استمع إلى المقال

مع مرور الزمن، اندفعت البشرية بجرأة نحو أفق التقنية، محققة انطلاقة غير مسبوقة في عالم التطوير والابتكار. لم يكن العصر الحديث مجرد فترة زمنية، بل كان هو الساحة التي تحولت على يدها الأحلام إلى واقع ملموس. إن التكنولوجيا بكل تفاصيلها الجذابة والمعقدة، أصبحت لغة العصر الحالي، تربط بين الشعوب والثقافات، وتحقق ذلك بأسلوبٍ لم يكن يوماً متوقعا.

من الهواتف الذكية التي تعمل كأجهزة متعددة الاستخدامات، إلى الذكاء الصناعي الذي يمكنه تحليل البيانات بطرق لا تمتلكها العقول البشرية، يظهر تأثير التطور التكنولوجي في كل جانب من جوانب حياتنا. إن القفزات الكبيرة التي شهدناها في مجالات الطب، والطاقة، والاتصالات، وحتى الترفيه، تعكس قدرة الإبداع البشري على تحويل الأفكار إلى حقائق قابلة للمس.

في هذا العصر المعتمد على التكنولوجيا، لم تعد الحدود هي السماء، بل أصبحت هي بداية رحلة جديدة نحو التطور والازدهار. تحقيق طموحاتنا لم يعد مقتصرا على الخيال، بل أصبحنا قادرين على استثمار الأدوات التكنولوجية لتحقيق تفردنا وتفوقنا في مختلف المجالات. الابتكارات الرائجة مثل الواقع الافتراضي، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والسيارات الذاتية القيادة، تثبت دون ريب بأن ما يبدو مستحيلا اليوم قد يصبح واقعا لاحقا.

تطور التكنولوجيا في الآونة الأخيرة ليس مجرد عبور من مرحلة إلى أخرى، بل هو ثورة تحولت فيها الخيالات إلى إنجازات ملموسة، وبينما نستمر في النظر إلى المستقبل بتفاؤل، يجب ألا ننسى دورنا في توجيه هذه التكنولوجيا نحو خير البشرية، فالقوة الهائلة للابتكار تحمل معها مسؤولية تشكيل عالم أفضل للأجيال القادمة.

أفكار تتحول إلى واقع

في عالم مليء بالتقنيات المبتكرة والتحولات الرائدة، يتجلى تحوّل الأفكار إلى واقع ملموس بشكلٍ لافت، فقد أثرت العديد من الأفكار الجريئة والمتطورة بشكل كبير على مجموعة متنوعة من المجالات، محققة تقدما كبيرا في الحياة اليومية سأستعرض في هذه الفقرات التالية بعض الأفكار المثيرة التي تحوّلت أو ستتحول قريبا إلى واقع ملموس، مما يمثل نقطة انطلاق مشوّقة نحو مستقبل مبهر.

البطارية الرملية

هي عبارة عن حاوية فولاذية تحتوي على 100 طن من رمل البناء ذي الجودة المنخفضة، وأنابيب تبادل حراري، ومروحة. يتم تسخين الرمل إلى درجة حرارة تصل إلى 600 درجة مئوية باستخدام كهرباء مولدة من طاقة الرياح والشمس في فنلندا، يحافظ العزل السميك على درجة حرارة الرمل داخل الحاوية، حتى عندما تكون درجة حرارة الجو منخفضة.

يمكن للبطارية تخزين 8 ميغاوات ساعة من الطاقة الحرارية عند امتلائها، وإطلاق 200 كيلووات من الطاقة عند الحاجة، مما يوفر التدفئة والماء الساخن لحوالي 100 منزل وحمام سباحة عام.

البطارية الرملية هي تقنية جديدة ومبتكرة، ولكنها ليست الوحيدة من نوعها، هناك تقنيات أخرى لتخزين الطاقة الحرارية، مثل الصخور أو الماء أو الملح، كل منها له مميزات وعيوب خاصة به. البطارية الرملية قد تكون مناسبة للمناطق ذات المناخ البارد والحاجة إلى التدفئة، ولكنها قد لا تكون كذلك للمناطق ذات المناخ الحار والحاجة إلى التبريد؛ لذلك، فإن انتشار البطارية الرملية يعتمد على عوامل عديدة، مثل التكلفة والفعالية والسياسة والثقافة. ومع ذلك، فإن البطارية الرملية تظهر إمكانات كبيرة لتحسين مستقبل الطاقة الخضراء، وتحدي التحديات التي تواجهها.

الهياكل الخارجية

هي أجهزة ترتديها على جسمك لتعزيز قدراتك الحركية والبدنية، تستخدم هذه التقنية في مجالات مختلفة مثل الطب، والصناعة، والعسكرية، والترفيه.

في الطب، تستخدم الهياكل الخارجية لمساعدة المرضى ذوي الإصابات العصبية أو العضلية على استعادة وظائفهم أو تحسين جودة حياتهم، بعض الأمثلة على هذه المرضى هم مصابو شلل الأطفال، وضمور العضلات، والشلل النصفي، وغيرها.

أحدث ابتكارات هذه التقنية، هيكل خارجي ذكي مخصص للأطفال يسمى “ATLAS 2030“، هذا الجهاز يسمح بإعادة التأهيل المتحرك للأطفال ذوي الأمراض العصبية أو العضلية التي تؤثر في حركتهم، يغطي هذا الجهاز منطقة الورك والركبة والكاحل بثمانية مفاصل نشطة توفر حرية كاملة في جميع الاتجاهات، ويزن هذا الجهاز 14 كيلوغراما فقط، ويتكيف مع نمو الطفل، يستخدم هذا الجهاز في أوضاع مختلفة مثل الوقوف، والجلوس، والمشي إلى الأمام، أو إلى الوراء، والمشي بشكل آلي أو نشط.

بحسب بعض الدراسات، فإن استخدام هذا الجهاز يؤدي إلى تحسن في نطاق حركة المفاصل وقوة التقلصات في منطقة الورك والركبة والكاحل، كما يساعد على تحسين التوازن، والإحساس بالجسم، والثقة بالنفس لدى الأطفال؛ بالإضافة إلى ذلك، فإن استخدام هذا الجهاز يوفر فرصة للأطفال للاستمتاع بأنشطة مختلفة مثل لعب كرة القدم، أو ركوب دراجة هوائية، أو رقص.

استخدام التقنية في خدمة إنسانية هو أحد أهداف شركة “Marsi Bionics” التي طورت هذا الجهاز بالتعاون مع المجلس الوطني الإسباني للبحوث، تأمل هذه الشركة في جعل هذا الجهاز متاحا تجاريا في المستقبل القريب، وتوفيره لأكبر عدد ممكن من الأطفال المحتاجين له.

زرع الأعضاء من الحيوانات إلى البشر

الكثير من المرضى يعانون من نقص حاد في توافر الأعضاء المناسبة للزرع من المتبرعين البشريين. وفقا لمنظمة الصحة العالمية، يحتاج حوالي 1.5 مليون شخص في العالم إلى زرع كلى، ولكن فقط 10 بالمئة منهم يحصلون على ذلك؛ لذلك، يبحث الأطباء والعلماء عن حلول بديلة لزيادة مصادر الأعضاء، وأحد هذه الحلول هو زرع الأعضاء من الحيوانات إلى البشر، أو ما يسمى بزرع نوعي.

زرع نوعي هو إجراء يتضمن نقلا أو زرعا أو حقن خلايا أو أنسجة أو أعضاء من حيوان إلى إنسان، وقد يكون هذا الإجراء مفيدا لإنقاذ حياة المرضى الذين يعانون من فشل كلوي أو قلبي أو كبدي أو غيره، ومن بين الحيوانات التي تستخدم كمصادر للأعضاء، تبرز الخنازير لأنها تمتلك أجساما وأجهزة داخلية مشابهة لتلك التي تمتلكها البشر؛ وبالإضافة إلى ذلك، يمكن توليد وتحرير جينات الخنازير بسهولة لجعلها أكثر تطابقا مع جسم الإنسان.

توليد الصور باستخدام الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي هو مجال علمي يهدف إلى تطوير برامج وأنظمة قادرة على محاكاة قدرات الإنسان في التعلم والإبداع والحلول، ومن بين التطبيقات المذهلة للذكاء الاصطناعي، تبرز تقنية توليد الصور من نصوص مكتوبة، هذه التقنية تسمح بإنشاء صور جديدة وفريدة من نوعها بناء على وصف نصي يدخله المستخدم.

أحد أشهر البرامج التي تستخدم هذه التقنية هو “Dall-E”، وهو اسم مستوحى من الفنان السريالي سلفادور دالي والروبوت والي من فيلم ديزني، هذا البرنامج قادر على توليد صور مختلفة لأي موضوع أو فكرة يطلبها المستخدم، مثل “كلب يرتدي قبعة رعاة بقر يغني في المطر” أو “قطة تشبه أفاتار”، كما يمكن للمستخدم اختيار نمط فني معين للصورة، مثل رسم كارتوني أو حجري أو زخرفي؛ ومع ذلك، فإن هذه التقنية لا تزال في مرحلة التطوير، وقد تواجه بعض المشاكل في فهم النص أو إظهار التفاصيل.

هناك أيضا تقنية أخرى تسمى “Midjourney”، وهي مولد صور ذكاء اصطناعي يخلق لوحات فنية رائعة بناء على نص بسيط، هذه التقنية تستخدم نموذجا معززا بالذكاء الاصطناعي يسمى “StyleGAN2″، والذي يستطيع إنشاء صور عالية الجودة لأشخاص أو حيوانات أو أشياء لم تكن موجودة من قبل، كل ما على المستخدم فعله هو إدخال نص يصف المشهد المطلوب، مثل “قصر قديم في غابة مظلمة”، وسيحصل على صورة فنية مدهشة.

إن توليد الصور باستخدام الذكاء الاصطناعي هو مجال جديد ومثير في عالم الفن، قد نشهد في المستقبل استخدام هذه التقنية لإنشاء معارض فنية أو لمساعدة الشركات على الحصول على رسومات أصلية بسرعة أو بالطبع، لإحداث ثورة في طريقة إنشاء النكات على الإنترنت.

الروبوتات القارئة للدماغ

لم تعد تقنية قراءة الدماغ مجرد خيال علمي، بل أصبحت حقيقة واقعة تحسنت كثيرا في السنوات الأخيرة، ومن أكثر الاستخدامات المثيرة والعملية التي شهدناها حتى الآن تأتي من باحثين في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان (EPFL).

بفضل خوارزمية التعلم الآلي، وذراع روبوتية، وواجهة دماغ-حاسوب، استطاع هؤلاء الباحثون أن يخلقوا وسيلة لمرضى الشلل الرباعي (الذين لا يستطيعون تحريك أجزاء علوية أو سفلي من أجسامهم) للتفاعل مع العالم.

في التجارب، كانت الذراع الروبوتية تؤدي مهام بسيطة مثل التحرك حول عائق. ثم تقوم الخوارزمية بتفسير إشارات من الدماغ باستخدام قبعة “EEG” وتحديد تلقائيا متى قامت الذراع بحركة اعتبرها الدماغ غير صحيحة، مثل التحرك قريبا جدا من العائق أو التسارع بشكل كبير.

بمرور الوقت، تستطيع الخوارزمية أن تتكيف مع تفضيلات وإشارات دماغ كل فرد، وفي المستقبل، قد تؤدي هذه التقنية إلى كراسي متحركة يتم التحكم فيها بالدماغ أو آلات مساعدة لمرضى الشلل الرباعي.

لكن هذا ليس المجال الوحيد الذي يستفيد من تقنية قراءة الدماغ، ففي عام 2020، طور باحثون في معهد فرانسيس كريك وجامعة ستانفورد وUCL طريقة جديدة لتسجيل نشاط الدماغ بدقة، وعلى نطاق واسع، ويمكن لهذه التقنية أن تؤدي إلى أجهزة طبية جديدة لمساعدة المبتورين، أو المصابين بالشلل، أو المصابين بحالات عصبية مثل مرض الخلايا الحركية.

هؤلاء الباحثون قاموا باستخدام تقنية شرائح السيليكون مع أسلاك دقيقة جدا، تصل إلى 15 مرة أرفع من شعرة رأس بشرية، وهذه الأسلاك بهذا النحافة تستطيع أن توضع في أعماق الدماغ، دون أن تسبب ضررا كبيرا، وبالإضافة إلى قدرتها على تسجيل نشاط الدماغ بدقة، فإن هذه الأجهزة يمكن أيضا أن تستخدم لحقن إشارات كهربائية في مناطق محددة من الدماغ.

أندرياس شيفر، قائد المجموعة في مختبر علم وظائف الأعصاب للسلوك في معهد فرانسيس كريك وأستاذ علم الأعصاب في UCL، قال “هذه التقنية توفر أساسا للكثير من التطورات المستقبلية بعيدا عن أبحاث علم الأعصاب، فهي قد تؤدي إلى تقنية يمكنها أن تنقل إشارة من الدماغ إلى آلة، مثلا مساعدة المبتورين في التحكم بطرف صناعي لمصافحة شخص أو الوقوف، كما يمكنها أن تستخدم لإنشاء إشارات كهربائية في الدماغ عندما تتضرر الخلايا العصبية، ولا تتحرك بأنفسها، مثلا في مرض الخلايا الحركية”.

في عام 2023، طور باحثون في جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو (UCSF) مشفرا قائما على الذكاء الاصطناعي يستطيع تحويل نشاط الدماغ إلى نص متصل، وهذا الإنجاز يسمح بقراءة أفكار شخص بطريقة غير جراحية لأول مرة، ويستطيع المشفر إعادة بناء الكلام بدقة مذهلة، بينما يستمع الشخص إلى قصة – أو حتى يتخيلها بهدوء – باستخدام فقط بيانات المسح بالرنين المغناطيسي.

العلاقة بين الأفكار والتكنولوجيا

في نهاية هذه الرحلة المثيرة في عالم التكنولوجيا والأفكار، يظهر بوضوح أن العلاقة بينهما ليست مجرد اتجاه واحد، بل هي روح متجددة ومتبادلة تتغير عبر الزمن، تمثل هذه العلاقة مرآة لروح الإنسان، فإنها تجسد قدرته على التجديد والتطور دائما.

على مر العصور، شهدنا كيف أن الأفكار الجريئة والرؤى المستقبلية قد دفعت حدود التكنولوجيا إلى الأمام، من خلال رحلات الاستكشاف والاختراع، استطاع البشر أن يجسدوا تلك الأفكار في تحف تقنية ثورية. وكما أن الطائرة لم تكن سوى حلم في عقول المبدعين قبل أن تحلق في سماء الواقع، هكذا تجلى قدرة الإبداع البشري عبر تحويل الأفكار إلى آلات وأجهزة تعزز حياتنا.

من ناحية أخرى، لاحظنا كيف أن التكنولوجيا تعزز بدورها الأفكار، وتساهم في تجسيدها وتطويرها، فمن خلال مجموعة متنوعة من الأدوات والمنصات، أصبح من الممكن للأفكار الجديدة أن ترى النور وتنمو، حتى تصبح جزءا من الحياة اليومية للبشرية، فالتواصل السريع عبر الإنترنت ومشاركة المعرفة والأفكار، تمثل ثقافة التكنولوجيا الحديثة التي تغذي وتنمي تصوراتنا ورؤانا.

في نهاية المطاف، فإن العلاقة بين الأفكار والتكنولوجيا هي تلازم وتوازن مستدام، حيث تغذي كل منهما الآخر بإلهامٍ دائم. إن تجسيد الأفكار في تكنولوجيا ملموسة يعكس تطور الإنسان وتفوقه بخلق مستقبل أكثر إشراقا. لنبق قادرين على الحفاظ على هذه الروح التفاعلية بين الأفكار والتكنولوجيا، ولنستمر في بناء عالمٍ يتسم بالابتكار والازدهار للأجيال المقبلة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات