وتتبع النشاط البدني والصحة العامة.

في هذا التقرير، نستعرض بعض أهم التقنيات التي غيرت وجه قطاع الصحة، منها الذكاء الاصطناعي، والطابعات ثلاثية الأبعاد، وغيرها من التطبيقات التي تسهل عملية التشخيص والعلاج والتأهيل والوقاية، كما سنتطرق إلى بعض الإيجابيات التي رسمتها التكنولوجيا في تطوير هذا القطاع الحساس.

الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد لمحاربة الأورام السرطانية

في إنجاز علمي مهم، نجح فريق من الباحثين الكوريين بتطوير تقنية جديدة للعلاج المناعي للسرطان باستخدام تقنية الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد. هذه التقنية تعتمد على استخدام نوع خاص من الخلايا المناعية، وهي الخلايا القاتلة الطبيعية، التي تمتلك قدرة فريدة على التعرف وتدمير الخلايا السرطانية دون التأثير في الخلايا السليمة.

الخلايا القاتلة الطبيعية هي جزء من جهاز المناعة الطبيعية، وهو المسؤول عن الدفاع عن الجسم ضد المواد الغريبة والمسببات للأمراض، وتتميز هذه الخلايا بأنها تحتوي على بروتينات خاصة على سطحها، تسمى المستقبلات، والتي تسمح لها بالتفريق بين الخلايا الطبيعية والخلايا المصابة أو المتحولة، وعندما تجد هذه الخلايا خلية سرطانية، تقوم بإطلاق مواد كيميائية السيتوكينات والجرانزيلات، والتي تؤدي إلى تحلل وموت هذه الخلية.

على الرغم من أن هذه الخلايا لها دور مهم في مكافحة السرطان، إلا أن استخدامها في العلاج المناعي يواجه بعض التحديات، فالخلايا القاتلة الطبيعية تفقد نشاطها بسرعة عند حقنها في مجرى الدم، وتتشتت في أجزاء مختلفة من الجسم، مما يقلل من قدرتها على استهداف الأورام، كما أن هذه الخلايا قد تواجه صعوبة في التغلغل إلى داخل التجويفات التي تحتوي على خلايا سرطانية كثيرة، والتغلب على آليات دفاعية يستخدمها الورم لإضعاف المناعة.

لحل هذه المشكلة، ابتكر الباحثون طريقة جديدة لزرع وإطلاق الخلايا القاتلة الطبيعية في موقع الورم باستخدام تقنية الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد. هذه التقنية تستخدم طابعة خاصة، تستطيع إنشاء هيكل ثلاثي الأبعاد من مادة الهيدروجيل، والتي تشبه إلى حد كبير الأنسجة الحية، وتتكون هذه المادة من شبكة من الجزيئات العضوية، تحتوي على نسبة عالية من الماء، مما يجعلها آمنة ومتوافقة مع الجسم، وتستطيع هذه المادة أن تحمل الخلايا القاتلة الطبيعية داخلها، وتحميها من التلف أو الانحلال.

بعد طباعة هذه المادة بشكل يناسب حجم وشكل الورم، يتم زرعها في موقع الورم بواسطة جراحة بسيطة، وتقوم هذه المادة بإطلاق الخلايا القاتلة الطبيعية بشكل تدريجي، عن طريق تكوين مسام في شبكتها، وتستطيع هذه الخلايا أن تصل إلى التجويفات التي تحتوي على خلايا سرطانية كثيرة، وتقوم بالتفاعل معها وتدميرها، وتستمر هذه العملية لفترات طويلة، ما يزيد من فعالية العلاج المناعي.

التجارب التي أجراها الباحثون على فئران مصابة بسرطان الثدي، أظهرت أن هذه التقنية قادرة على تثبيط نمو الورم وزيادة فرص الشفاء، كما أظهرت التحاليل المخبرية، أن هذه التقنية لا تسبب أي آثار جانبية سلبية على الأنسجة المحيطة بالورم، أو على وظائف الأعضاء.

سو آي بارك، أحد قادة الفريق البحثي، قال إن هذه التقنية تمثل اختراقا في مجال العلاج المناعي للسرطان، وأنه يأمل في تطبيقها على مرضى السرطان في المستقبل، وأضاف أن هذه التقنية يمكن أن تستخدم مع أنواع أخرى من الخلايا المناعية، مثل الخلايا التائية أو الخلايا CAR-T، لزيادة فعالية العلاج، كما قال إن هذه التقنية يمكن أن تستخدم لإنشاء نظام مناعي اصطناعي، يستطيع التصدي لأنواع مختلفة من الأمراض.

“جوجل” تطور نظام ذكاء اصطناعي قادر على إجابة الأسئلة الطبية

شركة “جوجل” أعلنت عن تطورات جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي المخصص للرعاية الصحية، حيث طورت نظاما قادرا على إجابة الأسئلة الطبية بدقة عالية.

النظام يسمى “ميد-بالم” (Med-PaLM)، وهو نموذج لغوي كبير يستخدم تقنية التحويل (Transformer) لإنشاء تعبيرات جديدة للمحتوى من خلال تحليل كميات كبيرة من النصوص الطبية، وقد تم تقييم أداء “ميد-بالم” باستخدام أسئلة اختبار الترخيص الطبي في الولايات المتحدة والهند، وأسئلة المستخدمين حول صحتهم.

وفقا لدراسة نُشرت في مجلة “نيتشر“، فإن “ميد-بالم” كان أول نظام ذكاء اصطناعي يتجاوز درجة النجاح في أسئلة اختبار الترخيص الطبي الأميركي (USMLE)، حيث حصل على نسبة 67.6 بالمئة، وهذه الأسئلة تتطلب من المجيب أن يفهم الأعراض والفحوصات والتشخيص والعلاج لحالات مرضية مختلفة.

في آذار/مارس 2023، أعلنت “جوجل” عن نسخة أحدث من “ميد-بالم”، وهي “ميد-بالم 2″، التي حققت دقة 86.5 بالمئة في أسئلة اختبار الطب، وهي زيادة بنسبة 19 بالمئة عن النسخة السابقة، كما تم اختبار “ميد-بالم 2” في مستشفى “مايو كلينك” الأميركي المرموق منذ نيسان/أبريل 2023، لاستكشاف استخدامات محتملة لهذا التكنولوجيا في مجال الرعاية الصحية.

“جوجل” أوضحت، بأنها تركز على السلامة والعدالة والتقييمات الخالية من التحيز في تطوير “ميد-بالم”، وأنها تعمل مع عملائها في قطاع الصحة والعلوم الحياتية لفهم كيف يمكن استخدام هذا النظام بطرق آمنة ومسؤولة ومفيدة.

تجارب سريرية 

شركة “Insilico Medicine”، وهي شركة تكنولوجيا حيوية مقرها هونغ كونغ، أعلنت أنها بدأت التجارب السريرية لأول دواء مصمم بالكامل بالذكاء الاصطناعي لعلاج التليف الرئوي الخبيث (IPF)، وهو مرض مزمن يسبب تندبا في الرئتين.

الدواء المسمى “INS018_055″، يستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل كميات هائلة من البيانات، بما في ذلك المعلومات الجينية والهياكل الجزيئية، لتحديد مركبات دوائية محتملة ذات فعالية عالية وآثار جانبية ضئيلة.

التجارب السريرية من المرحلة الثانية، التي تجرى حاليا على جرعة فموية من “INS018_055” لأكثر من 12 أسبوعا في الصين، تهدف إلى تقييم فعالية وسلامة الدواء على 60 شخصا في الولايات المتحدة والصين؛ وفي حال نجاحها، يمكن أن يؤدي هذا التطور المبتكر إلى علاجات أكثر كفاءة واستهدافا لمرض الرئة.

“IPF” هو مرض يؤثر على الأنسجة المحيطة بالحويصلات الهوائية، أو الحويصلات، في الرئتين، يحدث عندما يصبح نسيج الرئة سميكا وصلبا لأسباب غير معروفة؛ وبمرور الوقت، يمكن أن تسبب هذه التغيرات تندبا دائما في الرئتين، يسمى التليف، مما يجعل التنفس أكثر صعوبة، يزداد سوء المرض مع التقدم في العمر، وإذا لم يتم علاجه، يمكن أن يؤدي إلى الموت خلال سنتين إلى خمس سنوات.

التكنولوجيا والصحة

لا توجد حاليا علاجات لهذا المرض المميت، فيما يعمل “INS018_055” عن طريق منع تشكيل نسيج ندبي في الرئتين؛ وقال فنغ رِن، المدير التنفيذي المشارك والضابط العلمي لشركة “Insilico Medicine”، إن “اكتشاف دواء جديد باستخدام الذكاء الاصطناعي يمثل إنجازا كبيرا للتعلم العميق التوليدي في اكتشاف الأدوية، سنستكشف فعالية العلاجات المكتشفة والمصممة بالذكاء الاصطناعي للمرضى في التجارب السريرية، وهو تحقيق حقيقي لمنصتنا التوليدية للذكاء الاصطناعي”.

الصحة في عصر التقدم

التكنولوجيا تطورت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وقد أدت هذه التقنيات الحديثة إلى تحقيق العديد من الإيجابيات في جميع قطاعات الصحة، وهنا بعض الفقرات التي سنستعرض من خلالها هذه الإيجابيات.

قطاع الرعاية الصحية والتشخيص

تمثل التكنولوجيا المتقدمة في مجال التشخيص أحد أبرز الإيجابيات التي حققتها الصحة في السنوات الأخيرة، حيث ظهرت أجهزة التصوير الطبي المتطورة مثل الأشعة المقطعية بالتصوير بالرنين المغناطيسي، والتي تسمح بتشخيص دقيق للأمراض والاضطرابات الصحية، كما أدت التحسينات في التكنولوجيا الجزيئية إلى تطوير اختبارات مختبرية أكثر حساسية وكفاءة، مما يساعد على تشخيص الأمراض في مراحلها المبكرة وتقديم العلاج المناسب في الوقت الملائم.

توفير الرعاية عن بعد

شهدنا انتشارا هائلا في التكنولوجيا الطبية عن بُعد، ما أتاح للمرضى الوصول إلى الرعاية الطبية من خلال الهواتف الذكية والحواسيب اللوحية، تطبيقات الرعاية عن بُعد ومنصات الاتصال الصوتي والفيديو أتاحت فرصة التشخيص والاستشارة مع الأطباء عبر الإنترنت، مما يسهل حصول المرضى على الرعاية في المناطق النائية أو أثناء الحالات الطارئة.

تحسين تجربة المريض

ساهمت التكنولوجيا في تحسين تجربة المريض بشكل كبير، وظهرت العديد من التطبيقات والمنصات الرقمية التي تمكّن المرضى من متابعة حالاتهم الصحية ومواعيد الأدوية، وتسهل عملية حجز المواعيد الطبية وإدارة سجلات المرضى بسهولة، هذا يساهم في تعزيز التواصل بين المرضى وفرق الرعاية الصحية، مما يؤدي إلى تحسين النتائج الصحية العامة.

تطور الجراحة والعلاج

الجراحة التكنولوجية شهدت في السنوات الأخيرة تحسينات هائلة مع تطور الروبوتات الجراحية والأدوات المساعدة الذكية، وتمكن هذا التقدم الجراحي من إجراء عمليات أكثر دقة وأقل غلطا، مما يؤدي إلى تقليل مدة النقاهة وتحسين نتائج العلاج؛ بالإضافة إلى ذلك، شهدت الصناعة الدوائية تقدما تكنولوجيا كبيرا في مجال التركيب الدوائي ونقل العقاقير، مما يحسن تحمل العلاجات وفاعليتها.

التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي في الصحة

قطاع الصحة استفاد من التطور السريع في مجالات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، حيث يُستخدم هذا التقدم في تحليل البيانات الضخمة لتوفير تشخيص دقيق ومعالجة مخصصة للمرضى، كما يساهم الذكاء الاصطناعي في تحسين إدارة المستشفيات وتحسين نظم الصيدلة وتحديد الأنماط الوبائية لمكافحة الأمراض العابرة للحدود.

باختصار، يُعدّ تطور التكنولوجيا في قطاع الصحة فرصة لتحسين نوعية الرعاية الصحية، وتسهيل الوصول إلى الخدمات الطبية، وتحقيق تقدم كبير في مجالات التشخيص والعلاج، تواصل التكنولوجيا تحويل صناعة الصحة، ومن المتوقع أن تستمر في تحقيق المزيد من الإيجابيات في المستقبل.

مستقبل القطاع الصحي بيد التكنولوجيا؟

بلا ريب، فإن دور التكنولوجيا في تطوير قطاع الصحة لا يزال في بداياته المشرقة، ومستقبله يبدو واعدا بلا حدود، تشهد التقنيات الحديثة تطورا سريعا ومستمرا في مجال الصحة، مما يفتح آفاقا جديدة لتحسين الرعاية الصحية ورفع جودة الحياة للناس حول العالم.

في المستقبل، من المتوقع أن تتطور التقنيات الذكية والذكاء الاصطناعي بشكل أكبر، وتصبح أكثر تطورا وتكاملا في الرعاية الصحية، حيث سيسمح ذلك للأطباء بالاعتماد على البيانات والتحليلات الدقيقة لتشخيص الأمراض بدقة أعلى ووضع خطط علاجية مخصصة لكل مريض.

من المرجح أن نشهد تطورا ملحوظا في مجال الطب الشخصي، حيث سيتم تكييف العلاج على نحو دقيق وفردي وفقًا للتفاصيل الجينية لكل فرد. ستتاح للأشخاص فرصة الوقاية من الأمراض قبل حدوثها بفضل التطورات في مجال الجينوميك والطب الشخصي.

في الختام، فإن مستقبل القطاع الصحي في يد التكنولوجيا يبدو واعدا للغاية، إذ ستستمر التقنيات الحديثة بتحسين جودة الرعاية الصحية وزيادة فعاليتها، مما يؤدي إلى تحسين صحة ورفاهية المجتمعات حول العالم، ومع استمرار التطور والابتكار في مجال التكنولوجيا الطبية، سنشهد يوما بعد يوم المزيد من الانقلابات الإيجابية في مستقبل الصحة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات