أثر التقنية في النزاعات الجيوسياسية

استمع إلى المقال
|
التطور التكنولوجي السريع الذي يحدث في جميع القطاعات أقحم التكنولوجيا في جميع جوانب حياتنا، وأصبحت مكونا لا يمكن الاستغناء عنه ويقدم للمستخدم المعتاد الكثير من الفوائد المختلفة، ولهذا كان من المتوقع أن يمتد أثر التكنولوجيا الحديثة إلى الفضاء الجيوسياسي.
الحضور التكنولوجي في الفضاء الجيوسياسي يظهر بوضوح لمن يبحث عنه، وهو يبرز في عدة مجالات مختلفة بداية من الحماية الوطنية عبر الأمن السيبراني وحتى بناء العواصم الافتراضية والاستعداد للكوارث المختلفة، ولكن إلى أي مدى أقحمت التقنية نفسها في عالم النزاعات الجيوسياسية.
الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية بدأ منذ أكثر من عام تقريبا، وبرغم الكثير من التوقعات والتحليلات السياسية، تمكنت كييف من النجاة طوال هذا العام ومقاومة جحافل الجيش الروسي الذي تتخطى أعداده جيش أوكرانيا.
كييف تمكنت من تسخير قوة التكنولوجيا لصالحها حتى تتمكن من مقاومة الغزو الروسي والدفاع عن نفسها دون قلق أو خوف على المعلومات والبيانات الحكومية الخاصة بها، وذلك بفضل تقنية الحكومة الإلكترونية التي بدأها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قبل الغزو بعامين تقريبا، إذ رفعت وزارة التحول الرقمي جميع مستندات وأوراق وبيانات الحكومة إلى السحابة وأتاحت هذه السحابة للعاملين في الحكومة حتى يتمكنوا من مواصلة أعمالهم حتى وإن دمرت مباني الحكومة ذاتها ولم تعد قائمة، ثم قدمت واجهة خاصة للمواطنين، تمكنهم من إرسال أي صور أو مقاطع فيديو للجيش المحتل، ليتحول بذلك شعب أوكرانيا إلى وحدة استخبارات حيّة تعمل طوال الوقت دون كلل أو ملل.
قد يهمك أيضا: أسباب إخفاق هجمات روسيا السيبرانية على أوكرانيا
استخدام كييف للتكنولوجيا تخطى مجرد الخدمات السحابية وامتد إلى أحدث التقنيات التي تحولهم بحق إلى حكومة إلكترونية كاملة، وذلك كان بفضل اعتمادها على تقنيات “ستارلينك” للإتصال بالانترنت الفضائي، وهو ما جعلها تستغني عن وحدات الإنترنت الأرضية المعتادة واستبدالها بوحدات أرضية سهلة النقل ويمكن وضعها في أي مكان لتستقبل الإنترنت وإلى أي مكان، كما استخدم الجيش الأوكراني الطائرات المسيّرة أكثر من مرة للقيام بالمهام الاستطلاعية وإيقاف الطائرات الروسية.
Embed from Getty Imagesرشاقة أوكرانيا في التعامل مع المنتجات التقنية المتاحة لجميع المستخدمين حول العالم وليس الحكومات فقط مكّنتها من الصمود لمدة عام أمام غزو من جيش يفوقها عددا وخبرة عسكرية وهو ما ضرب عرض الحائط بجميع التوقعات العسكرية التي بُنيت على أساس قوة كييف العسكرية فقط دون احتساب هذه الرشاقة.
موسكو أدركت الدور الذي لعبته التقنية في صمود كييف أمامها، لذلك شنت مجموعة كبيرة من الهجمات السيبرانية المكثفة على المنصات الأوكرانية والحسابات المختلفة من أجل سرقتها أو تعطيلها، ولكنها لم تتمكن من مجارات قدرات كييف التقنية المتقدمة.
في الماضي، كان جمع المعلومات عن الأعداء يتطلب زرع خلايا نائمة وسط منازلهم ومحاولات مختلفة لإرسال الرسائل السرية بين هذه الخلايا النائمة والمسؤولين عن تشغيلها، وكانت هذه العملية تتطلب الكثير من الوقت والجهد وقد لا تثمر عن أي معلومات حقيقية أو مفيدة، ولكن في عصر الإنترنت الفائق السرعة، فإن كل ما تحتاجه هو تطبيق ذكي قادر على جمع هذه المعلومات بسرعة ومن مصدرها.
تواجد الأجهزة التقنية المختلفة في كل منزل وفي يد كل شخص أتاح فرصة أمام الشركات السيئة والتي لا تهتم بخصوصية المعلومات بالشكل الكافي لأن تجسس وتسرق البيانات التي تخزّن في هذا الهاتف أو حتى تمر من أمامه، مما يتيح لها بكل سهولة الوصول إلى معلومات وأماكن لم تكن تستطيع الوصول لها لولا هذه التقنية، وربما كانت الأزمة التي سببتها “هواوي” في عام 2019 عندما أتاحت بابا خلفيا للتجسس على اجتماعات الاتحاد الإفريقي وسرقة تسجيلات الجلسات الخاصة بها مثالا حيا على قدرات التجسس عن بُعد في القرن الواحد والعشرين.
“تيك توك” أيضا هو واحد من أخطر الأسلحة التقنية في القرن الأخير، وذلك بسبب انتشاره الواسع وقاعدته الجماهيرية الواسعة، وإذا غضضنا النظر عن خوارزمية التطبيق التي لا تهتم بجودة المحتوى المقدم عبرها، فإننا يجب أن نتوقف أمام الصلاحيات المختلفة التي يطلبها التطبيق التي تسببت في مخاوف أمنية من عدة دول حول العالم، وذلك دون ذكر الحادثة التي اعترفت “تيك توك” فيها بالتجسس على الصحفيين.
قد يهمك أيضا: من “تيك توك” إلى البالونات.. مساعي الصين الحثيثة على التجسس
قطاع الأمن السيبراني قادر على التعامل مع التهديدات المباشرة والتي تتسبب في الاختراقات الأمنية وتسريب البيانات، ولكن التهديدات الخفية مثل كاميرات “هواوي” أو صلاحيات “تيك توك” لا يمكن التعامل معها بالطرق المثالية أو المباشرة، وذلك لأنها لا تشكل تهديدا على الأمن السيبراني بشكله الواضح والمفهوم، وبالتالي، فإن الحكومات المختلفة تلجأ لحظر هذه التقنيات لتجنب مخاطرها بشكل عام، وربما كان الحظر المحيط بمنتجات “هواوي” وتقنياتها في ألمانيا وأميركا هو المثال الأوضح لذلك.
الحديث الدائر حاليا عن تقنيات الذكاء الصنعي واستخداماتها المختلفة يهمل دائما أحد أهم وأوضح الاستخدامات، وهي الاستخدامات العسكرية والاستخباراتية، وذلك رغم وجود حالات واضحة لاستخدامه.
المثال الأوضح هو نظام الذكاء الصنعي الذي طورته أوكرانيا مؤخرا لتصنيف وتحليل المعلومات التي تصل إليها عبر القنوات المختلفة من أجل تحديد المعلومات الصالحة للاستخدام أو التي يمكن الاستفادة منها عسكريا في مواجهة الغزو الروسي، واستطاعت عبر هذا النظام استقبال مئات الآلاف من الصور والمقاطع المختلفة واستخراج المعلومات الهامة منها مثل الهجوم الذي قامت به على نقطة تمركز روسية اكتشفتها عبر مجموعة من مقاطع الفيديو المنشورة على “إنستجرام”.
قد يهمك أيضا: مبتكر “ChatGPT” يحذر من تطور الذكاء الصنعي المخيف
طبيعة تقنيات الذكاء الصنعي تختلف عن بقية التقنيات والأسلحة الحربية المختلفة، إذ إن الذكاء الصنعي يتطور ويحسّن من قدراته في كل مرة يتم استخدامه فيها، لذلك كلما زاد استخدام تقنيات الذكاء الصنعي كلما أصبحت نتائجه أفضل، ومن المتوقع أن يتطور الذكاء الصنعي ليصبح قادرا على تقديم النصائح العسكرية وتحديد النقاط الهامة في الحروب المختلفة، وذلك إلى جانب إدارة الموارد وخطوط الإمداد أثناء الحرب.
الطائرات المسيّرة أيضا هي واحدة من الجوانب التي قد تستفيد كثيرا من تقنيات الذكاء الصنعي، إذ يمكن للذكاء الصنعي التحكم فيها وتحديد النقاط الهامة في أرض العدو من أجل الهجوم المباشر عليها، أو جمع البيانات وفرزها من آلاف الطائرات المسيّرة من أجل تحديد النقاط الحيوية.
الذكاء الصنعي يشبه طفل صغير بدأ في تعلم المشي لتوه، ومن المؤكد أن ينمو هذا الطفل ليصبح له دور أكبر في مختلف جوانب الحياة وبالطبع الجوانب العسكرية والسياسية للعالم الذي نعيش فيه اليوم، لهذا فإن أثر التقنية في النزاعات الجيوسياسية لن يتوقف، بل سيمتد حتى تصبح سلاحا يحدد الرابح في هذه الصراعات.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.