أزمة الشرائح الإلكترونية: نقصٌ يزعزع الاقتصاد العالمي

أزمة الشرائح الإلكترونية: نقصٌ يزعزع الاقتصاد العالمي
استمع إلى المقال

توجد شرائح في كل شيء كهربائي تمتلكه تقريبًا، من هاتفك إلى الكمبيوتر إلى سيارتك، وحتى بعض أدواتك المنزلية، مثل الغسالة والثلاجة. وتعمل هذه الشرائح، التي يُطلق عليها غالبًا “أشباه الموصلات”، كعقول لأجهزتنا الإلكترونية. إذ تستضيف مليارات الترانزستورات داخلها، على الرغم من أن حجم الشريحة قد لا يتجاوز ظفر الإصبع. وهذه الأجزاء الصغيرة جدًا هي شريان الحياة في المجتمع الحديث، ولكن حتى قبل الجائحة، وتخبّط الاقتصاد العالمي، كان الطلب عليها يتجاوز العرض. والآن، تعاني من نقصٍ شديدٍ في الإمداد لم نشهد له مثيل ولّد مصطلحًا يُعرف بـ “أزمة الشرائح الإلكترونية العالمية”.

لتوضيح حجم هذا النقص قليلًا، إليكم الأرقام التالية: قالت نيسان إنها ستصنع أقل من معدلها المعتاد بـ 500 ألف سيارة بسبب نقص الشرائح. بينما اضطرت شركة جنرال موتورز إلى إيقاف إنتاج بعضًا من طرازات شاحنات البيك أب خاصّتها بسبب نقص شرائح أشباه الموصلات، بل إنها قامت بوقف إنتاج آلاف المركبات التي اكتملت ولكن لا تزال تفتقر فقط إلى الشرائح المطلوبة. وحذّر الرئيس التنفيذي لشركة آبل، تيم كوك، الجمهور في يوليو/تموز من أن نقص الشرائح سيؤثر على مبيعات هواتفها وأجهزتها اللوحية. ويتوقّع بات غيلسنجر، رئيس شركة إنتل، أن يمر عام أو عامين قبل أن يتمكن العرض من تلبية الطلب، ويقول الخبراء إن التسوق في العطلات قد لا يقدم التنوع والخيارات التي اعتدنا عليها.

كيف حدث هذا النقص؟ ما الذي سبّبه؟ علامَ سيؤثر؟ ومتى يمكننا توقّع انتهاؤه؟ جميعها أسئلة نحاول الإجابة عليها أدناه.

مسببات نقص الشرائح الإلكترونية

إن سبب أزمة الشرائح الإلكترونية العالمية هو مزيج من الأحداث المختلفة. وبالإضافة إلى تأثير كرة الثلج لجائحة كورونا، تم إرجاع أسباب أخرى إلى الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة وجفاف عام 2021 في تايوان وغيرها من الأسباب، نستعرضها جميعًا:

وباء كوفيد -19

يعد الإغلاق العام خلال جائحة كورونا السبب الرئيسي لنقص الشرائح العالمية. وبسبب عمليات الإغلاق العالمية هذه، تم إغلاق مرافق إنتاج الشرائح، مما أدى إلى استنفاد المخزونات. وبسبب الوباء أيضًا، بقي معظم الناس في منازلهم واضطروا إلى ترقية أجهزتهم الإلكترونية التي زاد استخدامهم لها، مثل كاميرات الويب والشاشات وأجهزة الكمبيوتر، في سبيل العمل من المنزل بأريحية و/أو الحصول على الترفيه. ففي الربع الأخير من عام 2020، شهدت مبيعات أجهزة الكمبيوتر التقليدية نموًا بنسبة 26.1% مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، مما أدى لخلق فجوةً بين العرض والطلب على الشرائح.

الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة

تمثل الولايات المتحدة 12% فقط من إنتاج الشرائح الإلكترونية العالمي، بينما تنتج آسيا 75% من الإجمالي العالمي، وذلك وفقًا لتقرير صادر عن جمعية صناعة أشباه الموصلات، والتي تتوقع أن تصبح الصين أكبر منتج للرقائق بحلول عام 2030.

لكن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اعتبر أن الصين كانت “تسرق” الولايات المتحدة في هذا المجال، وبدأ فرض العقوبات منذ ذلك الحين في سبيل جعل جهود التصنيع الصينية أكثر صعوبة. 

والصين بالفعل متأخرة بعض الشيء في صناعة الشرائح الأكثر تطورًا. على سبيل المثال، تقوم أكبر شركة لأشباه الموصلات في العالم، “شركة تايوان المحدودة لصناعة أشباه الموصلات” (TSMC)، أكبر مصنّع للشرائح في العالم، بتطوير شرائح صغيرة جدًا بحجم 3 نانومتر وأصغر. بينما بدأت “شركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية” الصينية (SMIC)، وهي أكبر شركة لتصنيع الشرائح في الصين، في تصنيع شرائح بحجم 14 نانومتر في أواخر عام 2019.

وفي سبتمبر/أيلول من العام المنصرم، فرض البيت الأبيض في عهد ترامب قيودًا على تصدير اللوازم والمعدات الأولية لشركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية الصينية، مما أجبرها على توفير هذه القطع من مكانٍ آخر وإعادة تشكيل سلاسل التوريد في هذه العملية.

و أجبرت هذه القيود الشركات على استخدام مصانع أخرى مثل شركة تايوان المحدودة لصناعة أشباه الموصلات وسامسونج وإنتيل. لكن ومع ذلك، كانت هذه الشركات تنتج بالفعل بأقصى طاقتها وتواجه مشاكلها الخاصة، ولم تستطع تلبية احتياجات السوق.

جفاف تايوان ومشاكلها مع الصين

تايوان هي الدولة الرائدة في صناعة شرائح أشباه الموصلات العالمية، حيث تمثل شركة تايوان المحدودة لصناعة أشباه الموصلات وحدها أكثر من 50% من سوق الشرائح الإلكترونية العالمي. لكن في شهر أبريل/نيسان من هذا العام، شهدت تايوان أسوأ موجة جفافٍ لها منذ أكثر من نصف قرن، مما أدى إلى مشاكل بين مصنّعي الشرائح الذين يستخدمون كمياتٍ كبيرةٍ من المياه فائقة النقاء لتنظيف مصانعهم وتبريد آلياتهم. على سبيل المثال، استخدمت منشآت TSMC أكثر من 63 ألف طن من المياه يوميًا، أي أكثر من 10% من إمداد خزانين محليين.

إضافةً إلى ذلك، فإن المخاوف المستمرة فيما يتعلق بنقص الإمداد هو علاقة تايوان المتوترة مع الصين. إذ يوجد هناك إمكانية نظرية لنشوب حربٍ بين الصين وتايوان تضع وصول الشركات التقنية إلى الشرائح في خطرٍ محتمل، وقد تكون كارثية للعديد من الصناعات التي لن تتمكن من الحصول على الشرائح التي تعتمد عليها. وبصراحة، تميل الصين بشدة للاستيلاء على تايوان. حيث أن الصينيين في أمس الحاجة إلى خلق صناعة الشرائح الخاصة بهم، ولقد أصبحت نقطةً محوريةً للمنافسة بين الولايات المتحدة والصين.

حريق مصنع شركة Renesas للإلكترونيات 

اشتعلت في مارس/آذار المنصرم النيران في مصنع شركة الإلكترونيات اليابانية Renesas، والذي يوفر 30% من السوق العالمية لوحدات التحكم الدقيقة المستخدمة في السيارات. وقالت الشركة حينها. إن الأمر سيستغرق 100 يوم على الأقل حتى تعود إلى الإنتاج الطبيعي. واستغرق الأمر أكثر من ذلك بقليل، موسّعًا الهوّة بين العرض والطلب.

الآثار الناجمة والصناعات المتضررة

بطاقات الرسوميات وأجهزة الكمبيوتر

جعلت أزمة الشرائح الإلكترونية العالمية الحصول على بطاقة رسوميات جديدة إنجازًا بحد ذاته تزامنًا مع زيادة الطلب الناجم عن الزيادة في تعدين العملات الرقمية. كما أصبح العثور على مكونات أجهزة الكمبيوتر المخصصة للألعاب أكثر صعوبةً وأعلى تكلفة، وبما أن أجهزة الكمبيوتر المخصصة للألعاب تعتمد على شرائح AMD أو NVIDIA لصناعة رسومات منفصلة (تسمى أحيانًا مخصصة)، فقد اضطرت هاتان الشركتان إلى تحديث تشكيلتهما بنماذج جديدة أكثر صعوبةً في الحصول وأعلى سعرًا بنسبة تتراوح بين 50% و 300% من السعر الوسطي. 

إنتاج السيارات الكهربائية

يمكن أن تحتوي السيارة الحديثة المتوسطة على ما بين 1400 و 1500 شريحة، وقد يصل بعضها إلى 3000 شريحة. وتمثل صناعة السيارات حوالي الـ 15% من الطلب على إنتاج الشرائح العالمي، بينما تمثل الأجهزة الإلكترونية الشخصية حوالي 50%. لكن تميل عائدات الرقائق بشكلٍ أكبر نحو القطاعات غير المتعلقة بالسيارات.

وفي بداية الوباء، توقع مصنّعو السيارات بشكلٍ غير صائب أن المبيعات ستنخفض، وألغوا بعض طلبيات الرقائق، ولم يكونوا مستعدين لتلبية الطلب، لكن ذلك الانخفاض المتوقع لم يطرأ. وهذا خلق لدى مصنّعي الرقائق مزيدًا من الالتزامات لتلبية قطاع تكنولوجيا المعلومات، وقليلًا لتلبية تصنيع شرائح السيارات.

نتيجةً لذلك، أوقفت فورد آلاف المركبات غير المكتملة، بينما كانت الشركة تنتظر الشرائح للانتهاء من تجميع تلك السيارات. بينما كشفت تويوتا عن خططها لخفض إنتاج السيارات في جميع أنحاء العالم بنسبة 40% في سبتمبر/أيلول الماضي، وأوقفت جنرال موتورز إنتاج جميع السيارات تقريبًا في مصانعها في أمريكا الشمالية لمدة أسبوعين في نفس الشهر. بينما قامت تيسلا بمراجعة برامجها الخاصة لدعم الشرائح البديلة للحفاظ على مستويات إنتاجها. وخلال الربع الثالث من عام 2021، انخفضت مبيعات السيارات الجديدة في الولايات المتحدة بمقدار الثلث عمّا كانت عليه خلال نفس الفترة الزمنية من عام 2020.

وبينما بدأت شركات الإلكترونيات الاستهلاكية مثل آبل وسامسونج في تخزين الشرائح في وقتٍ مبكر، مما أنقذها من التأخيرات الهائلة التي تواجهها صناعة السيارات، أعلنت شركة آبل مؤخرًا أنه من المتوقع أن يؤدي نقص الشرائح إلى تأخير إنتاج أجهزة آيفون، وهو يؤثر حاليًا بالفعل على مبيعات أجهزة آيباد وماك.

قد يهمك: آبل تقلص من إنتاج آيباد لصالح آيفون 13

أجهزة ألعاب الفيديو

كما ذكرنا في بداية التقرير، فإنه وخلال الجائحة، تم إغلاق دور السينما والمسارح لمنع انتشار المرض، مما دفع العديد من الأشخاص إلى اللجوء إلى الترفيه المنزلي خلال فترات الحجر الصحي، مما أدى إلى زيادة الطلب على أجهزة ألعاب الفيديو. ومع إطلاق الجيل التاسع من أجهزة ألعاب الفيديو التي تزامنت مع الوباء، زاد الطلب بشكلٍ أكبر، إذ أبلغت كل من مايكروسوفت وسوني عن ارتفاعٍ قياسي في الطلب على وحدات التحكم الجديدة الخاصة بهما.

وتوقعت مايكروسوفت في فبراير/شباط 2021 أن يستمر النقص في أجهزة Xbox Series X و Series S، بينما حذرت شركة سوني قبل بضعة أشهر من أن نقص المعروض من وحدة تحكم PlayStation 5 سيستمر حتى عام 2022.

ويُذكر أن كلتا الشركتين تستخدم شرائح AMD المصنّعة بواسطة شركة تايوان المحدودة لصناعة أشباه الموصلات، مما يضع ضغطًا إضافيًا على سلسلة التوريد. ومع استمرار مشاكل الإمداد، يقوم ما يسمى بالمضاربين بإعادة بيع وحدات التحكم على مواقع الويب مثل eBay مقابل سعرٍ أعلى بمعدل 50-100% من سعر بيعها بالتجزئة.

هل سنشهد الحل قريبًا؟

من أجل معالجة أزمة الشرائح الإلكترونية ومعالجة النقص العالمي فيها، وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن في فبراير/شباط من هذا العام أمرًا تنفيذيًا لتوسيع إنتاج رقائق أشباه الموصلات داخل الولايات المتحدة. فبالرغم من أن سوق الولايات المتحدة يمثل 47% من مبيعات شرائح أشباه الموصلات في العالم، إلا أنها تمثل 12% فقط من إجمالي تصنيع هذه الشرائح، كما ذكرنا. ومن أجل الحدّ من النقص، سعى بايدن للحصول على 37 مليار دولار لتمويل تشريعاتٍ تساعد على زيادة تصنيع الرقائق على أراضي الولايات المتحدة.

وفي أبريل/نيسان الماضي، أعلنت شركة تايوان المحدودة لصناعة أشباه الموصلات عن خطة لاستثمار 100 مليار دولار في الشرائح على مدى السنوات الثلاث المقبلة لمعالجة النقص. لتوضيح حجم هذا الرقم، في عام 2020، أنفقت الشركة، التي نذكّر أنها المصنّع الأكبر في العالم، حوالي 17 مليار دولار في إنتاج شرائح أشباه الموصلات، وخططت في الأصل فقط لإنفاق ما بين 25 و 28 مليار دولار لعام 2021. لكن تغيرت الميزانية لمراعاة النقص وزيادة الطلب على الشرائح.

تختلف الآراء حول موعد انتهاء أزمة الشرائح الإلكترونية. إذ قدّر الرئيس التنفيذي لشركة تصنيع الشرائح السويسرية STMicro أن النقص سينتهي بحلول أوائل عام 2023. بينما قال الرئيس التنفيذي لشركة Stellantis الهولندية لصناعة السيارات أن النقص سينتقل معنا إلى العام المقبل بسهولة. وقال باتريك غيلسنجر، الرئيس التنفيذي لشركة إنتل، إن النقص قد يستمر لمدة عامين آخرين.

من المنصف القول أن لدينا حوالي تسعة أو عشرة أشهر وسطيًا لنعيشها في ظل هذا النقص. ومن الممكن بعدها أن تبدأ الأسعار بالانخفاض. وقد يبدأ الطلب في التباطؤ شيئًا فشيئًا خلال الـ 6 إلى 12 شهرًا القادمة. لكن من المرجح أن يستغرق الأمر عامين قبل أن يلحق العرض بالطلب ونصل إلى التوازن.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.