استمع إلى المقال

بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 شارفت على نهايتها، وحملت معها العديد من المفاجئات والمديح والانتقادات، لكن في ظل كل الزخم الذي اكتسبته البطولة، يبقى كأس العالم واحدا من الأحداث الخمس الأكبر عالميا، ومن نواحٍ كثيرة، يمكن اعتبار كل لعبة وموسم وبطولة نموذجا مصغرا لعالم الأعمال.

من منظور علم البيانات، هناك ثورة في البيانات الضخمة تحدث في عالم كرة القدم، بدءا من تنبؤ الذكاء الصنعي بسير مباريات البطولة وهوية الفريق الفائز بناء على أمثلة سابقة، إلى قيام أكبر الفرق في كرة القدم إلى بناء أقسام علوم البيانات الخاصة بها.

القنوات والمنصات المسؤولة عن بث المباريات بدأت كذلك في تقديم بعض الإحصاءات المفيدة أثناء المباريات المستندة إلى البيانات الضخمة، كما تُثري مواقع الويب الرياضية التحليلية محتواها بكميات هائلة من البيانات والإحصائيات الرياضية الضخمة المثيرة للاهتمام بفضل البيانات.

ثورة البيانات حدثت قبل ذلك بكثير في بعض الرياضات الأخرى. على وجه الخصوص، في لعبة البيسبول، حيث أشار العديد من علماء البيانات إلى كتاب “Moneyball” من تأليف مايكل لويس و”The Signal and The Noise” لنيت سيلفر؛ اللذين يتحدثا عن كيفية تسخير البيانات في كسب مباريات البيسبوك كمصدر إلهام لما يمكن أن تقدمه علوم البيانات في كل من الرياضة والأعمال.

لكن عوامل كثيرة من التي جعلت تلك الإحصائيات ناجحة جدا في لعبة البيسبول لا يُمكن ترجمتها بسهولة إلى كرة القدم، إذ تتكون لعبة البيسبول من أحداث منفصلة، بينما بطولات كرة القدم، واللعبة نفسها، سلسة مرتبطة في جوهرها، إذ من الصعب تقسيم مباراة كرة القدم إلى أحداث منفصلة. لذا، من وجهة نظر إحصائية، تتمتع كرة القدم بطبقة إضافية من التجريد مقارنة بالبيسبول.

هذا التجريد لعب دورا كبيرا في إبطاء ثورة البيانات في كرة القدم. ولكنه أيضا أفضلية أكبر بكثير عندما يتعلق الأمر بمقارنتها بعالم الأعمال من ناحية البيانات؛ ففي مجال الأعمال التجارية، يمكن اختزال معظم ما يحاول علماء البيانات فعله في تحويل بعض المفاهيم المعقدة والمجردة وغير المحددة إلى نماذج وأرقام ملموسة يمكن فهمها بسهولة أكبر.

قد يهمك: معالجة البيانات الضخمة وتقاطعها مع معايير الخصوصية

علم البيانات يكسر القواعد

يقول الباحث المساعد في علم البيانات في المعهد الكوري المتقدّم للعلوم والتكنولوجيا أنس الصعيدي، في حديثه لموقع “إكسڤار”، إن نجاح علم البيانات في لعبة البيسبول كان خطوة ضرورية لتعزيز علم البيانات في كرة القدم، وحتى في عالم الأعمال، وبينما لا يزال علم البيانات يثبت موطئ قدمه في كرة القدم، إذ ظهرت في كأس العالم بعض العلامات التي تتحدث عن علم البيانات ككل. أبرزها كان الارتفاع في المفاجئات الكبرى (تدعى “الاضطرابات الكبرى” أو Major Upsets في علم البيانات).

في أول 32 مباراة من كأس العالم 2022، كانت هناك 11 مباراة كان من الممكن أن تُحدث مفاجأة كبيرة، بحسب علم البيانات، مباراتان منها فعلتا ذلك، في حين أنه في نسخة 2018 من كأس العالم لم تحدث أي مفاجآت في نفس المرحلة.

الباحث أنس الصعيدي

الصعيدي يرى أنه مع دخول البيانات مجالا جديدا، غالبا ما نرى المنافسين الراسخين يتمسكون بسلوكياتهم التقليدية، ويعانون بسبب ذلك. ذلك لأن هذه السلوكيات والقواعد تنبع عادةً من سلوك مجموعة المنافسين الراسخين نفسها. هذه القواعد هي التي جعلت تلك الفرق (أو تلك الشركات) ناجحة في الماضي.

الباحث يقول إن هذه القواعد أيضا، رغم اتباعها في كثير من الأحيان بشكل أعمى، هي تجسيد لما يسمى بالمعرفة المؤسسية. فهي سلوكيات تطورت ببطء، وتستمر في التطور، نحو الحلول المثلى. يحمي هذا التطور البطيء المنافسين الراسخين من ارتكاب الأخطاء الجسيمة، لكنه يحد أيضا من قدرتهم على الابتكار بشكل أسرع من المنافسين الأصغر.

علم البيانات يعزز الجرأة

تكمن قوة علم البيانات في أنه يوفر طريقة أسرع للوصول إلى الحل الأمثل، إذ يتيح للمنافسين الناشئين أن يتعلموا بسرعة الأشياء التي قضى المنافسون الراسخون عشرات السنين في اكتشافها، ويتيح لنا تحديد المواقف وفرزها واستخراج أنماط ذات مغزى بسرعة دون الاضطرار إلى تجربة كل موقف بشكل منفرد. مع علم البيانات يمكننا التعلم بشكل أسرع من أي وقت مضى، ويمكننا من تحقيق المساواة بين المنافسين.

لذلك، بالنسبة للمنافس الراسخ، فإن الوضع يصعب عندما لا تتوافق البيانات مع القواعد القائمة؛ ينتج عن عدم التوافق ذاك الابتكار والتعلم، وكذلك الأخطاء السيئة. علاوةً على ذلك، قد يكون من المحرج للمنافسين الراسخين التصرف بناءً على توصيات مبتكرة، لأنه إقرار بأن بعض معارفهم المؤسسية غير صحيحة.

المنافسون الأقل ترسخا هم أكثر انفتاحا على الحلول المبتكرة التي يوصي بها علم البيانات، ذلك لأنهم ليسوا مؤطرين بالقواعد القياسية. بعبارة أخرى، لا تتعارض البيانات مع معرفتهم المؤسسية، لذلك لا يوجد اعتراف ضمني بالخطأ.

قد يهمك: ما الفرق بين المعلومات والبيانات؟

الموازنة بين الابتكار والالتزام

رسم يقارن التحركات الحقيقية للاعبين أثناء مباراة كرة القدم مع تنبؤات من نموذج يتنبأ بتحركات اللاعبين التي لا تلتقطها الكاميرا. المنطقة المظللة باللون الرمادي هي مجال رؤية كاميرا التلفزيون. المصدر: “ديب مايند”

مثال مثير للاهتمام في كرة القدم هو وقت التبديلات. إذ سادت التقاليد أن يبدأ الفريق الخاسر تبديلاته في حوالي الدقيقة 60 من المباراة، وتم اتباع ذلك النهج لسنوات طويلة دون التأكد، بشكل حاسم، من صحة هذه الممارسة.

إحدى القواعد الأساسية الرئيسية التي يجب الرجوع إليها هي أن التحليلات الجيدة يجب أن تتبع قاعدة 80/20، وتعني أن حوالي 80 بالمئة من التوصيات الصادرة عن نماذج معالجة البيانات يجب أن تتماشى مع السلوكيات الحالية المتّبعة، و 20 بالمئة يجب أن تكون مبتكرة.

هذا يعني أن 80 بالمئة من التوصيات أو الأفكار قد تعدّل السلوكيات الحالية بشكل طفيف، لكنها لن تغيرها بشكل كبير، وبالتالي لن يكون لها تأثير كبير على أداء الأعمال، بينما نسبة الـ 20 بالمئة المبتكرة هي التي تحفز الحماس لوجود فرصة لإحداث تأثير كبير على أداء الأعمال.

بالعودة إلى مثال وقت الاستبدال، اتضح أن نمذجة البيانات الضخمة تقترح أن الوقت الأمثل للفريق المتأخر بالنتيجة لإجراء التبديل الأول هو في الدقيقة 58، التوقيت القريب من القاعدة الحالية. لذلك، صحيح أنه لم يكن هناك ابتكارٌ كبير، ولكن البيانات أظهرت أن المعرفة المؤسسية صحيحة إلى حد ما حول هذا الموضوع.

وعلى الرغم من أهمية التحقق من صحة القواعد المتبعة، إلا أن الفرق (أو الشركات) يجب أن تعطي اهتماما للرؤى التي يوفرها علم البيانات. إذ تستمد نسبة 20 بالمئة من التوصيات المبتكرة قيمتها من استعداد المؤسسة لتنفيذ التغييرات والتحرك في اتجاه جديد.

إذا لم تكن كذلك، فإن المنافسين الأقل رسوخا، والذين هم أكثر استعدادا للاستفادة من تلك الأفكار الجديدة سوف يتفوقون عليهم. تجلى ذلك في كأس العالم 2022، سواءً مع المنتخبات العربية الذين انتصروا على الأرجنتين وفرنسا وتعادلوا مع بلجيكا، أو المنتخب الياباني الذي تسبب في خروج المنتخب الألماني، وسنستمر في رؤية المزيد من المفاجآت المشابهة في البطولات القادمة حيث تتفوق الفرق الأضعف على استراتيجيات النخبة.

الابتكار القائم على البيانات لا يعني التخلي عن القواعد المتّبعة، فمعظم هذه القواعد يأتي من تراكم المعرفة والخبرة. يأتي دور الابتكار لتصحيح خطأ ما في قاعدة المعرفة المؤسسية. هذا لا يعني أيضا أن البيانات لا تخطئ، لكنه يعني أن المؤسسات بحاجة إلى توخي الحذر والدقة عند معالجتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.