سياسة “صفر كوفيد“.. مسمار آخر في نعش التقنية الصينية؟

سياسة “صفر كوفيد“.. مسمار آخر في نعش التقنية الصينية؟
استمع إلى المقال

في مشهد من النادر أن يُرى، خرج مئات الآلاف من المتظاهرين في عدة مدن صينية متذمرين من سياسات “الحزب الشيوعي” الحاكم والإجراءات التي اتخذها لمواجه “كوفيد-19” أو ما يُعرف باسم سياسة “صفر كوفيد” التي تسببت في خسائر اقتصادية ضخمة على جميع القطاعات في الصين.

أصوات المتظاهرين لم تهدأ رغم كل محاولات الحكومة الصينية، بل تعالت لتصل حدّ المطالبة بإقالة رئيس الحكومة الصينية شي جين بينغ، الذي توسع كثيرا في تطبيق سياسات المراقبة والتجسس على جميع المواطنين.

لماذا الغضب من سياسة “صفر كوفيد“؟

Embed from Getty Images

سياسات مكافحة عدوى “كوفيد- 19” منتشرة في الكثير من الدول حول العالم، وهي تتنوع وتختلف في شدتها باختلاف شدة العدوى ومدى انتشارها، حيث تفضّل بعض الدول عزل المصابين فقط مع الحفاظ على سير الحياة الطبيعي حتى وصول العدوى إلى درجة معينة، والبعض الآخر يجبر التحصين على كل المخالطين للحالات المصابة.

ولكن الصين تنفرد بنوع خاص من السياسات وهو سياسة “صفر كوفيد”، التي تُعد إحدى أقصى وأشد طرق مكافحة العدوى على الإطلاق، إذ يكفي ظهور بضع حالات حتى يتم تطبيق عزل كامل للمكان الذي ظهرت فيه الحالات سواء كان مجمع سكني أو مصنع شركة، وتقوم السلطات المحلية بتطبيق هذا العزل بالقوة الغاشمة وتبدأ في اختبار كافة المخالطين للمرضى لتحديد معدل الإصابة، وبعد ذلك يتم إغلاق جميع المدارس والمتاجر الصغيرة والكبيرة إضافة إلى مقرات الشركات والمصانع الخاصة بها، ويستمر هذا الحظر حتى تختفي الحالات تمامًا ولا تظهر أي إصابات جديدة.

الإجراءات التي تتبعها الحكومة الصينية في “صفر كوفيد” قد تبدو مطلوبة لمواجهة وباء سريع الانتشار مثل “كوفيد 19” ولكنها غير صالحة للتطبيق في المنظومة الصينية بأكملها بسبب ضعف وحدات الرعاية الفائقة للمرضى إلى جانب التكدس العام الذي تعاني منه الصين في جميع أرجائها، وهو ما يجعل الكثير من المناطق والمدن تدخل في حظر مستمر لفترات قد تزيد عن شهرين مثلما حدث مع شنغهاي، التي تعاني من حظر شامل بسبب هذه السياسة منذ شهرين تقريبا.

قد يهمك أيضًا: احتجاجات في أكبر مصنع “آيفون” في الصين.. ما الذي يحصل؟

كما أن سياسة “صفر كوفيد” تترك الكثير لتأويل المصانع وأصحاب العمل الذين لن يتقبلوا الخسائر المادية من هذه السياسة، ويُعد مصنع “فوكسكون” في “تشنغتشو” المثال الأوضح على ذلك، إذ أجبر المصنع العاملين فيه على الإقامة داخل حدود المصنع وعدم العودة إلى منازلهم بعد تطبيق السياسة بالتعاون مع السلطات المحلية، وهو ما أجبر بعض العاملين على الهروب من المصنع والقفز فوق أسواره.

مصنع “فوكسكون” في مدينة “تشنغتشو” يُعد أحد أكبر مصانع الشركة في الصين، لذلك تعتمد عليه آبل كثيرا في تزويدها بأجهزة آيفون، ولكن مع قلة الموارد الغذائية داخل المصنع وغياب الرعاية الصحية اللازمة والحظر المطبق عليه، فإن بعض العاملين قرروا الفرار بحياتهم تاركين المصنع تماما.

مكافآت تصل إلى 25 ألف يوان شهريا، هكذا جذب مصنع “فوكسكون” العاملين من أنحاء الصين وأقنعهم بشد الرحال إليه استجابة لهروب الكثيرين منه وخوفا من ضعف الإنتاج العام، ولكن لي سانشان، وصف هذه العروض بأنها “عروض وهمية” في حديثه مع موقع “الغارديان“، وأضاف قائلا،

” لقد تركت وظيفتي السابقة استجابة لهذا العرض، ولكن عندما وصلت إلى المصنع فوجئت بأنني أحتاج إلى العمل لمدة شهرين حتى أحصل على هذا الراتب“.

لي سانشان- أحد المتقدمين لوظائف مصنع “فوكسكون”

“فوكسكون” اعتذرت لاحقا وصرّحت بأن خطأ تقني في أنظمة الدفع، كان السبب في اختلاف الأجور وتأخيرها، وهو ما لم يتفق معه الموظفون الذين توجهوا إلى مقر الشركة بناء على هذا الإعلان.

اندلاع شرارة الغضب

Embed from Getty Images

بين هذه العروض الوهمية وسياسة ” صفر كوفيد” خرج العاملون في مصنع “فوكسكون” بمدينة “تشنغتشو” غاضبين إلى الشوارع محطمين كافة الحواجز المعدنية أمامهم ومتحدين السلطات المحلية التي كانت تحاول حجزهم داخل المصنع منعا لتفاقم الأمر، وهو ما أجبر السلطات المحلية على استخدام العنف في مواجهة جماهير المتظاهرين كما ظهر في عدة مقاطع انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية المختلفة.

وفي بقعة أخرى داخل حدود سور الصين العظيم وتحديدا في مدينة “أورومتشي” أقصى الشمال الغربي للبلاد وقعت حادثة أخرى كانت القشة التي قسمت ظهر البعير وساهمت في خروج المظاهرات كما نراها اليوم، والسبب ورائها هو تطبيق آخر لسياسة “صفر كوفيد“.

10 أشخاص فقدوا حياتهم في حريق اندلع في إحدى الشقق في مربع سكني بالمدينة، وبينما تمكن السكان من إخماد النيران، إلا أن السلطات المحلية لم تستطيع الوصول في الوقت المناسب بسبب الحجر الصحي المطبّق على حدود “أورومتشي” لمدة تزيد عن 100 يوم.

نيران الحريق تركت شعلة في قلب سكان المدينة الذين خسروا أصدقائهم وزملائهم، لذلك خرجوا متجهين إلى مبنى الحكومة في المدينة مطالبين برفع الحظر، وبينما وعدت السلطة المحليّة بتخفيف الإجراءات قليلا، إلا أن هذا لم يخمد نار غضبهم التي تصاعدت منادية بتنحي الرئيس الصيني شي جين بينغ.

أكثر من عشرين مظاهرة مختلفة في 15 مدينة صينية، تبدأ من العاصمة بكين وتصل حتى أطراف الدولة في “قوانغتشو” تضم آلاف المتظاهرين الغاضبين من السياسة والمطالبين بتخفيف أثارها كونها تركت ضررا كبيرا على حياتهم وأعمالهم.

حكومة “الحزب الشيوعي” الصيني، لم تدخر جهدا في محاولة قمع هذه المظاهرات بدءا من استخدام العنف والقوة لفض المظاهرات وحتى مطاردتهم عبر منصات التواصل الغربية مثل “تويتر” وغيرها من المنصات، وذلك لأن الحديث عن هذه التظاهرات داخل المنصات الصينية محظور تماما مما أجبر الصينيين على محاولة تخطي “الجدار الناري العظيم” الذي تطبقه الصين داخل حدودها.

“تويتر” استفاد قليلا من هذه التظاهرات، إذ عاود الظهور في قائمة أكثر التطبيقات تحميلا داخل الحدود الصينية بعد غياب لسنوات طويلة بسبب حظره داخل المنطقة، وحتى في “تويتر” أرسلت الحكومة رجالها من أجل التشويش على التغريدات التي تتحدث حول المظاهرات وسياسة الدولة.

قد يهمك أيضًا: سياسات الصين الانعزالية: هل تكلفها انحدارًا تقنيًا رغم تركيزها على عكس ذلك؟

دافع آخر للهجرة

“كوفيد 19” ترك أثرا لازالت الشركات التقنية تحاول التخلص منه، إذ تسبب في خفض إنتاج الهواتف الذكية أكثر من 12٪ عام 2020 وخفض أرباح الخوادم وشركات الاستضافة بنسبة 16٪ للعام ذاته، كما أن أثره في أزمة الشرائح وصناعة السيارات لازال ملموسا حتى يومنا هذا.

العودة إلى سياسة “صفر كوفيد” وإغلاق الأعمال داخل الحدود الصينية تهدد الشركات التقنيّة بالعودة إلى أزمة “كوفيد-19” مجددا بعد أن بدأت بالتعافي جزئيا، ولكن الفارق الوحيد، هو أن هذا التأثير لن يكون عالميا مثل الأزمة السابقة، بل سيكون ملموسا للشركات الصينية تحديدا أو الشركات التي تمتلك مصانع داخل الحدود الصينية.

“فوكسكون” بدأت تعاني من تبعات هذه السياسة مباشرة، إذ أن مصنع مدينة “تشنغتشو” هو المسؤول عن تجميع أغلب أجهزة الشركة في الصين بما فيها “آيفون 14 برو و برو ماكس“، لذلك خفضت “آبل” و”فوكسكون” تقديراتهما لإنتاج بسبب الاضطرابات في المدينة وذلك بمقدار 6 مليون وحدة، وهو ما سيكون سببا في ارتفاع أسعار هواتف “آيفون 14 برو وبرو ماكس” في الشهور القادمة.

بعيدا عن الشركات التقنية فإن آثار هذه الاضطرابات أثرت على بورصة هونغ كونغ وأسعار النفط بها، إذ انخفض مؤشر “هانغ سنغ” في بورصة “هونغ كونغ” بمقدار 1.63٪ في الساعات الأخيرة للتداول يوم 28 تشرين الثاني/ نوفمبر وذلك بعد خسارته 4٪ في بداية التداولات ذلك اليوم، وأما مؤشر “هانغ سنغ” التقني فقد خسر 2.97٪ من قيمته في اليوم، وأما “مركبات شنغهاي” فقد فقد 0.75٪ من قيمته و “مكونات شنتشن” خسر 0.69٪ من قيمته.

على عكس الكثير من الشركات الأخرى، فإن الشركات التقنية تمتلك منفذا آمنا، إذ تستطيع بناء مصانع ومقرات خارج حدود الصين مما يجعلها تهرب من سياسة “صفر كوفيد” التي تؤثر عليها سلبا.

“فوكسكون”، إحدى الشركات التي بدأت في ذلك بالفعل، إذ تخطط الشركة لمضاعفة العاملين بمصنعها في الهند أربعة مرات وفق ما نقلته “رويترز” خلال الفترة القادمة كجزء من مجهودات الشركة للهروب من السياسات الصينية المجحفة، وأما “تينسينت” عملاق صناعة الألعاب والبرمجيات الصينية، فقد بدأت تكثف استثماراتها في شركات خارجية مثل “يوبي سوفت” و” فروم سوفتوير“، وهناك بالطبع شركات الهواتف المحمولة التي بدأت تبني مصانع لها في مصر مثل “أوبو” و“فيفو”.

قد يهمك أيضًا: لماذا كثفت تينسينت استثماراتها في شركات الألعاب خارج الصين؟

مستقبل التقنية الصينية

كلمة “شركة صينية” أصبحت وصمة عار تطارد الشركات التقنية وتمنعها من إكمال الكثير من الصفقات خارج حدود الصين، وربما كان حظر “هواوي” أحد أوضح الأمثلة على ذلك، كما أن الحكومة الأميركية بدأت تحظر استخدام أدوات المراقبة والاتصالات الصينية بشكل عام، ويدفعنا ذلك للتساؤل، أي مستقبل ينتظر شركات التقنية الصينية إذا كانت لا تستطيع العمل في الداخل بسبب السياسات المجحفة ولا تستطيع العمل خارج حدود الصين بكامل كفاءتها لكونها “شركات صينية“.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.