ما الذي يجعل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مركزا للمد التكنولوجي الصيني؟

ما الذي يجعل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مركزا للمد التكنولوجي الصيني؟
استمع إلى المقال

على مر السنين، استثمرت الكيانات الصينية بكثافة في السكك الحديدية والموانئ وقطاع الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولكن، في ظل غياب اتصال الإنترنت السريع، وقوة البرمجيات، والأمن السيبراني، لم تكن هذه البنى التحتية قادرة على العمل بفعالية، ما جعل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مركزا للمدّ التكنولوجي الصيني.

اليوم، توفّر “هواوي” تكنولوجيا الاتصالات لنظام السكك الحديدية الوطني المغربي، وقد أنشأت مركزا لوجستيا في ميناء “طنجة”، وشاركت في بناء وإطلاق مشروع مدينة مراكش الآمنة، وعلى بعد ما يقرب من 7000 كيلومتر، وقّع مجلس الأمن السيبراني في الإمارات العربية المتحدة مذكرة تفاهم مع “هواوي” في مؤتمر الأمن السيبراني “GISEC 2022” في دبي للتعاون في تعزيز الاستراتيجيات السيبرانية المحلية، وفي الوقت نفسه، تعمل الحكومات وشركات الاتصالات في ثماني دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع “هواوي” لتجربة شبكة الجيل الخامس الخاصة بها وتطويرها ونشرها، وفي عام 2021، التزمت “هواوي” بضخ 15 مليون دولار في سوق الحوسبة السحابية في الشرق الأوسط.

هذه شركة صينية واحدة فقط، من بين العشرات النشطة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

تعاون أبعد من تجاري

على عكس مشاريع مبادرة “الحزام والطريق” التقليدية التي غالبا ما تقودها الشركات المملوكة للدولة، فإن طريق الحرير الرقمي تقوده شركات التكنولوجيا الخاصة التي تحركها الأرباح في المقام الأول، إلا أنها رغم ذلك، تعود بملكيتها إلى “الحزب الشيوعي” الصيني الحاكم.

قد يهمك: حرب التكنولوجيا الباردة: الجزء الثاني – طريق الحرير الرقمي

الجهود التي تبذلها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لرقمنة و تنويع اقتصاداتها جعلت منها أسواقا جذابة لهذه الشركات الصينية لتوسيع وجودها في الخارج. إذ تُشكّل المنطقة بنية تحتية مادية ورقمية مستقرة نسبيا بالنسبة للشركات التي تتطلع إلى دخولها مقارنة بمناطق الحزام والطريق النامية الأخرى، هذا بالإضافة إلى تغلغل الإنترنت والخدمات القائمة عليها بازدياد، والاقتصاد الرقمي المتوقّع أن يصل إلى 400 مليار دولار بحلول عام 2030.

كل هذا يعطي انطباعا بأن التعاون التكنولوجي بين الصين والشرق الأوسط وشمال إفريقيا مدفوع ببساطة بقوى السوق. ولكن، المنطق الذي يدفع مشاركة الصين مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يمتد إلى ما وراء قانون العرض والطلب، ويدور في عالم المصالح والاستراتيجيات الجيوسياسية.

الحاجة للتمدد تقنيا وجغرافيا؟

يجب أن نشجع وندعم شركات الإنترنت الصينية للانطلاق إلى العالمية… من أجل تحقيق مبدأ “أينما كانت مصالحنا الوطنية، فإن تكنولوجيا المعلومات لدينا ستغطّي أيضا تلك المناطق.

الزعيم الصيني الأعلى شي جين بينغ – 2016

من خلال “طريق الحرير الرقمي”، تسعى الصين إلى ربط أصولها المدنية والعسكرية على طول “مبادرة الحزام والطريق”، ويمثل “كابل الألياف البصرية لباكستان وشرق إفريقيا الذي يربط أوروبا” أو (“بيس” – “PEACE”)، مثالا على هذه الجهود.

“بيس” يمر عبر الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الأكبر في “مبادرة الحزام والطريق”، إلى جيبوتي، حيث أنشأ الجيش الصيني قاعدة بحرية في عام 2017. ومن هناك، يمر عبر مضيق “باب المندب” في اليمن، ويتحرك نحو منطقة “تيدا السويس” للتعاون الاقتصادي والتجاري في مصر التي بنتها الصين، ثم يسافر عبر البحر الأبيض المتوسط وما بعده إلى أوروبا.

مشاريع البنية التحتية مثل “بيس” تضمن أن مشغّلي الموانئ الصينيين يتمتعون باتصال عالي السرعة ومنخفض زمن الوصول؛ وهو أمر ضروري للحفاظ على سلامة سلاسل التوريد والأنشطة الأخرى التي تعزز الاستقرار الاقتصادي للصين الذي تسعى الحكومة المركزية جاهدة لتحقيقه، خصوصا مع اضطراب سلاسل التوريد وتزعزع الاقتصاد الداخلي حاليا. 

إضافة إلى ذلك، فإن الصين، مثل البلدان التوسعية الأخرى، ستعتمد على هذه البنية التحتية المدنية لتنسيق العمليات العسكرية، ولا ينبغي أن يكون دافع بكين لفرض السيطرة على هذه الشبكات مفاجئا.

علماء من الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ربطوا القوة العسكرية مباشرة بـ “قوة المعلومات” على اعتبارهما عاملين مترافقين دوما “الشبكة هي أساس قوة المعلومات. بدون دعم شبكات النطاق العريضة والمتنقلة في كل مكان، فإن جيش المعلومات القوي هو مجرد كلام فارغ”.

أزمة “صواريخ مضيق تايوان” عام 1996 أظهرت بدقة كيف يمكن للحلقة المفقودة في مجموعة التكنولوجيا أن تعطل العمليات العسكرية عندما فقد جيش “التحرير الشعبي” مسار صاروخين أطلقهما في بحر الصين الشرقي، إذ أرجع ضباط الجيش الصينيون الفشل حينها إلى حدوث خلل في تقنية الأقمار الصناعية لتحديد المواقع التي تسيطر عليها الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، عملت الصين بجد لتطوير نظام “بيدو” للملاحة عبر الأقمار الصناعية و تطلّعت إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أجل شركاء للتعاون.

في عام 2017، أطلقت البلاد “منتدى بيدو” للتعاون بين الصين والدول العربية. بعد وقت قصير من اختتام المنتدى الثاني في تونس في عام 2019، وقّعت وزارة الدفاع السعودية ولجنة تطوير المعدات الصينية مذكرة تفاهم للتعاون في الاستخدام العسكري لـ “بيدو”، وهو نظام ملاحة صيني عبر الأقمار الصناعية تعتبره الصين بديلا للـ “GPS” الأميركي.

من المسلّم به أن البيانات التي تم جمعها من هذه الأقمار الصناعية لها تطبيقات تمتد إلى ما هو أبعد من المجال العسكري. على سبيل المثال، تم نشر “بيدو” تجاريا في مجالات متنوعة، مثل المراقبة البيئية والزراعة الذكية والإغاثة في حالات الكوارث والنقل في المملكة العربية السعودية والجزائر ولبنان وعمان والمغرب.

البيانات.. نفط القرن الواحد والعشرين

الكابلات البحرية
مصدر الصورة: شبكة المراقبة والبيانات الأوروبية

معظم البنى التحتية على طول طريق الحرير الرقمي – وحول العالم عموما – تعتمد على البيانات. الكابلات البحرية، على سبيل المثال، تنقل أكثر من 95 بالمئة من حركة الإنترنت العالمية، وتنقل تريليونات الدولارات من المعاملات المالية الدولية يوميا. وبالإضافة إلى كابل “بيس”، قامت الشركات الصينية مثل “HMN tech” (المعروفة سابقا باسم “Huawei Marine”) و”China Telecom” و”China Unicom” ببناء أو ترقية أو الحصول على حصص ملكية في تسعة كابلات أخرى على الأقل تعبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

قد يهمك: الكابلات البحرية كمواقع للنزاع والصراع والسباق نحو السيادة على البيانات

في الوقت نفسه، فازت شركات مثل “معهد بكين للجينوم” بعقود بمئات الملايين من الدولارات مع دول تعتبر حليفة للولايات المتحدة مثل إسرائيل والإمارات والسعودية. بفضل هذه الصفقات، أصبحت الشركة الآن مطّلعة على أكوام من البيانات البيولوجية الحساسة في تلك الدول.

الصين أصبحت تنظر إلى البيانات على أنها سلعة مهمة ومصدر قوة. إذ تصف وثائق السياسة الصينية الرئيسية مثل خطة العمل لتعزيز تطوير البيانات الضخمة (2015) والخطة الخمسية الثالثة عشرة (2016) البيانات باعتبارها “موردا استراتيجيا تأسيسيا” جنبا إلى جنب مع الأرض والعمالة ورأس المال، وتدعو خطة العمل الدولة إلى “التقدم الشامل في تطوير وتطبيق البيانات الضخمة” و”تسريع بناء دولة بيانات قوية”. وعليه، أنشأت بكين منذ ذلك الحين أُطرا قانونية للشركات لتقديم البيانات إلى الحكومة المركزية لأسباب تتعلق بالأمن القومي.

المحللون أثاروا منذ ذلك الحين مخاوف من أن البيانات التي تم جمعها على طول طريق الحرير الرقمي في الصين قد تساعد الصين على التلاعب بالأوضاع السياسية ونشر الاستبداد وتقويض الديمقراطية. إذ أن العلاقة الغامضة بين القطاعين العام والخاص والغموض المحيط بما يشكل “أسس للأمن القومي” في البلاد عززت هذه المخاوف.

جبهة في حرب التكنولوجيا الباردة

على خلفية التنافس المتجدد بين أكبر قوتين في العالم اليوم – الصين والولايات المتحدة – أصبحت بكين تنظر إلى تعاونها التكنولوجي مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على أنه مهم بشكل متزايد في مواجهة الجهود الأميركية لاحتواء قوة الصين الصاعدة ونفوذها. منذ عام 2018، نجحت الولايات المتحدة في إقناع العديد من الشركات والدول الحليفة في جميع أنحاء العالم بـ “فك الارتباط” بالتكنولوجيا وسلاسل التوريد الصينية. ومنذ ذلك العام، تراجعت الاستثمارات الصينية ومشاريع البنية التحتية في كل منطقة حول العالم، باستثناء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

كما أن تدفق رأس المال يتحول ببطء إلى أن يسري بالاتجاهين، حيث تستثمر دول الخليج الآن في التصنيع والتكنولوجيا المتقدمة، والبحث والتطوير في الصين. على سبيل المثال، عندما سحبت شركة “جاكا روبوتيكس”، وهي شركة صينية ناشئة تصنع روبوتات تساعد في خطوط الإنتاج، جولة تمويل من “السلسلة D” بأكثر من 150 مليون دولار في حزيران/يوليو 2022، كان أحد المستثمرين الرئيسيين صندوق نمو تابع لشركة “أرامكو السعودية فينتشرز”.

بعد شهرين، أعلنت “الشركة السعودية للذكاء الصنعي” (SCAI) أنها ستضخ حوالي 206 مليون دولار في مشروع مشترك مع شركة “سينس تايم” الصينية لبناء مختبر ذكاء صنعي حديث، وتطوير النظام البيئي لتقنية الذكاء الصّنعي في المملكة العربية السعودية.

في سعيها للسيطرة على التقنيات الاستراتيجية المهمة للمستقبل، اتجهت الصين أيضا إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لاكتساب الابتكارات والمعرفة الرقمية. إذ أصبحت البيئة الابتكارية في إسرائيل هدفا رئيسيا في هذا الصدد. فمنذ عام 2002، كانت الغالبية العظمى من الاستثمارات الصينية وصفقات الاندماج والاستحواذ في إسرائيل في قطاع التكنولوجيا، بقيمة تزيد عن 9 مليارات دولار.

من خلال هذه الصفقات، استحوذت “هواوي” على شركة “هيكساتير” الإسرائيلية الناشئة للأمن السيبراني مقابل 42 مليون دولار، وشركة تكنولوجيا المعلومات “توغا نيتووركس” مقابل أكثر من 100 مليون دولار. واليوم، توظف “توغا نيتووركس” أكثر من 350 خبيرا رائدا وتستمر في العمل كمركز تابع لـ “هواوي” للبحث والتطوير.

قد يهمك: ما تأثير العقوبات الغربية على الصين وتايوان بمجال تصنيع الرقائق؟

مع وجود 9547 شركة نشطة في مجال التكنولوجيا الفائقة، تُعد إسرائيل بلا شك المصدر الأكثر إغراء للتقنيات المبتكرة في المنطقة. ولكن عندما يتعلق الأمر بشراكات البحث والتطوير الصينية، فقد نظرت بكين إلى ما هو أبعد من “وادي السيليكون” في إسرائيل. حيث أنشأت “Huawei OpenLabs” (أو “مختبرات هواوي المفتوحة”) في القاهرة ودبي واسطنبول لتطوير ابتكارات في الحوسبة السحابية والبيانات الضخمة والمدن الذكية والتقنيات الأساسية الأخرى. وتعتبر المنشأة في تركيا أكبر منشأة بحث وتطوير خارجية لشركة “هواوي”، وتتلقى تمويلا يزيد عن 20 مليون دولار سنويا.

بعد “هواوي”، شهد عام 2018 اتفاق “علي بابا كلاود” وجامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا في الإمارات على إطلاق مختبر ابتكار مشترك للذكاء الصنعي من أجل طاقة نظيفة. في نفس العام، دخل المركز الدولي للزراعة الملحية في دولة الإمارات العربية المتحدة في شراكة مع “معهد بكين للجينوم” لإنشاء مركز متقدم لعلم الجينوم.

تعاون.. من طرف واحد

في ظاهر الأمر، تبدو هذه الشراكات مربحة للجانبين. ومع ذلك، تشير دراسة أجريت في نيسان/أبريل 2022 من قبل باحثة الاقتصاد السياسي تينهينان القاضي إلى أن هذا ليس هو الحال دائما. في فحصها لجهود التوطين التي تبذلها “هواوي” في الجزائر ومصر، أشارت القاضي إلى أن الشركة غالبا تشارك في التدريب والتصنيع والبحث والتطوير بطريقة مصممة للحفاظ على الأفضلية التكنولوجية للشركة، دون الانخراط في بناء القدرات المحلية بشكل هادف.

لا يستطيع أحد إنكار وجود فوائد اقتصادية واجتماعية هائلة للتعاون مع الصين في المجال الرقمي، بما في ذلك تعزيز الكفاءة الصناعية، وخلق فرص العمل، وتحسين الوصول إلى التعليم، وتحسين سلامة الطرق. كما أن الشركات الصينية تقدم أحدث التقنيات بأسعار في متناول الجميع (اقرأ: تزويد معدات شبكات الجيل الخامس بأسعار رخيصة.. لماذا القلق؟)، ولا تشترط الصين في تعاوناته إضفاء الطابع الديمقراطي على المؤسسات المحلية أو تحريرها، ما يجعلها أكثر ملائمة لطبيعة العديد من أنظمة المنطقة الشمولية.

بغض النظر عن هذه الفوائد المتصورة، سيكون من السذاجة أن يتجاهل الخبراء وصُنّاع السياسة الأبعاد الجيوستراتيجية للمدّ التكنولوجي الصيني. ففي خطاب ألقاه في أيار/مايو 2021 قبل تجمع المئات من نخبة العلماء في بكين في قاعة “الشعب الكبرى” في بكين، قالها شي جين بينغ بنفسه:

لقد أصبح الابتكار التكنولوجي ساحة المعركة الرئيسية للعبة الاستراتيجية الدولية، ودول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا جزء من هذه اللعبة، سواء اعترفت بذلك أم لا.

مع ازدياد اعتماد دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على أنظمة التكنولوجيا الصينية، يزداد نفوذ بكين وتبعية الدول المضيفة لها، وتعمل هذه التبعيات الناشئة كآلية ردع؛ من حيث أن أي حكومات أو شركات تتجرأ على الإساءة إلى الصين، قد تخاطر بالانعزال عن سوقها الهائل بالأموال والتقنيات الحيوية التي تدخل في الحياة اليومية. من وجهة نظر بكين، من شأن هذا أن يساهم، بشكل مثالي، في تشكيل عالم أكثر ملاءمة للصين ومصالحها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.