استمع إلى المقال

العديد من البلدان حول العالم تتجه نحو تطوير العملات الرقمية للبنك المركزي، فيما نفذت بعض الدول هذه النوعية من العملات، لكن هل تستطيع فرض نفسها بقوة مستقبلا، وهل يمكن استخدامها على نطاق واسع بشكل مشابه للعملات الورقية التقليدية.

العملة الرقمية للبنك المركزي، أو (CBDC)، تمثل شكلا من أشكال العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي للبلد، حيث أنها تشبه العملات المشفرة، باستثناء أن قيمتها مُحددة بواسطة البنك المركزي وتعادل العملة الورقية للدولة.

الحكومات والبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم تستكشف إمكانية استخدام هذه العملات المدعومة من الحكومة، حيث تتمتع (CBDC)، عندما يتم تنفيذها، بالثقة والدعم من الحكومات التي تصدرها، تماما كما هو الحال مع النقود الورقية.

ما هي العملة الرقمية للبنك المركزي

نستطيع تعريف العملة الرقمية للبنك المركزي بأنها الشكل الرقمي لأموال الدولة الصادرة عن البنك المركزي، حيث أنها تشبه العملات المشفرة، لكن قيمتها ثابتة من قبل السلطة النقدية، وتساوي العملة الورقية للدولة، الأمر الذي يجعلها شكلا من أشكال المناقصة القانونية التي يمكن استخدامها لتبادل السلع والخدمات. 

تقليديا، كانت النقود الورقية بمثابة أوراق نقدية وعملات معدنية، لكن التكنولوجيا سمحت للحكومات والمؤسسات المالية بتكملتها بنموذج أشمل قائم على الائتمان يسجل الأرصدة والمعاملات رقميا.

لا تزال العملة المادية مقبولة ويتم تبادلها على نطاق واسع. مع ذلك، شهدت بعض البلدان المتقدمة انخفاضا في استخدامها، وتسارع هذا الاتجاه خلال فترة فيروس “كورونا”، حيث عززت الجائحة تحولا متزايدا إلى المدفوعات الرقمية، وقد أدت إلى تسريع استخدام هذه المدفوعات بنحو 5 سنوات. 

الأبحاث الصادرة عن شركة أبحاث السوق “برايس ووترهاوس كوبرز” (PwC) تُظهر أن عمليات الشراء عبر الإنترنت زادت من 33 بالمئة إلى 45 بالمئة منذ بداية تفشي المرض. 

علاوة على ذلك، من المرجح أن يستمر أكثر من 90 بالمئة من المستهلكين في استخدام قنوات التجارة الإلكترونية بعد انحسار الجائحة، مما يشير إلى حدوث تغيير في عادات الشراء عبر الإنترنت وفي المتاجر.

هذا يعني أن الوباء قد جعل المدفوعات الرقمية الخيار الأول للمستهلكين، وقد أدى إدخال وتطور تكنولوجيا العملات المشفرة و”البلوك تشين” إلى زيادة الاهتمام بالمجتمعات غير النقدية والعملات الرقمية.

الأهداف المعلنة

في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى، لا يستطيع العديد من الأفراد الوصول إلى الخدمات المالية. ضمن أميركا وحدها، لم يكن لدى 5 بالمئة من البالغين حساب بنكي في عام 2020. بينما 13 بالمئة من البالغين الأميركيين الذين لديهم حسابات بنكية استخدموا بدلا من ذلك خدمات بديلة مكلفة مثل الحوالات المالية.

الهدف الرئيسي من (CBDC) هو تزويد الشركات والمستهلكين بالخصوصية وقابلية النقل والراحة وسهولة الوصول والأمن المالي.

كما أن هذه النوعية من العملات قادرة أيضا على التقليل من تكلفة الصيانة التي يتطلبها النظام المالي المعقد، وتقليل تكاليف المعاملات عبر الحدود، وتزويد أولئك الذين يستخدمون حاليا طرقا بديلة لتحويل الأموال بخيارات منخفضة التكلفة.

من شأن العملة الرقمية للبنك المركزي أن تقلل أيضا من المخاطر المرتبطة باستخدام العملات الرقمية، أو العملات المشفرة، في شكلها الحالي، التي تعتبر متقلبة للغاية، الأمر الذي قد يتسبب بضغوط مالية شديدة بالنسبة للعديد من المستخدمين، ويؤثر بالاستقرار العام للاقتصاد. 

كما أن العملة الرقمية للبنك المركزي، المدعومة من قبل الحكومة، والتي يسيطر عليها البنك المركزي، تمنح المستهلكين والشركات وسيلة آمنة لتبادل العملات الرقمية، وتزود البنك المركزي للبلد بالوسائل اللازمة لتنفيذ السياسات النقدية لضمان الاستقرار والسيطرة على النمو والتأثير بالتضخم.

الاختلاف عن العملات المشفرة

النُّظم البيئية للعملات المشفرة توفر لمحة عن نظام عملة بديل لا تفرض فيه اللوائح المرهقة شروط كل معاملة. من الصعب نسخها أو تزويرها ويتم تأمينها من خلال آليات توافق الآراء التي تمنع التلاعب.

العملة الرقمية للبنك المركزي مُصممة لتكون مشابهة للعملات المشفرة، لكنها قد لا تتطلب تقنية “البلوك تشين” أو آليات الإجماع. بالإضافة إلى ذلك، فإن العملات المشفرة غير منظمة وغير مركزية، حيث يتم تحديد قيمتها من خلال معنويات المستثمرين والاستخدام واهتمام المستخدمين.

نتيجة لذلك، فإن العملات المشفرة تعتبر أصول متقلبة أكثر ملاءمة للمضاربة، الأمر الذي يجعلها مرشحة غير محتملة للاستخدام في نظام مالي يتطلب الاستقرار.

علاوة على ذلك، تعكس (CBDC) قيمة العملة الورقية، وهي مصممة لتحقيق الاستقرار والأمان.

بالرغم من أن فكرة العملة الرقمية للبنك المركزي تنبع من العملات المشفرة وتكنولوجيا “البلوك تشين”، فإنها ليست عملات مشفرة، حيث يتحكم البنك المركزي في العملة الرقمية للبنك المركزي، في حين أن العملات المشفرة دائما ما تكون لامركزية، مما يعني أنه لا يمكن تنظيمها من قبل سلطة واحدة، مثل البنك.

بشكل عام، شهدت الأشهر الـ 18 الماضية اضطرابات في سوق العملات المشفرة، بما في ذلك فشل (TerraUSD)، وهي عملة مستقرة غير مدعومة، في أيار/مايو 2022، وانهيار منصة العملات المشفرة (FTX) في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وإفلاس البنوك مثل (Silicon Valley Bank) و(Signature Bank)، اللذان خدما مزودي التشفير.

ما أهمية العملة الرقمية للبنك المركزي

من الدوافع الرئيسية وراء ظهور العملة الرقمية للبنك المركزي هي فكرة أن العملات المشفرة والعملات المستقرة تشكل تهديدا للعملات الوطنية. في هذه الحالة، تمثل العملة الرقمية للبنك المركزي ردا على هذا التحدي، مما يضمن مواكبة البنوك المركزية للثورة الرقمية.

هذه العملات من المتوقع أن توفر أرضية مشتركة لسوق العملات المشفرة الشديد التقلب، كما أنها تقلل المخاطر المرتبطة باستخدام العملة المشفرة وتوفر وسيلة مستقرة لتبادل الأصول الرقمية.

وفقا لتقرير صادر عن شركة الخدمات المصرفية الاستثمارية “سيتي جروب”، قد ينتقل نحو 5 تريليون دولار، إلى شكل النقود الرقمية الأحدث مثل العملة الرقمية للبنك المركزي والعملات المستقرة بحلول عام 2030.

نتيجة لذلك، تتجه الحكومات نحو العملة الرقمية للبنك المركزي لتعزيز كفاءة وسلامة التجزئة وأنظمة الدفع ذات القيمة الكبيرة، حيث يمكن لهذه العملة تحسين كفاءة الدفع عبر الحدود وتخفيف مخاطر الائتمان للطرف المقابل. 

كما يُنظر إليها على أنها حافز لتسريع التحول إلى مجتمع غير نقدي، حيث أن اعتماد العملة الرقمية للبنك المركزي قد يؤدي إلى خفض التكاليف بالنسبة للبنوك المركزية، وتحسين إمكانية التتبع لمكافحة التهرب الضريبي والمعاملات غير المشروعة، وتعزيز الأمن في نقل الأموال والمدفوعات.

إلى جانب ذلك، فإن تعزيز المدفوعات عبر الحدود يُعد من بين الدوافع الرئيسية لاعتماد البنوك المركزية لهذه النوعية من العملة. لتجنب ترك المدفوعات الرقمية للقطاع الخاص وسط انخفاض متسارع في النقد، فإن البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم تدرس وتعمل على إصدارات رقمية من عملاتها.

نتيجة لذلك، العديد من الحكومات والبنوك المركزية اتخذت خطوات لإنشاء أطر لتنفيذ العملة الرقمية للبنك المركزي في اقتصاداتها. 

المستقبل المنتظر

وفقا لدراسة أعدتها منصة الأخبار المالية “فينبولد” (Finbold)، تكتسب العملة الرقمية للبنك المركزي شعبية، حيث تستكشفها أو تتعامل معها بنشاط 109 دول عبر مراحل مختلفة من التطوير.

بحسب الدراسة، تشارك 45 دولة في البحث، و32 دولة قيد التطوير، و21 دولة في المرحلة التجريبية للاستكشاف، حيث أطلقت 11 دولة مشاريعها الخاصة بالعملة الرقمية للبنك المركزي.

في شهر حزيران/يونيو الماضي، بلغ عدد البلدان في مراحل الاستكشاف المتقدمة لتطوير العملة الرقمية للبنك المركزي أعلى مستوى له، مع 64 دولة – بزيادة 28 في المئة من 50 دولة في شهر أيار/مايو من العام الماضي، بينما كان المجموع 41 دولة في شهر حزيران/يونيو 2021.

علاوة على ذلك، توصل بنك التسويات الدولية في تقرير جديد يشمل 86 مصرفا مركزيا إلى أنه من المتوقع أن يجري تداول العملة الرقمية للبنك المركزي بواسطة نحو 20 بنكا مركزيا في الاقتصادات الناشئة والمتقدمة بحلول نهاية هذا العقد. 

معظم (CBDC) تظهر في مجال البيع بالتجزئة، حيث يمكن أن ينضم 11 بنكا مركزيا إلى البنوك المركزية في جزر الباهاما وشرق الكاريبي وجامايكا ونيجيريا الذين يستخدمون هذه النوعية من العملات.

أما على صعيد البيع بالجملة، الذي قد يسمح في المستقبل للمؤسسات المالية بالوصول إلى وظائف جديدة، يمكن لـ 9 بنوك مركزية إطلاق عملة رقمية للبنك المركزي.

في أواخر شهر حزيران/يونيو الماضي، أوضح البنك الوطني السويسري أنه يخطط لإصدار عملة رقمية للبنك المركزي للبيع بالجملة في البورصة الرقمية السويسرية كجزء من تجربة. 

بينما يسير البنك المركزي الأوروبي على المسار الصحيح لبدء تجريب اليورو الرقمي قبل إطلاق محتمل في عام 2028. في حين الاختبارات التجريبية في الصين وصلت الآن إلى 260 مليون شخص. 

وفقا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، تُعد الولايات المتحدة واحدة من الدول التي تستكشف ما إذا كان بإمكان عملات البنوك المركزية تحسين نظام المدفوعات المحلي الآمن والفعال في الولايات المتحدة.

إلى جانب ذلك، يخطط 2 من الاقتصادات الناشئة الكبيرة الأخرى، الهند والبرازيل، لإطلاق عملة رقمية للبنك المركزي في العام المقبل.

في شهر آذار/مارس الماضي، بدأ مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي بتفعيل استراتيجيته للعملة الرقمية، الدرهم الرقمي، حيث يجهز البنية التحتية للدولة لمستقبل التمويل.

المخاوف المشروعة

مع ذلك، بالرغم من القبول السريع للعملة الرقمية للبنك المركزي، إلا أن هناك بعض المخاوف، مثل تهديد الخصوصية والتحديات التشغيلية.

بعض تحديات التشغيل تشمل تطوير البنية التحتية، وضمان قابلية التشغيل البيني، وإدارة الانتقال من النقد إلى العملة الرقمية، التي قد تكون معقدة ومكلفة للحكومات والبنوك المركزية.

هذه النوعية من العملات تسمح للحكومات والبنوك المركزية بمراقبة وتتبع المعاملات المالية، مما قد يعرّض حقوق خصوصية الأفراد للخطر، كما تشكل الثغرات الأمنية السيبرانية خطرا أيضا.

إلى جانب ذلك، قد تؤثر الإصدارات الرقمية من العملات الورقية بأدوات السياسة النقدية التقليدية، مما يقلل من سيطرة البنوك المركزية على المعروض النقدي وفعالية تدابير السياسة النقدية.

في حين أن عملات البنوك المركزية الرقمية تتيح إمكانية الشمول المالي، إلا أن هناك خطرا يتمثل في تفاقم التفاوتات التكنولوجية، حيث أن الوصول إلى البنية التحتية الرقمية الضرورية غير موزع بالتساوي.

خلال الشهر الماضي، كشف “صندوق النقد الدولي” عن خطط لإنشاء منصة عالمية لتنفيذ (CBDC)، حيث قد تساعد هذه المنصة الموحدة في سد الفجوة المالية. مع ذلك، فقد حذر أيضا من أنها قد تتسبب بمخاطر كبيرة للنظام المالي والاقتصادات إذا لم يجري تصميمها بشكل جيد.

وفقا لبنك التسويات الدولية فإن حصة البنوك المركزية بشكل من أشكال (CBDC) قد ارتفعت إلى 93 بالمئة، حيث أوضح 60 بالمئة من البنوك المركزية المشاركة إلى أن ظهور العملات المستقرة وغيرها من الأصول المشفرة قد أدى إلى تسريع عملها.

ختاما، لا يتمتع العديد من الأفراد في جميع أنحاء العالم بإمكانية الوصول إلى الحسابات المصرفية، لذا فإن (CBDC) تمنح هؤلاء الأفراد طريقة للدفع والحفاظ على الأموال ودفع الفواتير، مع تقليل الصيانة التي يتطلبها النظام المالي المعقد، وتقليل تكاليف المعاملات عبر الحدود، ومنح الأشخاص الذين يستخدمون طرق تحويل الأموال البديلة خيارات أقل تكلفة.

نتيجة لذلك، تعمل العديد من البلدان على تطوير العملة الرقمية للبنك المركزي، وقد نفذتها 11 دولة، حيث أن الهدف الرئيسي لهذه العملات هو تزويد الشركات والمستهلكين بالخصوصية وقابلية النقل والراحة وسهولة الوصول والأمن المالي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات