استمع إلى المقال

في الأول من كانون الثاني/يناير 2017، كان الأردني نورس العساف وزوجته يرنان في رأس السنة الجديدة في إسطنبول، يحتفلون في ملهى “رينا” الليلي الشهير، ولكن في حوالي الساعة 1:30 بعد منتصف الليل، فتح عبد القادر مشاريبوف النار على حشد من حوالي 700 شخص في المكان، وأطلق أكثر من 120 طلقة وقنبلة يدوية في هجوم استمر سبع دقائق، مما خلف 79 جريحا و 39 قتيلا، بينهم العساف، وتبنى تنظيم “داعش” المسؤولية عن الهجوم على الفور.

في عام 2018، أقام أربعة من أقارب العساف، وجميعهم من حملة الجنسية الأميركية، دعوى مدنية في محكمة اتحادية زعموا فيها أن “جوجل” و”تويتر” و”فيسبوك” كانت جزءا مهما من نمو “داعش”، وادعوا أن هذه المنصات لها مسؤولية مدنية ثانوية – بمعنى أنها لم تكن مسؤولة بشكل مباشر عن الهجوم – بموجب قانون مكافحة الإرهاب لعام 1990 لمساعدة وتحريض “داعش”.

القضية اتجهت إلى المحكمة العليا في 22 شباط/فبراير بعد يوم فقط من قضية أخرى مشابهة ضد “جوجل” تمت مرافعتها الشفوية في 21 شباط/فبراير، وكلتاهما ركّزتا على ما إذا كانت “المادة 230″، التي تحمي شركات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي من المسؤولية القانونية لما يقوله المستخدمون على منصاتها، والآن، مستقبل “المادة 230” على المحك بسبب هاتين القضيتين.

حظيت قضية أقارب العساف، باهتمام أقل بكثير من الصحافة، ولكن رغم ذلك، من المرجّح تماما أن تحدد مستقبل الإنترنت كما ستفعل القضية الأخرى، فإذا حكمت المحكمة لصالح مطالبات المدّعين بشأن المسؤولية الثانوية، فستكون المنصات أكثر حذرا بشأن المحتوى الذي تستضيفه وتستثمره، كما سيمكّن للمشرّعين الاستفادة من الحكم لفرض المسؤولية على المنصات لاستضافة أنواع أخرى من المحتوى.

مَن صاحب المسؤولية؟

المحكمة العليا ستبتّ في جانبين رئيسيين في القضية، الأول يتعلق بخدمات المنصات على الإنترنت، إذ يزعم المدّعون أن الحسابات التابعة لـ “داعش” بدأت في الظهور منذ عام 2010 على “تويتر” و2012 على “فيسبوك” و2013 على “يوتيوب”، وركزوا على دور مواقع التواصل الاجتماعي هذه في نمو التنظيم، بحجة أن المواقع لم تكن فقط مفيدة في نمو “داعش” بطريقة جوهرية، ولكن المنصات لم تبذل جهودا ذات مغزى لإزالة الحسابات و المحتوى المرتبط بالتنظيم.

كما يجادل المدعون في هذا الجانب بأن “جوجل” شاركت الأرباح مع “داعش” من خلال مراجعة مقاطع فيديو “يوتيوب” الخاصة بالتنظيم والموافقة عليها لتحقيق الدخل من خلال برنامج “AdSense” الخاص بها، وردا على ذلك، يجادل المدّعى عليهم بأن مثل هذا التفسير لـ “قانون مكافحة الإرهاب” سيكون واسع النطاق بشكلٍ غير معقول، وسيعاقب المنصات على الممارسات التجارية العادية.

أما الجانب الآخر فيسأل عما إذا كانت الشركات المدّعى عليها لا تزال تتحمل المسؤولية عن المساعدة والتحريض إذا لم يتم استخدام خدماتها بشكل مباشر في فعل محدد من أعمال الإرهاب المنصوص عليها دوليا، إذ تجادل “جوجل” و”فيسبوك” و”تويتر” بأن المسؤولية بموجب قانون مكافحة الإرهاب تقع فقط في حال تنفيذ عمل إرهابي منفصل، وليس حملة إرهابية شاملة، كما تزعم تلك الشركات أن الدائرة التاسعة – المسؤولة عن الحكم بالقضية – أحدثت انقساما في قرارها، بينما يخالف المدّعون ذلك، بحجة أن الدائرة التاسعة اتبعت ببساطة التعريف الذي حددته المحاكم في دوائر أخرى.

نموذج عمل مهدد

القول بأن القضيتين ستغيران شكل الإنترنت مستقبلا يأتي من التساؤل عن إمكانية تحمّل الشركة التي تدير خدمة ما عبر الإنترنت وتحاول منع الإرهابيين من استخدامها المسؤولية المدنية عن توفير المعرفة والمساعدة الكبيرة لمثل هذه الجماعات إذا لم تتخذ إجراء “ذا مغزى” أو لإزالة المحتوى. بالإضافة إلى التساؤل عما إذا كانت مشاركة الإيرادات مع جماعة إرهابية من خلال برنامج توزيع الإعلانات تعني أن النظام الأساسي يدعم جهودهم عن قصد.

إذا حكمت المحكمة العليا لصالح المدّعين، يمكن أن تصبح تلك المنصات أكثر عرضة لتحمل المسؤولية في تعديل أو إزالة المحتوى المرتبط بأنشطة غير مشروعة، ويمكن أن يربك هذا الحكم أيضا تلك الشركات عند القيام بأي نوع من مشاركة الإيرادات من خلال أنظمة الإعلانات الآلية، نظرا لأن الحصانة بموجب “المادة 230” ليست محور السؤال القانوني هنا.

لكن ربما تكون إمكانية أن تصبح أنظمة عرض الإعلانات وسيلة للدعاوى القضائية المستقبلية هي الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للمنصات، فقد وصلت عائدات الإعلانات لشركة “ألفابت” الشركة الأم لـ “جوجل”، إلى 253 مليار دولار في عام 2022 وحده، ويأتي ما يقرب من 90 بالمئة من عائدات الشركة من الخدمات الإعلانية، فالإعلانات هي الطريق لشركات مثل “جوجل” لكسب المال عبر الإنترنت، ونتيجة هذه القضايا يمكن أن تُجبر الشركات التي تتبع نموذج أعمال مشابه على التغيير، وبسرعة قد لا تستطيع مجاراتها.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي إصدار حكم لصالح المدّعين إلى تغيير ممارسات تعديل المحتوى الحالية بطريقة لم نشهدها منذ إقرار “FOSTA-SESTA”، وهو مشروع قانون يهدف إلى الحدّ من الاتجار بالجنس عبر الإنترنت؛ فعند مواجهة التهديد بحمل المسؤولية عن محتوى جنسي خاص بطرف ثالث على مواقع المنصات الاجتماعية، قررت العديد منها، بما في ذلك “ريديت” و”جوجل” و”كرايغز ليست”، إزالة أي محتويات يمكن أن تكون مرتبطة بالعمل الجنسي عندما أصبح مشروع القانون قانونا.

لم تكن مسؤولية المساعدة والتحريض الثانوية جزءا من قانون مكافحة الإرهاب الأصلي عام 1990، فقد تمت إضافتها في عام 2016 من خلال قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، إذ تضمنت المناقشات حول التعديل الجديد حينها أسئلة حول آثاره المحتملة على الشركات، وخاصة البنوك، فإذا كان مفهوم المسؤولية الثانوية واسعا جدا – وهو كذلك بالفعل – فقد يكون هناك تأثير مخيف على المؤسسات المالية، لأنها ببساطة لن تختار المخاطرة بممارسة الأعمال التجارية مع مجموعات كبيرة معينة من الأفراد.

كما أن هناك مأزق آخر محتمل يتمثل في إمكانية قيام بنك بتقديم أموال لجماعة إرهابية من خلال نظام محوسب بدافع الإهمال أو عدم التدقيق، وأن يجد نفسه هدفا لدعوى مدنية، وهذا هو بالضبط السؤال القانوني الذي يواجه شركات التواصل الاجتماعي المتهمة في هذه القضية، وبرامج تقاسم العائدات الخاصة بها.

مستقبل غامض

الآن، قد تجد هذه الشركات نفسها في خطر إضافي إذا استخدمت التنظيمات الإرهابية منصاتها لدعم أهدافها العامة، ويبدو أن جهود الشركات باهتة، لكن بما أنه سيكون من الصعب تحديد ما يمكن اعتباره “جهودا باهتة”، قد تختار تلك الشركات إزالة أي مخاطرة محتملة واستخدام أساليب إدارة المحتوى التي قد تكون مفرطة في الصرامة، أو غير محقّة في بعض الحالات.

نظرية المدّعين على “تويتر” حول ما يشكل “مساعدة كبيرة” واسعة جدا، فهم لا يزعمون أن “جوجل” و”فيسبوك” و”تويتر” متواطئين في المساعدة في هجوم إسطنبول نفسه، بل يقولون إن خوارزميات هذه المواقع أوصت ونشرت قدرا كبيرا من المواد المكتوبة ومقاطع الفيديو الإرهابية التي أنشأتها “داعش”، وأن توفير مثل هذا الفضاء لنشر محتوى “داعش” كان مفتاحا لـ “تجنيد الإرهابيين، وجمع الأموال، وترهيب الجمهور”.

ربما يكون هذا صحيحا، لكن تجدر الإشارة إلى أن “تويتر” أو “فيسبوك” أو “جوجل” غير متهمين بتقديم أي مساعدة خاصة لـ “داعش”، إذ تقول الشركات الثلاث إن لديها سياسات تحظر المحتوى الذي يهدف إلى الترويج للإرهاب، على الرغم من أن “داعش” كانت قادرة في بعض الأحيان على إحباط هذه السياسات. لكن إذا كان من الممكن تحميل شركة ما المسؤولية عن أعمال منظمة إرهابية لمجرد أنها سمحت لأعضاء تلك المنظمة باستخدام منتجاتها بنفس الشروط مثل أي مستهلك آخر، فلا يمكننا حتى تخيل الآثار التي ستترتب على ذلك.

قد يهمك: كيف استمرت التنظيمات المتطرفة بتعزيز نشاطها في الفضاء الرقمي؟

لنفترض، على سبيل المثال، أن شركة الهاتف الخلوي “فودافون” تعرف أن منظمة إرهابية تستخدم أحيانا شبكة “فودافون” الخلوية لأن حكومة بلد ما تتواصل أحيانا مع الشركة من أجل طلبات التنصت على أفراد تلك المنظمة وملاحقتهم، بموجب قراءة المدّعين على “تويتر” لقانون مكافحة الإرهاب، من المحتمل أن تتحمل شركة “فودافون” المسؤولية عن الهجمات الإرهابية التي ترتكبها هذه المنظمة ما لم تتخذ خطوات مؤكدة لمنع تلك المنظمة من استخدام شبكتها النقالة.

في مواجهة التهديد بمثل هذه المسؤولية الجسيمة، من المحتمل أن تنفذ هذه الشركات سياسات من شأنها إلحاق الضرر بملايين المستهلكين غير الإرهابيين، فمن المرجح أن تتخذ شركات الاتصالات مثلا خطوات متطرفة لعزل نفسها عن المسؤولية المحتملة، وقطع الاتصالات من قبل جميع أنواع الأفراد المسالمينَ والملتزمين بالقانون.

أو الأسوأ من ذلك، قد تحاول شركات التكنولوجيا تنفيذ نوع من الرقابة الشاملة، حيث تتم مراقبة كل محادثة هاتفية، وكل بريد إلكتروني، وكل منشور وتغريدة على وسائل التواصل الاجتماعي، وكل رسالة مباشرة بواسطة خوارزمية تهدف إلى كشف المتواطئين مع الإرهاب، ثم رفض تقديم الخدمة لأي شخص وُضعت علامة عليه بواسطة هذه الخوارزمية، وبمجرد بناء شبكة المراقبة هذه، من المرجح أن يضغط الحكام الاستبداديون في جميع أنحاء العالم على شركات التكنولوجيا هذه لاستخدام تلك الشبكة لاستهداف المعارضين السياسيين والجهات الفاعلة السلمية الأخرى.

في الختام لا يختلف عاقلان على أن الخوارزميات التي تستخدمها مواقع التواصل الاجتماعي لعرض المحتوى على مستخدميها يمكن أن تسبب ضررا كبيرا، كما كتبت عالمة الاجتماع وأستاذة جامعة كولومبيا زينب توفيقجي في عام 2018، “قد يكون يوتيوب أحد أقوى أدوات التطرف في القرن الحادي والعشرين” بسبب ميل خوارزمياته إلى تقديم المزيد من النسخ المتطرفة من المحتوى الذي يقرر مستخدموه مشاهدته، فقد يتم توجيه المستخدم العادي الذي يبدأ بمشاهدة مقاطع فيديو لوصفة طعام معينة إلى مقاطع فيديو عن كيفية صناعة بعض أنواع التوابل والدور الاقتصادي والثقافي الذي تلعبه، وبالمثل، في هذه الأثناء، قد ينتهي المطاف بشخص يشاهد أخبارا عن غرب إفريقيا إلى مشاهدة خطابا لقيادي في جماعة “بوكو حرام”.

هناك حجج مفادها أن الحكم ضد هذه الشركات سيؤثر بشكل ضار على حرية التعبير عبر الإنترنت، ويخلق مخاطر لا توصف للشركات التي ليست حتى منصات إنترنت، على الجانب الآخر، وهناك حجج مفادها أن السماح للجماعات الإرهابية بالتنظيم عبر الإنترنت دون أي وسيلة لتحميل منصات الإنترنت المسؤولية يضر بالأمن والاستقرار العالميين، وبغض النظر عمّن ستقرر المحكمة العليا أنه صاحب الحق ويفوز بالقضية، من المؤكد أن الإنترنت بعدها، لن يكون كما قبلها أبدا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.