استمع إلى المقال

في 12 مايو/أيار، أصدر علماء الفلك في مشروع “تلسكوب أفق الحدث” (Event Horizon Telescope) صورةً لثقبٍ أسود أُطلق عليه اسم “Sagittarius A” وتعني (قوس الرامي الأول) ويقع في مركز مجرتنا؛ درب التبانة.

هذا الثقب في الغالب نائم ولا يمتص الغاز أو الغبار إلا في بعض الأحيان، ولكن مع ذلك تُقدّر كتلته بـ 4.3 ملايين أضعاف كتلة شمسنا. ولا يزال هناك العديد من الألغاز التي تحيط بهذا الثقب الأسود الهائل، إلا أن الخبراء استطاعوا فك الكثير من هذه الألغاز حتى الآن. وفي هذا الصدد، تحدثنا إلى الدكتور محمد العصيري رئيس الجمعية الفلكية السورية والعضو المؤسس في “الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك” ليشرح لنا كيف تم إلتقاط تلك الصورة وما أهميتها.

ما هي التقنية التي استُخدمت لالتقاط الصورة؟

ثقب “قوس الرامي الأول*” الأسود في قلب مجرة درب التبانة / مصدر الصورة: مشروع تلسكوب أفق الحدث (EHT).

من المعروف أنه من الصعب اكتشاف الثقوب السوداء، وعادة ما يتم الاستدلال عليها من خلال التأثيرات التي تحدثها على بيئتها. هذا ليس فقط لأنها لا تصدر الضوء، ولكن الثقوب السوداء أيضًا تحبس الفوتونات خلف حدودٍ تسمى “أفق الحدث”، مما يجعل دراستها مباشرةً في الضوء المرئي شبه مستحيل.

لذلك، أوضح الدكتور العصيري أن هذا المشروع استخدم مجموعةً من المراصد الموزعة حول كوكب الأرض لتحاكي مرصد كبير بحجم الأرض نفسها، حيث يتم استخدام هذه المراصد لالتقاط الإشارات التي تصدر من الثقب الأسود من أماكن مختلفة على كوكب الأرض. لكن ذلك لا يكفي، إذ تبقى هناك بيانات ناقصة يتم استكمالها عن طريق خوارزميات حاسوبية لإنشاء صورة متكاملة عن الثقب الأسود.

ذلك يشبه تمييزنا لمقطوعة موسيقية باستخدام عدد قليل من النوتات الموسيقية؛ حيث يقوم دماغنا بملئ الفراغات لنتذكر بعدها الأغنية كاملةً. إذ تكافئ النوتات القليلة التي نعرفها عدد التلسكوبات التي بحوزة المشروع، والبيانات المستكملة معًا من التلسكوبات تعمل على تجميع صورة متكاملة عن الثقب الأسود.

محمد العصيري، رئيس الجمعية الفلكية السورية

ما حجم البيانات التي تمّت معالجتها للحصول على الصورة؟

يشرح العصيري لـ “إكسڤار” أنه لزيادة حساسية مشروع “تلسكوب أفق الحدث” لتصوير الثقوب السوداء، يتطلب ذلك إلتقاط كل ما يمكن من الترددات التي يطلقها الثقب الأسود، وبما أن الثقوب السوداء تطلق مجالاً واسعًا جدًا من الترددات، كان على المشروع مراقبة كل تلك الترددات وتسجيلها وحفظها.

وبالفعل، تمكنوا من ذلك باستخدام عدد كبير من الحواسيب التي تعمل بسرعات عالية وتمتلك سعات تخزينية كبيرة، حيث يمتلك أكبر موقع لتخزين البيانات من بين كل المواقع المسؤولة عن التصوير في هذا المشروع قدرة حفظ بياناتٍ تبلغ 64 غيغا بايت في الثانية الواحدة.

كيف وصلت البيانات الموجية للباحثين وكيف عالجوها حتى ظهرت لنا بهذا الشكل؟

مصدر الصورة: وكالة ناسا

وفقًا للدكتور العصيري، يتم شحن هذه البيانات لموقعين أساسيين؛ الأول معهد ماكس بلانك في ألمانيا، والثاني معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتحدة، وباستخدام برامج حاسوبية ومعالجات ذات قدرات عالية يتم جمع هذه البيانات سوية في هذه المراكز.

وبالطبع، ولكبر حجم هذه البيانات الهائل، الذي يقدر بمليارات الغيغابايت، فقد تم نقلها يدويًا وليس عن طريق الإنترنت. مع الأخذ بالعلم أيضًا أن ثقب “قوس الرامي الأول*” الأسود الموجود في قلب مجرتنا قد تم تصويره على مدار عشر ليالٍ متواصلة في عام 2017، واستغرق الأمر خمسة سنوات لمعالجة الصورة التي نراها اليوم.

إذ قام الباحثون بدمج كل هذه التسجيلات والصور معًا لإنتاج صورة نهائية دقيقة. وكان وقت المعالجة يعادل تشغيل 2000 جهاز كمبيوتر محمول بأقصى سرعة لمدة عام.

لماذا تمكّن الباحثون من التقاط صورة لثقب “M87” الأسود منذ 3 سنوات سنين رغم أنه أبعد من “قوس الرامي الأول*”؟

مصدر الصورة: مشروع تلسكوب أفق الحدث

يوضح العصيري أن ذلك يعود إلى الحجم الهائل للثقب الأسود الواقع في المجرة “M87” الذي يبلغ 2,000 ضعف حجم الثقب الأسود في مجرتنا، وبسبب أن خط النظر الذي تراه الأرض لهذا الثقب الأسود لا يملؤه الغبار البين نجمي والغاز الساخن والأمور الأخرى التي قد تعيق عملية الرصد. بينما اضطر العلماء أثناء عملية رصد الثقب الأسود في مجرتنا بمراقبته على طول موجي 1.3 مليمتر بدلاً من أن يتم الرصد بالأطوال الموجية المرئية، وهذا مكّن العلماء من أن يخترقوا الغاز الساخن المحيط بالثقب الأسود محافظين على دقة الصورة التي التقطوها لخيال أفق الحدث الخاص بالثقب الأسود. كما أن حجم البيانات الهائل الذي سبق وتكلمنا عنه يُعدُّ كبيرا جدا ويحتاج وقتًا كبيرًا للمعالجة.

عادةً ما نشاهد صورًا لأجسام أبعد من “قوس الرامي الأول*” لكن صورها أكثر وضوحًا، ما السبب وراء كون صورته مبهمةً بهالشكل؟ وكيف يمكننا في المستقبل الحصول على صور أكثر دقة للثقوب السوداء؟

أعمدة الخلق / مصدر الصورة: المنظمة الأوروبية للفضاء (ESO)

أفق الحدث هو نقطة اللاعودة التي تحيط بالثقوب السوداء، ومن بعده ونحو داخل الثقب الأسود لا يمكننا أن نرى شيء ذلك ببساطة لأن لا شيء يخرج في الأساس من الثقب الأسود، ولا حتى الضوء، وإنما ما نراه هو خياله على المواد المحيطة به من الخارج، والتي تهوي داخلةً إليه دون رجعة. ولذلك يبقى أحد أكثر الألغاز المعقدة التي ما زالت تحيّر العلماء حتى اليوم السؤال القائل: ما الذي يوجد داخل تلك الثقوب السوداء؟

أما بقية أجرام الكون، فهي إما تعكس الضوء بجميع أطيافه أو جزء منه، وإما تصدر الضوء بذاتها مثل النجوم. والضوء، كما هو معلوم، المغذِّ الأول للدقة في التصوير.

ولتحسين تلك الصور الملتقطة للثقوب السوداء، يتعين علينا زيادة عدد التلسكوبات حول العالم التي تعمل على هذا المشروع وبنائها في أماكن مناسبة وبقدرات عالية، وبناء مشاريع أخرى حول العالم من أجل نفس الهدف.

قد يهمّك أيضًا: العلماء يستنجدون بالحاسوب الكمومي للبحث عن علامات الحياة في الفضاء

ماذا تعني هذه الصورة لمستقبل دراسة الثقوب السوداء؟

يقول العصيري إن ذلك يعني زيادة فهمنا لتطور الثقوب السوداء، وخاصةً تلك التي تقبع في داخل المجرات؛ فتكوّن المجرات ما زال يحمل معه أسئلةً تحير العلماء، ومع العودة لمليارات السنين إلى الوراء في عمر الكون، كيف ستشرح نظرياتنا اليوم تلك الأزمنة البعيدة من دون أن نختبرها بأنفسنا؟

مثالًا على ذلك نظرية النسبية العامة لأينشتاين التي تنص على كون المادة هي أحد أشكال الطاقة، والتي ربطت بين توزع الطاقة وحركتها داخل نسيج الزمكان؛ النسيج الذي يمتد عبر الكون كله، والذي بإنحنائه تظهر الجاذبية؛ تمامًا كانحناء الترامبولين تحت قدمي طفل.”

إذ ينحني هذا النسيج بوجود كتل كبيرة بداخله؛ مما يعني أن هذه الثقوب السوداء تحني النسيج الزمكاني حولها بشكلٍ كبير. وبالفعل، تم اختبار هذه النظرية على الشمس وعلى الأرض لمعرفة مدى دقتها في دراسة الكون من حولنا، ولكن بوجود تكنولوجيا كتلك الموجودة في مشروع “تلسكوب أفق الحدث” فإن الأمر مختلف، وبفضلها نستطيع أن نأخذ إثبات ذلك للنظرية التي تفسر ألغاز الكون إلى مستوى آخر تمامًا؛ وبذلك كلّما فهمنا كيف تتصرف المادة وكيف تتصرف الثقوب السوداء التي تجذب تلك المادة فإن الأمر يسهل علينا حتى حياتنا اليومية.

من منا لا يستخدم نظام تحديد المواقع “GPS” (الذي تربطه علاقة وثيقة مع النسبية العامة) أو غيره من الأنظمة الملاحية؟ كل هذه الأنظمة تعتمد في أساسها على نظريات فيزيائية يتم اختبارها مرارًا وتكرارًا لزيادة دقة نتائجها واكتشاف نظريات جديدة تساعدنا في فهمٍ أعمق للكون ينتج عنه تسهيل لحياتنا اليوم ورحلتنا في البحث خارج كوكب الأرض.

محمد العصيري، رئيس الجمعية الفلكية السورية

في الختام، فإن الصورة تساوي ألف كلمة، وتمخّض عن هذه الصورة الجديدة بالفعل 10 أوراق بحثية. ولن يقف الأمر عند هذا الحد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات