استمع إلى المقال

صناعة التكنولوجيا تمرّ في حالة ركود لم يسبق لها مثيل، إذ أعلنت كل شركات التكنولوجيا الكبرى تقريبا، بما في ذلك “أمازون” و”ميتا” و”سناب” و”تويتر” و”سترايب” و”إنتل” و”آي بي إم” و”كوين بيز” و”روبن هود” عن تسريح مكون ما يتراوح بين 10 و30 بالمئة من موظفيها في الأشهر القليلة الماضية.

أسهم هذه الشركات كذلك انخفضت بأكثر من 50 بالمئة وسطيا خلال هذا العام مقارنة بذروتها في نهاية 2021، انخفض سهم “أبل” بمقدار 9 بالمئة، وانخفض سهم “ألفابت” بمقدار 37 بالمئة، وانخفض سهم “أمازون” بمقدار 38 بالمئة، وانخفض سهم “نيتفلكس” بمقدار 55 بالمئة، وانخفض سهم “ميتا” بمقدار 71 بالمئة، كما القيمة السوقية لهذه الشركات مجتمعةً 2.5 تريليون دولار أميركي منذ أعلى مستوياتها في نوفمبر، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”.

من المريب أن تتزامن الزيادة في عمليات التسريح الجماعي في شركات التكنولوجيا الكبرى، ووقف عمليات التوظيف في أخرى، مع الفوضى المروّعة التي تزايدت في “تويتر” على مدار الأسابيع القليلة الماضية، والانهيار المستمر والتاريخي لأسعار العملات المشفرة وإفلاس منصاتها. من المعتاد أن يشهد قطاع التقنية اضطرابا واحد كهذه الاضطرابات، وليس جميعها معا في آن واحد.

“سي أن أن” نقلت عن تود سون، المدير التقني والاستراتيجي لشركة “ستريتغاس” للأبحاث، أنه عندما حلّقت أسهم التكنولوجيا في عام 2000 مع انفجار فقاعة الإنترنت، لم يتكرر الأمر إلا بعد الأزمة المالية لعام 2008، قبل أن تستأنف التكنولوجيا دورها كقائد للسوق.

من المعقول أن نتوقع أن تعود التكنولوجيا إلى المقعد الخلفي على مدار العامين المقبلين، بينما تتولى الطاقة والصناعة دفة القيادة.

تود سون، لـ “سي أن أن”

قد يهمك: مصير طلبة التقنية بعد حملات الإقالة الموسعة في “وادي السيليكون”

نهاية الربيع

الفترة التي أعقبت الأزمة المالية العالمية في 2008 سُمّيت بـ “الاقتصاد الضعيف”، بسبب انخفاض الطلب العالمي على السلع وانخفاض أسعار الفائدة؛ أدى ذلك إلى خلق الظروف المثالية لتدفق أموال المستثمرين، الساعين إلى معدلات ربح عالية، وصبّها في شركات البرمجيات منخفضة التكلفة الهامشية.

مع زيادة انتشار الهواتف الذكية حول العالم، انطلقت ثورة التطبيقات. أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وشركات التكنولوجيا الاستهلاكية من أغنى وأسرع الشركات نموا في العالم، كما انتقلت هوليوود إلى البث المباشر، وأصبح المحتوى الإعلامي رقميا، وأصبح اقتصاد الخدمات الرقمية وسيطا لا بدّ منه في عالم تسوده الهواتف الذكية.

هذا الوضع استمر إلى أن ضرب وباء “كورونا” الكوكب واقتصاده، ثم جاءت موجة التضخم التي أعقبت الوباء، والتي تسببت في رفع الفدرالي الأميركي أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، حيث تقع مقرات تلك الشركات، وكذلك اتخاذ عدد من البنوك المركزية الأخرى حول العالم إجراءات مشابهة كذلك.

ارتفاع أسعار الفائدة يعني نهاية تدفق تلك الأموال السهلة، ومع ارتفاع تكلفة المخاطر، انخفض التمويل الاستثماري، واضطرت الشركات إلى خفض التكاليف أو رفع الأسعار أو كليهما. في غضون ذلك، انتقل التركيز في الأسواق من النمو إلى الحفاظ على الأرباح، وانهارت القيم السوقية لشركات التكنولوجيا.

أزمة منتصف العمر

بجانب تفسير التضخم الذي أعقب الوباء وارتفاع أسعار الفائدة، تمر شركات التكنولوجيا الكبرى في مرحلة حرجة كانت ستمر بها على أية حال حتى بدون تلك العوامل (بتأثير أقل حدة)، وهي ما يصفها الخبراء بـ “أزمة منتصف العمر” التي تمر بها صناعة التكنولوجيا، وتحديدا الشركات الكبرى.

تلك الشركات، خاضت شبابها خلال العقد الماضي، في تجربة وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الاستهلاكية من خلال استثمارات لا حدود لها وتحسينات لا نهاية لها لخدماتها واختبارات A/B تُجرى على أدق تفاصيل المزايا التي تقدمها. العديد من المديرينَ التنفيذيينَ والمستثمرينَ التقنيين اليوم يشعرون أنهم حلّوا المشكلات الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر أهمية للرقمنة الأساسية والتحول الرقمي العالمي.

قبل أربع سنوات، لاحظ المحلل التكنولوجي بينيدكت إيفانز، أن البرمجيات قد وصلت إلى قمة جبل تطوير الإعلان والوسائط وربط العالم ببعضه، وأن التكنولوجيا كانت تتطلع إلى تسلق جبال جديدة وإيجاد تحديات جديدة، لكنها لم تجدها.

مثالٌ صارخ على ذلك انخفاض مستخدمي “فيسبوك”، ومشتركي “نيتفلكس”، خلال هذا العام للمرة الأولى في تاريخ كلتا الشركتين الذي اتّسم بتوسع قاعدة المستخدمين المتزايد. وعليه، بدأ أبرز المديرين التنفيذيينَ والمستثمرينَ في مجال التكنولوجيا يبحثون عن الفصل الجديد من قصتهم.

المدراء التنفيذيون في أكبر شركات التكنولوجيا يعملون منذ سنوات على تحويل الموارد نحو مشاريع جديدة ذات عوائد غير مؤكدة. إذ وظفت “أمازون” مؤخرا أكثر من 10 آلاف شخص للعمل على مساعد الذكاء الصنعي الخاص بها، أليكسا.

جيف بيزوس ترك الشركة التي أسسها -أمازون- ليركز على شركة “بلو أوريجن” لصناعة الصواريخ الفضائية، وفي “ميتا” -الشركة الأم لـ “فيسبوك” و”إنستجرام” و”واتساب”- فإن “مختبرات الواقع” -القسم الذي يعمل على بناء “الميتافيرس”- لديها حوالي 15 ألف موظف.

“أبل” كذلك، يقال أن لديها 3000 شخص يعملون على سماعة رأس تعمل بتقنية الواقع المعزز، ويعمل آلاف آخرون على “مساعد جوجل” الآلي الصوتي، و”نيتفلكس” تتبنى الآن عرض الإعلانات بعد سنوات من التعهد بعدم نشر إعلانات على منصتها، وتحاول دخول عالم ألعاب الفيديو.

قد يهمك: المساعدون الافتراضيون.. لماذا لم يتحدثوا العربية بطلاقة حتى الآن؟

التشفير لم يسعف

بعيدا عن المديرين التنفيذيين، كان أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية يبحثون عن انطلاقة جديدة خاصة بهم كذلك في ظل أزمة شركات التكنولوجيا الكبرى، واعتقد العديد منهم أنهم وجدوا ضالتهم في العملات المشفرة خصوصا، وتقنيات التشفير عموما.

المستثمرون الجريئون (Venture Capitalists) أنفقوا عشرات المليارات من الدولارات في تقنيات التشفير، التي ما زالت تكافح من أجل العثور على حالة استخدام تتجاوز المراهنة بالمال على الرموز التي يتم صرفها بالدولار، على الرغم من كل هذه الضجة والاستثمارات.

لكن هذا القطاع أيضا لم ينقذه مبدأ “اللامركزية” الذي يستند إليه، إذ ما زال يعاني من ارتباطه بمؤسسات وأشخاص كبرى تديره وتتحكم به؛ نتج عن ذلك اختراق منصة “باينانس” لتداول العملات المشفرة وسرقة جزء من أصولها، والإفلاس المدوي لمنصة “FTX” للتداول الشهر الماضي، الذي نتج عنه كذلك إفلاس منصة “بلوك فاي”. جميعها عوامل أدت إلى انخفاض قيمة سوق العملات المشفرة إلى 1.1 تريليون دولار، بعدما بلغ 2.4 تريليون دولار العام الماضي.

إيرينا تسوكرمان، رئيسة شركة “سكراب رايزينغ” للاستشارات، توضح في حديث خاص بـ “إكسڤار”، أنه من غير الواضح كيف سينتهي هذا النوع من أزمة منتصف العمر لدى الشركات التقنية الكبرى، كما أنه من غير المنصف أن تتأطّر مشاكلها الحالية بهذا الوصف، إذ اعتادت أن تنفق هذه الشركات الكثير من الأموال على حلول غير مؤكدة للمشكلات الأساسية أو الصعبة، لكن في الوقت الحالي، تبدو الكثير من هذه الرهانات نصف مكتملة، أو باهظة الثمن، أو حتى احتيالية.

صناعة التكنولوجيا، بحسب وصف تسوكرمان، اعتادت إتقان فن تحسين المساحات الرقمية لتحسّن تجربة الفاعلين فيها وتطور وضع الإعلانات طوال العقد الماضي. لكنها أصيبت بالصدمة بسبب التضخم في فترة ما بعد الجائحة وارتفاع أسعار الفائدة، مما جعل تنفيذ هذه المحاور أكثر صعوبة.

النتيجة كانت ما يجري حاليا، تسريح جماعي للموظفين، وانخفاض أسعار الأسهم، في شركات بدا أنه لا يمكن إيقافها منذ سنوات قليلة.

إيرينا تسوكرمان

قد يهمك: انهيار “FTX”: هل تحكم مركزية التنافس الرأسمالي عالم التشفير اللامركزي؟

وجوب تغيير النظرة

بعض الخبراء، يتوقعون أن تعاود التكنولوجيا نهوضها مرة أخرى في عام 2023. ولكن قد يحتاج المستثمرون إلى النظر إلى ما هو أبعد من الشركات الخمس الكبرى و”نتفليكس” و”إنفيديا” و”تسلا” وغيرها من الأسماء الرنانة.

تقرير لشركة “بلاك روك” المالكة لعدد من صناديق المؤشرات المتداولة يقول إن التكنولوجيا ليست كتلة متراصة. الأمن السيبراني والروبوتات لديهما القدرة على تسيّد هذه الدورة الاقتصادية نظرا لأن الأمن السيبراني قد انتقل من حالة التخصص إلى الضرورة نظرا لتزايد حوادث القرصنة، وأن الروبوتات قد تساعد في مكافحة التحديات التي تواجه سلاسل التوريد ونقص العمالة والتضخم.

Automatic warehouse with robotic arms, 3D rendering

تسوكرمان تشرح، في حديثها لـ “إكسڤار”، ذلك بعبارة أخرى، تقول إنه يجب على مستثمري التكنولوجيا أن يبحثوا عن مجالات أكثر مللاً داخل القطاع، وليس الأصول مثل العملات المشفرة التي تتعلق بإثارة الصخب أكثر من المضمون.

تسوكرمان تقول، إن الرابحين في مجال التكنولوجيا حاليا لن يكونوا أصحاب الفكرة أو التطبيق الرائع القادم، بل يتعلق الأمر بتقديم خدمة ستحتاجها الأنشطة التجارية حتى إذا انزلق الاقتصاد إلى حالة ركود.

قد يهمّك: هل نشهد انتهاء عصر العولمة الرقمية وبداية تقسيم الإنترنت؟

ليست النهاية بالتأكيد

إن أحد الأخطاء التي يمكن أن ترتكبها الصحافة في تحليل ما يجري الآن، هو الافتراض أن معاناة صناعة التكنولوجيا القائمة على البرمجيات الحالية ستبقى على هذا النحو إلى الأبد. بينما في الواقع، نحن في فترة استراحة بين العصور التكنولوجية المتعاقبة.

لقد مررنا في ثورة “الدوت كوم”، وعصر “متصفحات الإنترنت”، وعصر “الوسائط الاجتماعية”، وعصر “اقتصاد تطبيقات الهواتف الذكية”، وجميعها عصورٌ سادت فيما بينها فترات ركود، أقل حدة من الحالية، نظرا لتزامن العديد من الأسباب هذه المرة. لكن في الأشهر القليلة الماضية، يشير انتشار برامج الذكاء الصنعي القائمة على تجارب المستخدمين بمختلف أشكالها إلى أن ثورة تقنية جديدة تلوح في الأفق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.