استمع إلى المقال

قطاع السياحة في سوريا كان قبل الحرب من بين أسرع القطاعات الاقتصادية تطورا، وأحد أهم الأعمدة التي ترتكز عليها الخزينة العامة للدولة في الإيرادات، إذ سجل عدد الزوار الأجانب أعلى أرقامه في عام 2010، بعدد وصل إلى نحو 9.45 مليون زائر إلى سوريا.

القطاع شكّل حينها ثاني أكبر مصدر للعملة الأجنبية بعد صادرات النفط، بواقع 3.9 مليار دولار أميركي خلال عام 2010 وحده، وقدّرت عائدات قطاع السياحة حينها بنحو 8.21 مليار دولار، بما يعادل 13.7 بالمئة من الناتج المحلي للبلاد، بحسب موقع “عنب بلدي”.

هذا الوضع لم يستمر، وبفعل حربٍ مزقت البلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وبنيويا، أصبحت سوريا تحتل المرتبة 159 عالميا على مؤشر الأمان العالمي بحسب مؤشر “بروسبيرتي” العالمي، ما جعلها واحدة من أضعف دول العالم من الناحية السياحية.

لكن، ومنذ انتهاء الحرب – عسكريا على الأقل – عام 2018 يسعى النظام، إثر خسارته معظم واردات خزينته، إلى إنعاش هذا القطاع وإيلائه اهتماما خاصا من خلال عدة مبادرات، كان آخرها مؤتمر “الاستثمار السياحي” الذي أقامته الحكومة في تشرين الأول/أكتوبر 2022، والذي طالته انتقادات كثيرة حتى من صحيفة “البعث” الحكومية، في ظل الشلل الذي تشهده القطاعات الأخرى، كالصناعي والتجاري والخدمي. 

الجهود الحكومية للترويج للبلاد سياحيا تزامن مع تزايد مريب لانتشار مقاطع “اليوتيورز” السياحيين الأجانب

الذين تحصل مقاطع الفيديو الخاصة بهم على مئات الآلاف من المشاهدات على “يوتيوب”، وتُظهر مدوناتهم أن سوريا قد طوت صفحة الحرب، ورغم أن هؤلاء المؤثرين يدعون أنهم “مستقلين” ولا يحملون أية توجهات أو رسائل سياسية، إلا أنهم لا يظهرون إلا في المناطق التي تسيطر عليها الدولة، ويتبنون روايتها للحرب.

صورة زائفة

المؤثرون يزعمون أنهم يظهرون “سوريا لن تظهرها لك وسائل الإعلام”، كما في هذا الفيديو لمدوّن الفيديو البريطاني بنجامين ريتش، المعروف لدى 3.8 مليون مشترك باسم قناته على “يوتيوب” “Bald and Bankrupt” أي “أصلع ومفلس”. في نيسان/أبريل 2022، سافر ريتش ومترجمه/دليله – الذي لم يُذكر اسمه على مدار سلسلة المقاطع في سوريا – والذي، بحسب أحد تلك المقاطع، راسله عبر “إنستاجرام” ودعاه للقدوم إلى سوريا، فاستجاب له، وجاء وحضر مباراة كرة قدم في العاصمة، وزار قلعة حلب، وتفقد فندقا تم تفجيره في معلولا.

في كانون الثاني/يناير من هذا العام، أحدث صانع محتوى السفر الدنماركي جوستاف روستد – “يوتيوبر” آخر يزور سوريا – عاصفة من الجدل حول مقطع فيديو بعنوان “I Was Tortured in Syria” أو “تم تعذيبي في سوريا”، والذي صور فيه مغامرته في “الحمّام الدمشقي” الذي يحصل فيه على خدماتِ الحمّام كاملة بالإضافة إلى مناشف خاصة ومسّاج بمبلغ زهيد جدا يبلغ 4 يورو.

مؤخرا، في 13 شباط/فبراير المنصرم، انضم اثنان من مدوِّني الفيديو البريطانيين الذين يديرون قناة “Dabble and Travel” على “يوتيوب”، والتي تضم 227 ألف مشترك، إلى القائمة الطويلة من منشئي المحتوى الذين انجذبوا لزيارة سوريا، ونشروا “ستوري” على “إنستغرام” تم التقاطها أثناء غروب الشمس في دمشق، في منطقة المهاجرين تحديدا.

جميع مقاطع أولئك “اليوتيوبرز” تتشارك في الإشارة إلى انخفاض الأسعار في سوريا، فيخبرنا أحدهم أنك تستطيع تناول سندويش بدولار واحد، وبأقل من دولار تشتري القهوة، وتقطع في سيارة الأجرة 20 كيلومترا بـ 5 دولارات، وهي أرقام صحيحة بالفعل، لكنها تتجاهل أن الدولار الواحد نفسه غير متوافر، ومتوسط راتب الموظف لا يتعدّى الـ20 دولارا، ولا يمكن الحكم على مستوى المعيشة بأن نقول سعر القهوة أقل من دولار واحد.

العامل المشترك الآخر بين عدد من تلك المقاطع هو الدليل السياحي المحلي، الذي يأخذ صناع المحتوى أولئك إلى وجهاتهم، ويعمل كمترجم بينهم وبين المواطنين والسكان المحليين، إذ ظهر لدى الأمثلة الثلاثة المذكورة أعلاه، وادعى في كل من المقاطع التي ظهر فيها أنه دعى أصحابها بشكل عفوي وبمبادرة شخصية ليأتوا إلى سوريا.

مصدر الصورة: “مراقبون”

علاقة مباشرة بالدولة

فريق “مراقبون” في “فرانس24” تمكن من معرفة اسم هذا الدليل السياحي، رامي نوايا، والعثور على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يدعي نوايا العمل كمترجم ودليل سياحي للعديد من وكالات السفر السورية، بما في ذلك شركة “ماروتا للسياحة والسفر”، وعلى “فيسبوك”، يدعي نوايا أيضا أنه أحد أفراد عائلة غياث الفرّا، معاون وزير السياحة السوري لشؤون المشاريع والتخطيط والاستثمار السياحي، وعند تحقق “إكسڤار” وُجد أنه عضو في جمعية “ساعد” الخيرية، التي تربطها علاقة وثيقة بسيدة دمشق الأولى، أسماء الأسد.

بحسب تحقيق “مراقبون”، ينفي المدون الدانماركي جوستاف روستد أنه تعاون مع نوايا “التقيت به بشكل عفوي في حلب، لكنه لم يكن دليلي السياحي”، هذا ما أكده روستد، إذ ادعى أنه كان برفقة مرشد آخر، وهو خلدون العلمي الذي يدير بدوره وكالة “غولدن تارغت تورز” وكان قد رافق مدونين آخرين جاؤوا إلى سوريا منذ حزيران/يونيو 2019 – البولندية إيفا زو بيك والبريطاني كزافييه تايشيل بلانشاردي.

إيفا زو بيك أخبرت فريق “مراقبون”:

لم أتلق دعوة من أي شخص من سوريا. دفعت ثمن الرحلة من مالي الخاص. ما نشرته يمثل 100 بالمئة آرائي الخاصة، دون أي توجيه أو رقابة من أي شخص آخر. لقد وجدت دليلي بفضل توصية أحد الأصدقاء.

مصدر الصورة: “مراقبون”

فريق “مراقبون” يؤكد أن مرشدي وكالة “ماروتا” للسياحة والسفر قد رافقوا ما لا يقل عن 5 مدونين فيديو غربيين تشاركوا جميعهم في تبني الدعاية الرسمية، كما يظهر المدون الإسباني خوان توريس الذي ينظم جولات سياحية خاصة في سوريا عبر وكالته “Against The Compass” برفقة المرشد السياحي رامي نوايا وهو يرفع كأسا عليها صورة الرئيس السوري بشار الأسد.

توريس قالها بصريح العبارة لصحيفة “الغارديان”:

لن أقول أي شيء سيئ عن الحكومة، بالطبع، لأنني سأواجه خطر الاحتجاز. إذا كنت تتردد إلى بلدٍ ما، ولا توجد حرية تعبير، هل ستبدأ في قول أشياء سيئة عن الحكومة؟.

شركة “Golden Team Tourism”، وهي وكالة أخرى تقدم ذات الخدمات للمؤثرين الغربيين ويديرها فادي عاصي وغادة أيوب، وكلاهما مقربان من رامي نوايا بحسب الصور المنشورة على حسابه على “فيسبوك”، ورافقت هذه الوكالة اثنين من مدوني الفيديو الأميركيين، درو بينسكي (3.6 مليون مشترك) وتوماس براغ (8 ملايين مشترك)، في عامي 2019 و2022 على التوالي.

قد يهمك: ما علاقة “الحرس الثوري” الإيراني بمشغل الاتصالات الجديد في سوريا؟

هل النتيجة مُرضية؟

بنظرة على قسم التعليقات على تلك المقاطع، يمكن ملاحظة عدد لا بأس به من التعليقات الساخرة لدى السوريين المقيمين في الداخل، ذلك لأن نمط الحياة “اليومية” العادي الذي يستعرضه أولئك صناع المحتوى أصبح يعد ترفا لدى 90 بالمئة من السوريين الذين أصبحوا تحت خط الفقر.

أما خارجيا، وغربيا تحديدا – حيث الجمهور المستهدم لصناع المحتوى أولئك – فلم يساعد الأمر كثيرا كذلك، بل دفع العديد من المنظمات والحقوقيين إلى تسليط ضوء أكبر على الانتهاكات الإنسانية وعلى الوضع الحقيقي على الأرض كما يعيشه السوريون، كما نشرت العديد من المؤسسات الإعلامية الشائعة، مثل صحف “الإندبندنت” و“واشنطن بوست” وموقع “إنسايدر” تقارير موسعة تكشف ذلك.

سياحيا، حيث يمثل تعزيز القطاع الهدف الأسمى لهذه الحملات، لم ترقَ النتائج إلى الطموح، بحسب موقع “عنب بلدي”، فبعد انتهاء أعمال ملتقى الاستثمار السياحي، الذي عُقد في 16 و17 من تشرين الأول/أكتوبر 2022، دعا وزير السياحة إلى تخفيض أسعار المبيت في فنادق الوزارة حتى 50 بالمئة، لزيادة الإشغال وتنشيط حركة السياحة، ووفق ما نقلته حينها صحيفة “تشرين” الحكومية، دعا الوزير إلى خفض الأسعار من تاريخه وحتى فترة الأعياد وما بعدها، باعتبارها الفترة التي تشهد قدوم المغتربين للاحتفال مع ذويهم، كما اعتبر الوزير قراره رسالة تحفيزية للقطاع الخاص ليخطو خطوات مشابهة ويقدّم عروضًا تشجيعية بغرض تنشيط السياحة الداخلية.

لكن في الشهر نفسه وصف وزير السياحة، محمد رامي مرتيني، الموسم السياحي بـ “الجيد لكنه أقل من المتوقع”، بعد توقعات بأن يكون موسما “غير مسبوق”، موضحا أن عدد السياح لعام 2022 تجاوز مليون سائح، دون توضيح مفهوم الوزارة لتصنيف القادم إلى سوريا كسائح أم لا.

منذ مطلع عام 2022 حتى تموز/يوليو منه، بلغ عدد السياح الأجانب والعرب 727 ألف شخص، منهم 629 ألف عربي، و98 ألف أجنبي، وفق مديرية التخطيط والتعاون الدولي في وزارة السياحة السورية، لكن ما لا يقل عن 70 بالمئة من السياح في تلك المناطق من حملة الجنسية اللبنانية والعراقية، وتحديدا في عامي 2019 و2020، اللذين تراجعت فيهما السياحة إلى النصف تقريبا بفعل تفشي فيروس “كورونا”.

إن كان اللبنانيون والعراقيون يدخلون إلى سوريا بموجب تأشيرات سياحية، فإن هذا لا يعني أن غرض الزيارة السياحة فعلا، أو الإنفاق المتوقع كما لو كانوا سياحا. تبع هذه الإحصائية أرقام ذكرها مدير السياحة في دمشق، ماجد عز الدين، في حيث لصحيفة البعث الحكومية، إذ صرّح بأن عدد السياح الأجانب القادمين إلى سوريا في 2022 بلغ 176 ألف شخص، 20 ألفا منهم من الجنسية الأميركية، بينما تطغى نسبة العرب في الإحصائية، بأكثر من مليون ونصف مليون شخص.

الباحث الاقتصادي ومدير البرنامج السوري في مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية، الدكتور كرم شعار يوضح في حديثه لموقع “إكسڤار”، فإنه من الصعب تحديد الأثر المباشر لتلك المقاطع، إذ من الممكن أن يكون عدد السياح قد ازداد أو نقص دون أن يكون هناك دورا، إيجابيا كان أو سلبي، لصناع المحتوى الغربيين.

تستطيع أن تفترض أن عدد السياح كان سينخفض بشكلٍ أكبر لولا وجود صناع المحتوى أولئك، كما يمكنك القول إن عدد السياح كان سيرتفع لكن ليس كما هو عليه الآن بفضلهم، أما الإجابة الحاسمة على تلك الافتراضات تبقى غير معروفة.

الدكتور كرم شعار

عليه، فإن عرض جزء من الحقيقة فقط على أنها الحقيقة الكاملة، والترويج لرواية ما عبر وسائل التواصل الاجتماعي سيضمن بالتأكيد وصولها إلى شريحة واسعة من الجمهور، لكن، وعلى عكس القول الإنجليزي الشائع “أي نوع من الشهرة هو صيتٌ حسنٌ ذائع”، فإن وسائل التواصل الاجتماعي، التي استخدمتها الدولة لتعزيز روايتها، هي نفسها ما ضمن إبراز مكامن العيب فيها، وانتشار الرواية الأخرى، والحقيقة بأكملها.

قد يهمك: كيف ستجيب استخبارات المصادر المفتوحة على بعض أهم الأسئلة السورية العالقة؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.