الدور الذي لعبته الهواتف المحمولة في الحرب على أوكرانيا

الدور الذي لعبته الهواتف المحمولة في الحرب على أوكرانيا
استمع إلى المقال

آلاف الحروب نشبت منذ فجر التاريخ لمختلف الأسباب، ولكن الشيء الوحيد المشترك بين جميع هذه الحروب، أنها كانت تترك وراءها دمارا يقضي على الحضارات ويخفي آثارها للأبد، لذلك قال المؤرخون إن “التاريخ يكتبه المنتصرون”، وهو ما جعل جرائمهم تختفي وتمر دون أن تشعر بها الأجيال المستقبلية، ولكن هذه القاعدة التي استمرت لآلاف السنين تغيرت الآن، والتاريخ لم يُعد يكتبه المنتصرون وحدهم، بل أصبح مشروعا للوعي الجماعي يشارك فيه كل من يمتلك هاتف محمول. 

الغزو الأخير الذي قامت به روسيا للأراضي الأوكرانية أثبت أن الهواتف المحمولة لم تعد مجرد أدوات ترفيه، بل ارتقت لتصبح سجّلا حيّا يحتفظ بالكوارث التي تخلفها الحرب وراءها، إلى جانب أنها تحولت إلى أدوات عسكرية يمكنها أن تؤثر في الحرب الفعلية وتغيّير مجريات الأمور، وهذا ما يدفعنا للتساؤل، كيف أثّرت الهواتف المحمولة في مجريات الغزو الروسي؟   

قد يهمك أيضا: أسباب إخفاق هجمات روسيا السيبرانية على أوكرانيا

سجل حي ينمو يوميا 

الحروب ليست جديدة على تاريخ البشر ويمكن تتبعها إلى بداية الحضارات الإنسانية كما نعرفها اليوم، ورغم التطور الذي شهدته الحضارات البشرية عبر التاريخ، إلا أن الحروب كانت ترفض هذا التطور ولا تحاول حتى الحفاظ عليه مخلّفة وراءها الخراب والدمار، وربما كان سقوط بغداد في شباط/فبراير 1258 على يد المغول أحد أوضح الأمثلة على هذا الخراب، إذ أن هولاكو لم يكتف بتدمير المدينة وإبادة أهلها، بل أحرق محتويات مكتبتها التي ضمت آلاف الكتب التي لم يستطع التاريخ تعويضها ليختفي جزء كبير من تاريخ العالم بسبب طغيان مجرم حرب واحد. 

لو كانت الهواتف المحمولة موجودة وقتها، لتمكن علماء بغداد من أخذ نسخة احتياطية من كُتبهم ورفعها إلى خدمات التخزين السحابي لحمايتها من بطش هولاكو كما أنهم كانوا ليسجلوا كل تلك الجرائم البشعة التي إرتكبها هولاكو على أراضيهم، وهذا هو الدور الذي لعبته الهواتف المحمولة أثناء الغزو على أوكرانيا. 

ملايين الهواتف المحمولة الموجودة على الأراضي الأوكرانية وحولها أصبحت أعين حيّة ترى كل شيء وتنقل الصورة الحقيقة للحرب إلى كل بيت في العالم حتى لا يتمكن أحدهم من الكذب وكتابة التاريخ على هواه. 

Embed from Getty Images

منظمة “Mnemonic” غير الربحية والتي تتخذ من برلين مقرا لها، تمكنت من جمع أكثر من 2.8 مليون سجل  رقمي لأحداث الحرب في أوكرانيا منذ أن بدأت، وتشمل هذه السجلات مقاطع فيديو وصور حية ومقاطع صوتية لجميع أحداث الغزو من تخريب للممتلكات وقصف المدنيين إلى جانب الدمار الذي حدث في المنشآت الخرسانية الأوكرانية، وهو سجل يمكنه المساعدة لاحقا في مقاضاة مجرمي الحرب وتتّبعهم وإثبات جرائمهم بشكل لا يدعُ مجالا للشك. 

قد يهمك أيضا: “ميتا” تلاحق حملات التلاعب على منصاتها حول العالم.. ما علاقة روسيا؟

السجل الذي تجمعه المنظمات غير الربحية مثل “Mnemonic” وغيرها لا يشكل إلا جزءا من الوعي الجماعي والجماهيري للحرب، وهو سجل يهدف لتقديم مرجع دائم معتمد يثق به الباحثون  والجهات القانونية، ولكنه ليس الطريقة الوحيدة أمام العامة والمدنيين الذين يرغبون في مشاهدة بشاعة الحرب، إذ إن عملية بحث بسيطة عبر أي منصة تواصل اجتماعي تظهر لك آلاف وربما ملايين المقاطع لقصص إنسانية عديدة حدثت وسط أصوات المدافع. 

مجريات الحرب قد لا تتغير بسبب هذا السجل الذي جمعته مختلف الهيئات ونقلته منصات التواصل الاجتماعي، ولكنه يساهم في تغيير نظرة المجتمع الدولي إلى موسكو ويجعلها غير قادرة على إخفاء بشاعة أفعالها، ويثبت للأوكرانيين أن العالم أجمع يقف إلى جوارهم في مأساتهم، وهو ما قد يؤثر في حالتهم النفسية. 

أداة حربية فائقة 

الهواتف المحمولة لا تشكل أداة لتسجيل بشاعة الحرب فقط، بل أصبحت جزءا من المستشعرات والأدوات العسكرية التي يستخدمها الجيش الأوكراني لتوجيه الضربات الموجعة للغزاة الروس، وذلك عبر استخدامها لتوجيه الطائرات المسيّرة أو حتى معرفة مواقع تمركز الجيش الروسي، لذلك يقول إليوت كوهين في حديثه مع صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، وهو باحث في التاريخ الحربي والاستراتيجي في مركز الدراسات الدولية بواشنطن أن الهواتف المحمولة هي سلاح ذو حدين بالنسبة للعاملين في الاستخبارات حول العالم، إذ قد تكون نعمة تقدم لهم معلومات لا يمكن الاستغناء عنها أو نقمة تنقل أخبارهم إلى العدو إذا ما تم استخدامها بشكل سيء.

Embed from Getty Images

مثال حي على ذلك هي الضربة التي قامت القوات الأوكرانية بتنفيذها على إحدى المدارس النائية في منطقة خيرسون، إذ قام أحد أفراد الجيش الروسي بتسجيل عدة مقاطع لأصدقائه في الجيش من زوايا مختلفة، الأمر الذي من شأنه تمكين الاستخبارات الأوكرانية من تحديد موقع المدرسة واستخدام هجمات المدفعية الدقيقة للقضاء على 30 فرد من الوحدة التي تمركزت في تلك المنطقة.

الهجوم المضاد على خيرسون ليس المرة الأولى أو الوحيدة التي استخدم فيها الجيش الأوكراني معلومات من منصات التواصل الاجتماعي، وذلك وفقا لتقرير صحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن الجيش الأوكراني كرر هذه الهجمات ثلاث مرات خلال مدة الحرب بأكملها. 

دليل دامغ لا يمكن إنكاره 

سهولة نقل المعلومات عبر الهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي تعني أن كل من يمتلك هاتف محمول ووصول إلى شبكات التواصل الاجتماعي قادر على نقل أي شيء يرغب فيه، وذلك بصرف النظر عن مصداقية هذه المعلومات أو حتى مدى قانونية نشرها علانية. 

قد يهمك أيضا: العقوبات التقنية تدفع روسيا لاستخدام تقنيات بالية

أندرو هوسكينز، هو بروفيسور للأمن العام في جامعة “غلاسكو” أكد في حديثه مع صحيفة “WSJ” أن “تيليغرام” كمثال هو أحد أخطر منصات التواصل الاجتماعي في هذه الحرب لأنه لا يضع أي رقابة على المحتوى المنشور عبره، ويؤكد قائلا “بعض المحتوى المنتشر عبر قنوات المنصة يخترق كل اتفاقيات جنيف ويعرض مشاهد لا يجب أن تظهر للعامة”. 

المؤسسات التي تعمل في تسجيل هذه الأحداث وبناء السجلات الحية للحرب تعتمد بشكل كبير على البشر في تنقيح المشاهد التي تصل إليهم، ولكنها أيضا تستخدم أدوات الذكاء الصنعي من أجل مرحلة التنقيح الأولية التي تزيل المقاطع والصور التي تخترق “اتفاقيات جنيف” وتجمعها بعيدا عن أعين العامة. 

Embed from Getty Images

يوجين بوندارينكو، وهو أحد العاملين في مؤسسة “Mnemonic” تحدث مع صحيفة “WSJ” أيضا وقال ” من الصعب أن تحدد الأشخاص الذين ارتكبوا هذه الفظائع في أوكرانيا، ولكن على الأقل نستطيع إثبات الأوامر التي ترسلها موسكو لجنودها في الحرب، وبالتالي لن تستطيع إنكاره ولن يختفي بسهولة”. 

مؤسسة “Mnemonic” تمكنت من إثبات هجمتين منفصلتين من روسيا على مؤسسات مدنية في أوكرانيا بما فيها مستشفيات على بعد 140 كيلومترا عن العاصمة كييف، وهي هجمات حاولت موسكو إنكارها مرارا وتكرارا، كما استطاعت مؤسسة أخرى تدعى “Bellingcat” من إثبات هجوم للقوات الروسية على طائرة ماليزية عام 2014 بفضل مقاطع مسجلة من هاتف محمول. 

الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية كان الحدث الأهم في العام الماضي، وتحول من مجرد حدث سياسي يبعد عن المنطقة آلاف الكيلومترات، إلى شأن محلي ودولي يتابعه المواطن المعتاد بشغف واهتمام كبير بفضل التسجيل الحي ومشاركة المقاطع المتعلقة بالحرب. 

التسجيل الذي يحدث الآن للحرب سيكون أساس إعادة الحقوق لملايين الأوكرانيين الذين ارتُكبت في حقهم جرائم حرب سيدوم أثرها لأجيال قادمة. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.