“حرب تيك توك الأولى”.. أو كيف يمكن لتطبيق صُمّم للمرح أن يؤثر في حرب إقليمية

“حرب تيك توك الأولى”.. أو كيف يمكن لتطبيق صُمّم للمرح أن يؤثر في حرب إقليمية
استمع إلى المقال

لا يُعد الغزو الروسي لأوكرانيا أول حربٍ يتم توثيقها على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها الأولى من نوعها التي توثّق على تيك توك. إذ تم نقل مختلف أحداث الربيع العربي عام 2011 على فيسبوك وتويتر. وملأت صور ومقاطع الحرب في سوريا منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وغرق تويتر بتحديثات ومقاطع استيلاء طالبان على كابول العام الماضي.

لكن الصراع الحالي هو نوع مختلف تمامًا من حرب وسائل التواصل الاجتماعي، يغذّيها التأثير التحوّيلي لتيك توك على المعايير القديمة للتكنولوجيا. إذ أنتجت المنصة سلسلةً من لقطات الحرب التي لم نرَ مثيلها من قبل، من الجّدات اللواتي يودعن الأصدقاء إلى التعليمات حول كيفية قيادة الدبابات الروسية التي تم الاستيلاء عليها. ما دفع بعض الصحف والخبراء إلى تسميتها بـ “حرب تيك توك الأولى”

اندلاع حرب تيك توك الأولى

منذ لحظة الغزو الروسي لأوكرانيا أي منذُ قَرابة أسبوعين، استحوذت مقاطع الفيديو التي تُظهر أشخاصًا يتجمعون ويبكون في ملاجئ بدون نوافذ، وانفجارات في المدن الأوكرانية وطائرات تسرح في السماء، على تطبيق تيك توك، بعد أن اعتاد مستخدمو التطبيق على مقاطع الفيديو الخاصة بالأزياء واللياقة البدنية والرقص.

وحمّل الكثير من المؤثرين الأوكرانيين على وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد قاتمة لأنفسهم ملفوفين في بطانيات في مخابئ تحت الأرض ودبابات الجيش تتجول في الشوارع السكنية، وحثّوا متابعيهم على الصلاة من أجل أوكرانيا والتّبرع لدعم الجيش الأوكراني وطالبوا المستخدمين الروس على وجه الخصوص بالانضمام إلى الجهود المناهضة للحرب.

الغزو الروسي لأوكرانيا هو أحدث مثال على الدور المركزي الذي لعبه تيك توك في نقل الأخبار والأحداث الجارية إلى جمهور “الجيل زد” الكبير من خلال خوارزميته المشهورة بتقديم محتوى شائع حتى لو لم يتابع المستخدمون أشخاصًا مُعينين، مما يسمح للمواضيع بالانتشار بسرعة بين مستخدميها البالغ عددهم مليار مستخدم شهريًا.

وأصبح التطبيق مؤثرًا جدًا في هذا الصراع لدرجة أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ناشد الـ “TikTokers” -أي منشئي المحتوى على التطبيق- أن يساعدوا في إنهاء الحرب، وذلك في خطابٍ موجّه إلى المواطنين الروس.

كما أخذت مدوّنة السفر الأوكرانية، “ألينا فوليك“، التي لديها أكثر من 70 ألف متابع على تيك توك استراحة من نشر أبرز رحلاتها إلى مصر وإسبانيا وتركيا لتحميل مقاطع فيديو عن الحياة في الغزو وحقائب الظهر المليئة بإمدادات الإسعافات الأولية. وقالت فوليك لرويترز إنها تريد مكافحة التضليل في الأخبار الروسية التي تقول أن تصرفات البلاد كانت مجرد “عملية عسكرية” وليست حربًا تضر الأوكرانيين.

كما انتقل المؤثرون الروس أيضًا إلى التطبيق لمشاركة ردود أفعالهم. إذ قال “نيكي بروشين“، الذي لديه أكثر من 769 ألف متابع على تيك توك، في مقطع فيديو إن “الناس العاديين” في روسيا لا يؤيدون الحرب.

ومنذ عشرة أيام، طالبت منظمة الاتصالات الروسية “Roskomnadzor” بإيقاف التطبيق عن تضمين محتوى مرتبط بالجيش في المشاركات الموصّى بها للقاصرين، قائلة إن الكثير من المحتوى كان معاديًا لروسيا في طبيعته. لكن لم ترد تيك توك على ذلك.

مصادر تهدف إلى التأثير لا التوثيق

مصدر الصورة: NBC

إن الدعاية جزءٌ من كل حرب، وقلة من الناس يفهمون حرب المعلومات، بما في ذلك معظم الأوكرانيين. كما أن “ضباب الحرب” قد حلَّ بأوكرانيا، ما زاد من صعوبة معرفة ما يحدث هناك حتى على بعد 20 ميلاً خارج كييف. وقد لا نعرف لأيام أو أسابيع المسار الفعلي للمعركة.

وقال ديفيد فرينش، كبير المحررين في صحيفة “The Dispatch”، في هذا الصدد، إن وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر للناس مدى وحشية هذه الحرب، لكن هذه المنصات لا تقدم رؤيةً استراتيجية شاملة؛ مثل تموضع القوات أو العدد الحقيقي من الضحايا.

إذ أنّ كل مقطع من مقاطع تيك توك هذه هو عبارة عن لقطة صغيرة جدًا للحظة قصيرة جدًا من الوقت، غالبًا بدون أي سياق متراكب آخر. ولذا سيكون عليك حقًا قضاء الكثير من الوقت للوصول إلى الحقيقة وتجميع أحجية تيك توك لهذه المقاطع معًا.

لكن سرعة نشر هذه الخلاصات على وسائل التواصل الاجتماعي ربما تكون قد دفعت الدول الغربية إلى الإسراع بفرض عقوبات أشد صرامة. والمقاومة الأوكرانية المُلهمة التي أظهرتها بعض هذه المقاطع جعلت الكثير من الحكومات الغربية في عارٍ، ودفعتها إلى التحرك.

حرب تيك توك الأولى: نصفها زائف

عندما تم إطلاق التطبيق في الولايات المتحدة في عام 2018، وانتشر بعدها إلى العالم، تطلّب الأمر جهودًا كبيرة للترويج لنفسه باعتباره مكانًا غير سياسي تمامًا، ومكانًا لنسيان تعقيدات وأهوال العالم ومشاهدة الناس وهم يتصرفون ببساطةٍ ومرح. لكن الأوان قد فات لكي يظل هذا هو الحال: على مدار السنوات الثلاث الماضية، أصبح تيك توك موقعًا للتعليقات السياسية والنشاط السياسي والدعاية السياسية، بل وسيلة توثيق إنسانية للمدنيين على الأرض. على سبيل المثال، تمكنت صحيفة “واشنطن بوست” من تتبع تحركات القوات الروسية خلال الأسابيع العديدة الماضية باستخدام مقاطع الفيديو التي تم تحميلها على تيك توك فقط.

لكن على الجانب الآخر، هناك الكثير من الفيديوهات التي تُرفع على المنصة يُشكّ بمصادرها؛ مثل مقاطع المدن المظلمة التي تعلوها أصوات صفّارات الإنذار، والتي تهدف في الغالب لكسب المشاهدات لتحقيق الدخل لاحقًا، وليس التوثيق. كما أن الكثير من أولئك المستخدمين يدعون الناس للتبرع لهم بشكلٍ صريح.

وتيك توك هو المكان الأنسب لهذه الممارسات، إذ يمكنك إرسال مقطع “هدية” إلى جهات البث المباشر، والذي يعود عليك بالربح بنقرة زر واحدة. وبالفعل، دعا أحد الحسابات صراحةً إلى التبرع أثناء بث مقطع فيديو لاحظ البعض لاحقًا أنه تم تصويره في المملكة المتحدة. وبعض المقاطع الأخرى كانت عبارة عن مقاطع فيديو عمرها سنوات، أو تم التقاطها في مدن أخرى أثناء نزاعٍ مختلف. وبعضها تم تحريره لجعل الأمر يبدو كما لو أنها صُوّرت في لحظة متوترة بشكلٍ خاص، وبعضها حرفيًا لقطات من ألعاب الفيديو أو برامج محاكاة.

قد يهمّك أيضًا: مصير الشرائح الإلكترونية.. بين مطرقة كورونا وسندان الحرب

حرب تيك توك الأولى بالأرقام

إن صعود تيك توك الصاروخي ما كان إلا نتيجةً لمدى سهولة استخدامه. إذ تجعل مزايا التحرير والفلاتر داخل التطبيق من السهل التقاط ومشاركة العالم من حولنا أكثر من أي منصة أخرى وبوقتٍ قياسي. وكما يلاحظ أي شخص تصفح وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرًا، نادرًا ما يبقى ما يحدث على تيك تيك على تيك توك.

يقول إد أرنولد، زميل باحث في الأمن الأوروبي في معهد الخدمات الملكي المتحد لدراسات الدفاع والأمن (RUSI): “بصفتي محللًا لما يحدث في أوكرانيا في الوقت الحالي، أحصل على 95% من معلوماتي من تويتر”. قبل ذلك، كانت 90% من المعلومات كانت تأتي من مصادر رسمية، مثل مصادر المخابرات.” لكن بين فورة التغريدات، لاحظ أرنولد اتجاهًا غريبًا: جزء كبير من مقاطع الفيديو التي تتم مشاركتها موسوم بعلامة تيك توك المائية. يقول: “هذا غريب”.

لكن هذا فعليًا منطقي. فاعتبارًا من يوليو/تموز 2020، استخدم 28.5 مليون شخص من أصل 144 مليون شخص في روسيا تطبيق تيك توك، وفقًا لإحصاءات موقع “Statista”. (ولم تكن البيانات الخاصة بأوكرانيا متاحة.)

كما يمكن تشبيه تيك توك بسيلٍ جارف من المحتوى. إذ تشير الوثائق الداخلية التي قدمتها الشركة، والتي يعود تاريخها إلى يونيو/حزيران 2020، إلى نشر ما لا يقل عن 5 ملايين مقطع فيديو في الساعة. فاستمرار تدفق المحتوى على صفحة “For You” هو جوهر عمل خوارزمية تيك توك. إنه الشيء الذي يمكن أن يدفع أيُّ مستخدمٍ إلى النجومية بين عشية وضحاها، ويمكن أن يعني أيضًا أن اللقطات المرتجفة لتداعيات هجوم صاروخي روسي يمكن أن يشاهدها ملايين الأشخاص في غضون دقائق من تحميلها.

تغذي خوارزمية تيك توك واجهات المستخدمين بمقاطع الفيديو التي تعتقد أنهم متعطشين لمشاهدتها. وهناك الكثير من الإقبال على مقاطع الفيديو حول الحرب في الوقت الحالي: في الأيام الثمانية بين 20 و 28 فبراير/شباط، قفزت المشاهدات على مقاطع الفيديو الموسومة بـ #ukraine من 6.4 مليار إلى 17.1 مليار، بمعدل 1.3 مليار مشاهدة يوميًا، أو 928 ألف مشاهدة كل دقيقة. لأمل المحتوى الموسوم بـ #Украина، وتعني أوكرانيا باللغة السيريلية المحلية، يحظى بشعبية مماثلة تقريبًا، مع 16.4 مليار مشاهدة يوميًا اعتبارًا من 28 فبراير.

قد يهمك أيضًا: كيف استجابت الشركات التقنية للحرب الروسية الأوكرانية

ثمن باهظ لقاء هذه الأرقام

مصدر الصورة: نيويورك تايمز

لطالما كانت مشاركة مقاطع الفيديو خارج منصة تيك توك أداة نشرتها شركة “ByteDance” الأم للمساعدة في الترويج للتطبيق. إذ تمت مشاهدة مقطع فيديو يُظهر القنابل تمطر على كييف، 44 مليون مرة على تيك توك، وتمت مشاركته خارج التطبيق ما يقرب من 200 ألف مرة. لكن من الصعب تحديد المكان الذي ذهب إليه؛ فطريقة مشاركة تيك توك تزيل القدرة على تتبع مقطع فيديو إلى مصدره، ولكن البحث في تويتر يظهر الكثير من مقاطع الفيديو التي تمت مشاركتها من تيك توك على النظام الأساسي.

لكن هذه السرعة والوصول إلى تيك توك وخارجه لهما ثمن. إذ يمكن أن تتسبب مقاطع الفيديو المشحونة بالعواطف في إغفال الأشخاص ما إذا كانت المعلومات فيها صحيحةً أم لا. أضف إلى ذلك جمهورًا أصغر سنًا، وأحيانًا أقل إلمامًا بوسائل الإعلام، فهذه وصفة جاهزة لحدوث المشاكل.

وأفضل طريقة يمكننا فيها وصف دور العاطفة في انتشار المحتوى على نطاقٍ واسع هي مقطع فيديو يظهر جنديًا يرتدي زيًّا عسكريًا، وهو يتجه برفق إلى حقول الحبوب مع ابتسامةٍ تعلو وجهه. الفيديو، الذي نُشر على تيك توك وأعيدت مشاركته على تويتر، حصد 26 مليون مشاهدة على التطبيق، ويُزعم أنه يعطي لمحة عن الغزو الروسي لأوكرانيا. إلا أنه ليس كذلك! يعود تاريخ الفيديو إلى عام 2015، ونُشر في الأصل على إنستاغرام، وفقًا لمدققي الحقائق.

لمكافحة هذه المشكلة، دخلت تيك توك في شراكة مع منظمات مستقلة للتحقق من المعلومات لمحاولة مكافحة المعلومات المضللة، لكنها كافحت لإبطاء انتشار الأخبار المزيّفة أو المشوّهة على منصتها أكثر من بعض منافسيها الأكثر شهرة على وسائل التواصل الاجتماعي. والسبب؟ مرةً أخرى، يعود الأمر إلى تصميم تيك توك وآلية عمله.

أظهرت أبحاثٌ سابقة أن الأخبار المزيّفة تنتقل أسرع بست مرات من المعلومات الصحيحة على وسائل التواصل الاجتماعي، ويرجع ذلك في جزءٍ كبيرٍ منه إلى قدرتها على إثارة استجابة عاطفية قوية. وتم تصميم تيك توك خصيصًا لجذب الانتباه. فحتى المعلومات الصحيحة يمكن أن تعمل من خلال جذب الغضب، ولا يوجد هناك ما هو أكثر إثارةً للغضب مما يحدث في أوكرانيا في الوقت الحالي. وهذا ما يسمّى بـ “بصناعة الحس الجماعي”.

وعلى الرغم من أنه حتى الآن هيمنت الحسابات المؤيدة لأوكرانيا على الخطاب على تيك توك، فإن هناك مقاطع الفيديو التي تعمل أيضًا في يد بوتين. ومن المؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي يتم تسليحها كما الجيوش. يتضمن ذلك معلومات مضلّلة أو خاطئة، مصمّمة إما للترهيب أو للاستفادة من الشهية الهائلة لمحتوى الحرب.

قد يهمك أيضًا: شركات التكنولوجيا الآسيوية في حيرة من أمرها إثر العقوبات الأميركية على روسيا

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.