استمع إلى المقال

دبي تريد أن تصبح عاصمة عالمية للعملات المشفرة، لكن العديد من التحديات قد تمنع المدينة من تحقيق هذا الهدف، إذ حذر المنتقدون من أن نهج الأعمال “الودود” والقوانين الرخوة في المدينة قد يعرض المستثمرين لخطر الوقوع ضحية لمحتالي العملات المشفرة.

العقبات الأخرى التي تعترض طريق الإمارة لتحقيق مبتغاها تتمثل بالمنافسة المتزايدة من الدول المجاورة، والتهديد الذي يلوح في الأفق بغسيل الأموال القائم على العملات المشفرة، ونقص المهارات بعد الهجرة الجماعية للمواهب الأجنبية منذ نهاية الوباء، ناهيك عن الفوضى التي سببها انهيار منصة “FTX”، والذي عرّض مستقبل الصناعة بأكملها للخطر.

بدلا من التراجع عن هذه الخطط تحت وطأة التهديدات الوجودية التي تواجه الصناعة، تشبثت دبي بموقفها، وطالب وزير الذكاء الصنعي، عمر سلطان العلماء، الملأ في المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير بتبني العملات المشفرة والدفع باتجاهها، كما كانت الإمارة قد أدخلت قوانين جديدة لجعل المدينة أكثر قبولا للشركات القائمة على “البلوك تشين”، وطمأنتهم أن أصولهم ليست آمنة في المدينة فحسب، بل يمكنهم أيضا تحقيق الازدهار إذا انتقلوا إليها.

ربما تكون هذه الجهود قد آتت ثمارها، فبالعودة إلى عام 2021، كان هناك بالفعل أكثر من 400 شركة قائمة على تقنيات التشفير تعمل في دبي. إذ شجع المشهد التنظيمي منخفض الضرائب والصديق للأعمال في دبي بالفعل شركات تبادل العملات المشفرة مثل “OKX” و”Blockchain.com” و”باينانس” للحصول على تراخيص للعمل في المدينة.

في آب/أغسطس 2022، أعلن رئيس التشفير في “برايس ووترهاوس كوبرز” هنري أرسلانيان عن خطط لمغادرة شركة الأبحاث الشهيرة لإنشاء صندوق أصول رقمية بقيمة 75 مليون دولار يسمى “Nine Blocks Capital Management” في دبي، مشيرا إلى اللوائح الصديقة للعملات المشفرة في البلاد كسبب رئيسي لفعل ذلك.

كما أن استضافة مؤتمرات القمة الخاصة بالعملات المشفرة لم تعد غريبة على دبي. في الواقع، تستضيف سنويا مئات الأحداث المتعلقة بالعملات المشفرة، كما ظهرت العملات المشفرة بشكل كبير في مؤتمر “جيتكس” التقني الأخير. فالرسالة واضحة، دبي مفتوحة للأعمال القائمة على “البلوك تشين”.

على نطاق أوسع، الإمارات بشكل عام لديها نفس الحماس، إذ فرضت الدولة قيودا على غسيل الأموال القائم على العملات المشفرة، وأوضحت أن الدولة تريد أن تكون في طليعة الوجهات للشركات القائمة على “البلوك تشين”، كما أصدرت الدولة طوابع كرموز فريدة (NFTs) في عام 2021 للاحتفال باليوم الوطني الخمسين لتأسيس الدولة، وأعلنت شركة طيران الإمارات، في أيار/مايو أنها لن تبدأ فقط في قبول “البيتكوين” كطريقة دفع، ولكن أيضا ستطرح بعض المقتنيات كرموز فريدة.

من الواضح أن الإمارات العربية المتحدة بشكل عام ودبي بشكل خاص عازمة على تحويل الدولة إلى عاصمة عالمية للعملات المشفرة، لكن السؤال هو ما إذا كانوا يستطيعون.

لماذا تريد دبي ذلك؟

صناعة التشفير لها سمعة سيئة، إذ يشتهر السوق بالتقلب الشديد، وتغريدات إيلون ماسك عام 2021 التي تحكمت بقيمة السوق صعودا ونزولا خير مثال على ذلك، كما تعد هذه الصناعة أيضا موطنا للعديد من مجرمي الإنترنت لتنفيذ الهجمات الإلكترونية غير القانونية.

علاوة على ذلك، يمكن القول إن الشتاء الجاري في مجال العملات المشفرة سيجعل العديد من المستثمرين المحتملين في مجال العملات الرقمية يعيدون حساباتهم، خصوصا في ظل الانهيار الهائل والمستمر الذي يشهده القطاع منذ سنة تقريبا.

القيمة السوقية للعملات المشفرة بلغت ما يقرب من 3 تريليون دولار في عام 2021 ووصلت عملة “البيتكوين” إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق بأكثر من 65 ألف دولار، مما جعلها العملة فئة الأصول الأفضل أداء خلال العقد الماضي، وفقا لنسخة عام 2022 من تقرير “جيميناي” السنوي “حالة العملات المشفرة”.

لكن منذ ذلك الحين، وكل شيء في القطاع يهوي دون توقف، حتى الآن، تم محو 2 تريليون دولار من القيمة الإجمالية للسوق، تراجعت عملة “البيتكوين” مرة أخرى إلى المستويات التي شوهدت فيها آخر مرة في عام 2020، وتحوم حاليا نحو مستوى 16000 دولار، كما عانت “إيثر”، ثاني أكبر عملة مشفرة في العالم، من انخفاض مماثل.

الفوضى تفاقمت مع انهيار قادة الصناعة مثل “سيليسيوس” و”تيرا”، بالإضافة بالطبع إلى الزلزال الذي أحدثه انهيار “FTX” والذي قد يترك أكثر من مليون شخص دون أصول رقمية.

مع كل تلك الفوضى، قد يتساءل المرء عن سبب رغبة دبي في أن تصبح مركزا للعملات المشفرة، والسبب هو أن الأمر لا يتعلق فقط بـ “البيتكوين” أو “الأثير” أو حتى الرموز الفريدة الاستعراضية. في الواقع، الأمر يتعلق بالنفط، أو بعبارة أدق، غياب الخام.

الإمارة تتطلع إلى المستقبل

من المفاهيم الخاطئة الشائعة أن قلب اقتصاد دبي ينبض بالنفط، إلا أن المدينة لا تملك سوى جزء صغير فقط من الموارد الطبيعية مقارنة بجارتها العاصمة، أبو ظبي. نتيجة لذلك، اضطرت الإمارة منذ فترة طويلة إلى تنويع اقتصادها، وهذا هو السبب في أن مدينة الصيد السابقة تطورت إلى ميناء تجاري مزدهر لتصبح بعد ذلك وجهة لقضاء العطلات للأثرياء، وللسبب نفسه، تحاول الآن التّحول إلى قرية فائقة التقنية، وتقع العملات المشفرة والتقنيات الأساسية المرافقة لها في مركز هذه الاستراتيجية.

في حديث خاص بموقع ” إكسڤار”، يقول طاهر حمد، الأستاذ في جامعة دبي إن خطة دبي المتعلقة بـ “البلوك تشين” ستوفر الفرص الاقتصادية لجميع قطاعات الأعمال في دبي، وترسّخ مكانة دبي كرائد تقني عالمي.

كما ستسلط أشياء مثل الأحداث التقنية المتكررة في المدينة و”متحف المستقبل” الضوء على تطلعات دبي لتصبح رائدة على مستوى العالم في أشياء مثل السيارات الطائرة والمركبات المستقلة وذاتية القيادة، والهدف النهائي هو أن تخلق أكثر من 40 ألف فرصة عمل جديدة بحلول عام 2030.

عادة ما تتبنى دبي التقنيات الجديدة بسرعة كبيرة، وتقنية البلوك تشين مرتبطة بالأمان، وبالتالي ستساهم في تعزيز الشفافية في أشياء مثل العقود والإدارة.

الأستاذ طاهر حمد

الرهان على العملات المشفرة هو أيضا وسيلة دبي لتتخذ موقع الصدارة مع الجيل القادم من الإنترنت، ما يسمى بـ “الويب 3″، إذ يحرص المسؤولون في دبي على تسليط الضوء على كيفية استخدام “البلوك تشين” وتقنيات التشفير في مختلف المجالات، بعيدا عن النظرة السائدة بأنها مجرد أصول للمضاربة.

طاهر حمد يقول إن هذا هو السبب وراء قيام دبي، في عام 2016، بالكشف عن خطة لإنشاء حكومة رقمية بالكامل بحلول عام 2021، وكجزء من هذا الجهد، شكّلت دبي “مجلس البلوك تشين العالمي”، الذي يتألف من هيئات حكومية وبنوك وشركات تقنية، واليوم، تعتمد المدينة بالفعل على “البلوك تشين” في كل شيء من نظام التعليم إلى الأمن إلى النقل وحتى الصحة.

لوائح خاصة بالعملات المشفرة

لطالما تمتع رواد الأعمال القائمة على التشفير بسياسات ضرائب الشركات الصفرية في دبي، كما ازدهرت أعمالهم أيضا من حقيقة أن سكان المدينة يدفعون أيضا صفر بالمئة على جميع الدخل بجميع أشكاله، بغض النظر عما إذا كان قد تم تحقيقه في الإمارة أو في أي مكان آخر، ويتم التعامل مع “البلوك تشين” بهذا الشكل تماما، مما يعني أن متداولي العملات المشفرة يتم إعفاؤهم من دفع الضرائب على أي أرباح يتم تحقيقها من هذه الصناعة.

كما أظهرت إمارة دبي هذا الالتزام بالاقتصاد الافتراضي من خلال التطورات التنظيمية البارزة في آذار/مارس 2022، ويمكن القول إنها تجعل المدينة أكثر جاذبية للمستثمرين، إذ يوفر تنظيم الأصول الافتراضية، على الورق على الأقل، إطارا للشركات التي تتعامل مع الأصول الافتراضية مثل العملات المشفرة والرموز الفريدة.

القوانين الجديدة حددت الأصل الافتراضي على أنه “تمثيل رقمي ذو قيمة ما يمكن تداوله رقميا أو تحويله أو استخدامه كأداة للتبادل أو الدفع لأغراض الاستثمار” والرمز الفريد على أنه “تمثيل رقمي لمجموعة من الحقوق التي يمكن أن يتم إصدارها وتداولها رقميا من خلال منصة أصول افتراضية “. ومع ذلك، لم يشمل القانون مركز دبي المالي العالمي، لأن هذه المنطقة – الحرة – لديها إطار تنظيمي خاص بها.

كما وضع القانون إطار عمل “هيئة تنظيم الأصول الافتراضية” الجديدة في دبي، وهي هيئة رقابة حكومية مكرسة لتنظيم هذه الصناعة الناشئة، في عام 2022، وكُلّفت الهيئة بإنفاذ القانون، بما في ذلك ضبط الأمن ومعاقبة الشركات التي تخرقه، بالإضافة إلى إصدار تراخيص للتبادلات.

إدخال هذه القوانين، يتعارض بشكل صارخ مع النهج الأكثر حذرا الذي شوهد لدى بعض الدول الغربية تجاه العملات المشفرة، إذ تأمل دبي أن تتفوق على المنافسين الدوليين المحتملين من خلال “القفز أولا إلى الماء” وفتح البلاد أمام شركات العملات المشفرة.

استنادا إلى النهج التنظيمي البطيء من المشرّعين في الولايات المالية التقليدية، كما هو الحال في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تتمتع دبي بفرصة كبيرة لتصبح المقر العالمي للصناعات المالية الناشئة القائمة على الويب 3.

الأستاذ طاهر حمد

أول الغيث قطرة؟

إن استحداث دبي لقوانين التشفير والمناطق الحرة وخفض – أو إلغاء –الضرائب جلب بعض النتائج بالفعل، ولم يقتصر الأمر على تدفق بورصات العملات المشفرة البارزة إلى المدينة فحسب، بل شهد نمو رأس المال أيضا، وهذا لم يكن متوقعا بالنظر إلى أن التمويل العالمي لمشاريع “البلوك تشين” قد انهار بسبب الشتاء الذي تمرّ به العملات المشفرة في جميع أنحاء العالم.

في عام 2021، اكتسبت صناعة التشفير العالمية أكثر من 51.7 مليار دولار من خلال 1222 تمويل للمشاريع، وطرح للأسهم، وصفقات للأصول وصفقات للأسهم الخاصة، وفقا لشركة “جلوبال داتا” للأبحاث، بينما في عام 2022، اكتسبت الصناعة أقل من 25 مليار دولار عبر 1224 صفقة.

الإمارات العربية تمكنت من الخروج سالمة من عاصفة “البلوك تشين” الثلجية، إذ ارتفع المبلغ الذي تم ضخه في مشاريع “البلوك تشين” في البلاد من 42 مليون دولار إلى 97 مليون دولار بين عامي 2021 و 2022، وفقا لـ “جلوبال داتا”، لكن هذا لا يعني أنها تجاوزت الشتاء، إذ يظل هذا الرقم جزءا بسيطا من حجم الاستثمار في الصناعة، حتى في ظل هبوطها الحالي.

عليه، إذا كانت دبي جادة في أن تصبح العاصمة العالمية للعملات المشفرة، فإنها قطعت شوطا لا بأس به في ذلك، لكن ومع ذلك، لا تزال أمامها مجموعة من التحديات للتغلب عليها لتحقيق هذا الهدف.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.