استمع إلى المقال

تحولت صناعة أشباه الموصلات إلى قضية جيوسياسية عالية المخاطر ومصدر توتر بين الولايات المتحدة والصين التي تربطها علاقات متوترة مع تايوان منذ عقود، مع تداعيات محتملة على التجارة العالمية. إذ تعتبر أشباه الموصلات، المعروفة باسم “الرقائق الإلكترونية”، جزء أساسي في صميم النمو الاقتصادي ومكوّن حيوي للابتكار التكنولوجي. 

بحجمٍ أصغر من حجم طابع البريد، وأرق من شعرة الإنسان، ومصنوعةً من حوالي 40 مليار مكوّن نانوي، فإن تأثير أشباه الموصلات على التنمية العالمية يفوق تأثير الثورة الصناعية بحد ذاتها. من الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر وأجهزة تنظيم ضربات القلب إلى الإنترنت والمركبات الإلكترونية والطائرات والأسلحة والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، تنتشر أشباه الموصلات في كل مكان في الأجهزة الكهربائية وفي مجالات رقمنة السلع والخدمات الرقمية الأخرى مثل التجارة الإلكترونية.

لذا، فإن الطلب على هذه الرقائق آخذٌ في الازدياد مع كل دقيقة يزيد الاعتماد فيها على التقنية، لكن تبعات جائحة كورونا والنزاعات التجارية الدولية تضغط على سلاسل التوريد في هذه الصناعة، بينما تهدد الحرب بين الولايات المتحدة والصين حول التفوق التكنولوجي بتقسيم سلاسل التوريد بشكلٍ أكبر مما هي عليه، مما يؤزم الأمر أكثر ويزيد من اضطراب التجارة الدولية.

صناعة تقليدية أخذت بُعدًا جيوسياسي

لم يعد بإمكان صناعة الرقائق القيام بأعمال تجارية كما كانت في الماضي عندما كانت الدول منفتحةً على بعضها البعض. الآن، تحتاج شركات الرقائق إلى تراخيص أو موافقات حكومية قبل أن تتمكن من اتخاذ أي خطوة.

ومع تزايد الدول التي ترغب في نقل سلاسل التوريد خارج الصين، فإن هذه الصناعة مجبرة على إعادة التفكير في عملياتها العالمية، من التوظيف إلى مناجم المعادن الأرضية النادرة اللازمة لتكوين هذه الرقائق، وذلك بسبب الاعتبارات الجيوسياسية.

منذ أن بدأ الفصل بين الولايات المتحدة والصين يتصدر عناوين الصحف في عام 2017، تركّز الكثير من الاهتمام على التجارة بين البلدين، وبلغ ذلك ذروته في الحملة التي شنّتها الولايات المتحدة على تقنيات شبكات الجيل الخامس التابعة لـ “هواوي”، أهم وأكبر شركة تكنولوجيا في الصين.

لكن الإجراءات العقابية التي اتخذتها واشنطن فيما يتعلق بأشباه الموصلات تمثل مشكلةً أكثر جوهرية لبكين. إذ أدت الجهود المبذولة لقطع توريد أشباه الموصلات إلى هواوي وتشجيع بناء مصانع (يُطلق عليها “مسابك”) أشباه الموصلات المتقدمة في الولايات المتحدة إلى جرّ هذه الصناعة إلى حرب التكنولوجيا الباردة الجديدة.

حملة بكين من أجل الاستقلالية

في سبتمبر/أيلول 2020، فرضت الحكومة الأمريكية عقوبات على أكبر شركة صينية لتصنيع أشباه الموصلات، وهي شركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية (SMIC)، مستشهدةً بالاستخدام العسكري النهائي في الصين.

وبعد شهرين فقط، أصدرت الصين خطتها الخمسية الرابعة عشرة، لرفع الاستقلالية في إنتاج أشباه الموصلات للمساعدة في تحقيق الاعتماد التكنولوجي على الذات. وفي 5 مارس/آذار 2012، أعلن رئيس الوزراء الصيني “لي كه تشيانغ” عن زيادة الاستثمارات الوطنية في الرقائق الداخلة في التقنيات الأساسية مثل الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس خلال الأعوام الخمس القادمة بمقدار 7% للحاق بالولايات المتحدة.

في حين أن سد فجوة تكنولوجيا أشباه الموصلات من أهم أولويات بكين، لا تزال هناك عقبات كبيرة. إذ حافظت الولايات المتحدة على ريادتها في صناعة أشباه الموصلات على مدى عقود، حيث سيطرت على 48% (193 مليار دولار) من حصة السوق من حيث الإيرادات في عام 2021. ووفقًا لـ IC Insights، فإن ثمانية من أكبر 15 شركة لأشباه الموصلات في العالم موجودة في الولايات المتحدة، مع إنتل في المقدمة من حيث المبيعات.

على الجانب الآخر، تعد الصين مستوردًا صافيًا: فعلى مدى ثلاث سنوات متتالية، استوردت ما تبلغ قيمته حوالي الـ 300 مليار دولار من أشباه الموصلات -أكثر من أي دولة أخرى- وصدّرت حوالي 30% فقط من رقائقها المصنّعة محليًا.

لا يغيب عن بكين مدى أهمية أشباه الموصلات في طموحاتها التكنولوجية، حيث يعتمد الجيل التالي من التطبيقات الرقمية على الدوائر المتكاملة المتطورة (IC). ونظرًا لاعتمادها المفرط على التكنولوجيا الأجنبية، كانت الحكومة الصينية في أمس الحاجة إلى تسريع عملية تطوير صناعة أشباه الموصلات المحلية لتحقيق “استقلالية الرقائق”.

وعلى مستوى تصميم الرقائق، أحرزت هواوي تقدمًا من خلال تطوير شريحة “كيرين” (Kirin) الداخلية بنجاح لمعدات شبكات الجيل الخامس والهواتف الذكية للشركة، والتي قيل إنها تنافس شرائح منافسي الشركة سامسونج وكوالكوم.

لكن مشكلة بكين الرئيسية هي تصنيع الرقائق عالية الجودة. إذ يتم تصنيع شرائح “كيرين” من هواوي بواسطة “الشركة التايوانية لصناعة أشباه الموصلات” (TSMC) باستخدام التكنولوجيا الأمريكية. أما خارج أشباه الموصلات المستخدمة في الأجهزة المحمولة، أي في قطاعات أشباه الموصلات الرئيسية الأخرى مثل وحدات المعالجة المركزية ووحدات معالجة الرسومات، تتخلف الشركات الصينية كثيرًا عن نظيراتها الغربية من حيث التصميم وحصة السوق.

تأخر لأجيال

عندما يتعلق الأمر بتكنولوجيا أشباه الموصلات، فإن القوة الأساسية الدافعة وراء تصميمها هو التصغير. وتمضي “TSMC”، الشركة الرائدة في صناعة الرقائق في العالم، والتي تمتلك أكثر من نصف سوق المسابك العالمي، تمضي قدمًا الآن لتطوير عملية إنتاج رقاقة 3 نانومتر، ومن المتوقع أن يتم طرح رقائق 2 نانومتر في السوق في عام 2025.

وبالمقارنة، بدأ مسبك “SMIC” الصيني المملوك للدولة في إنتاج رقائق 14 نانومتر فقط في نهاية عام 2019، مما جعله متخلفًا بجيلين على الأقل عن المسابك الرائدة في الولايات المتحدة وشرق آسيا.

وعلى مر السنين، عزز الدعم الصيني الحكومي إنتاج الرقائق المحلي. تلقت الشركات المصنعة للرقائق الصينية 50 مليار دولار من الدعم على مدى العقدين الماضيين، مصحوبة بقروض تفضيلية وحوافز للشراء. ولكن على الرغم من الاستثمارات الضخمة، من غير المرجح أن تصبح الصين قادرةً على تصنيع أشباه الموصلات بشكلٍ مستقل في السنوات العشر المقبلة، باستثناء بعض المجالات المتخصصة. وكما فعلت “TSMC”، قد يكون أكثر ملاءمةً للصين تركيز قدراتها على قطاع واحد بدلاً من سلسلة التوريد بأكملها.

طريقٌ طويل

في الأفق القريب، لا تستطيع الشركات الصينية التنافس ضد المنافسين من الدرجة الأولى بسبب محدودية الوصول إلى معدات وبرامج التصنيع المتخصصة. إذ هناك عوائق إضافية مثل نقص المواهب الصناعية والابتكار تحول دون تطوير سلسلة التوريد الصينية المكتفية ذاتيًا.

لكن على الرغم من أن الأمر سوف يستغرق وقتًا حتى تتمكن الصين من اللحاق بالركب، لكن القطع موجودة بالفعل. على سبيل المثال، طورت “علي بابا” شرائح قائمة على الذكاء الصنعي تُستخدم في تطبيقات الحوسبة السحابية. وهذا يُظهر أن الصين لا تبدأ من الصفر.

لكن في الوقت نفسه، وعلى المدى القصير، ستشعر الشركات الصينية تباعًا بتأثير اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات بشأن الرقائق، وستكافح الصين لتُخرج شركاتها من هذا المأزق.

أزمة تايوان

بغض النظر عن كل ما سبق، تمثل أشباه الموصلات العمود الفقري لطموحات كلاً من الولايات المتحدة والصين التكنولوجية المعتمدة على بعضها البعض: تعتمد كل شركة تكنولوجيا صينية كبرى على رقائق الولايات المتحدة، وقد استفادت العديد من الشركات الأمريكية من الأسواق والعملاء الصينيَّين.

ونظرًا لدورها المركزي في تصنيع الرقائق وسلاسل التوريد، تورّطت تايوان في الصراع الأمريكي الصيني المتصاعد، حيث يعتمد كلاهما على أجهزة أشباه الموصلات التي تنتجها البلد.

تلعب تايوان دورًا هائلاً بسبب مكانتها في المشهد التكنولوجي العالمي. إذ أن الموهبة التايوانية، من الذكاء الصنعي إلى الرقائق الإلكترونية، هي التي يتم التنافس عليها في مشاريع التكنولوجيا. وهذا ما يشكّل دافعًا هائلًا من جانب الصين لاكتساب المواهب والتكنولوجيا التايوانية، وهو ما يشكّل بدوره دافعًا كبيرًا بنفس القدر من جانب تايوان لمنع الصين من اكتساب مواهبها.

التحرش الصيني

في ظل العقوبات الأمريكية على الشركات والمسابك الصينية، فإن وصول الصين إلى أسواق مثل تايوان أمر بالغ الأهمية للحصول على التكنولوجيا والخبرة التي تحتاجها إليها للحاق بالركب.

ولا يقتصر ذلك على الاجتياح العسكري المحتمل، بل الهجمات الإلكترونية الصينية على الشركات التايوانية الرئيسية هي سلوكٌ واضحٌ أيضًا يهدف للحصول على الملكية الفكرية اللازمة لتعزيز صناعة أشباه الموصلات داخل الأراضي الصينية.

بعد كل شيء، لعبت الأدوار الجيوسياسية في آسيا دورًا رئيسيًا في السبب في أن إنتاج الرقائق الصينية يتخلف عن إنتاج تايوان وكوريا الجنوبية واليابان. فالأخيرين، وكحلفاء للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، استفادت اقتصاداتهم من رأس المال الأمريكي وتبادل التكنولوجيا.

ومع اشتداد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في ظل إدارة ترامب السابقة، لجأت الولايات المتحدة إلى تشديد ضوابط تصدير أشباه الموصلات من خلال سياسات ترخيص أكثر صرامة تستهدف الكيانات الصينية، حيث تقوم واشنطن بقمع الاستثمار والاستحواذ على التقنيات الأمريكية من قبل بكين.

الصرامة الأميركية

للحفاظ على ريادتها في صناعة الرقائق، نفذت واشنطن ما يسمى بـ “قائمة الكيانات” (Entity List) الصينية التي يُحظر بيع منتجاتها في الولايات المتحدة، كما فعلت مع “هواوي” و “SMIC”. وفي نهاية المطاف، الهدف هو ما يصفه بول تريولو من مجموعة أوراسيا بسلاسل توريد أشباه الموصلات “الزرقاء” (الولايات المتحدة) التي تقابلها “الحمراء” (الصينية) المنافسة، الأمر الذي يجبر يجبر شركات مثل “TSMC” على تحديد أيّ من الجانبين ستكون معه.

وكتب الصحفي جيمس كرابتري في مقالٍ نُشر في صحيفة “نيكي آسيا”: “تظل أشباه الموصلات واحدة من أعظم المزايا التي يتمتع بها بايدن على الرئيس الصيني شي جين بينغ. ففي حرب باردة جديدة، عليك أن تقاتل بالأسلحة التي تمتلكها بين يديك”، مضيفًا أن “بايدن من المرجح أن يمضي قدمًا في سياسة صناعية على النمط الصيني إلى الأبد بينما يسعى إلى إقناع كل مورّدي الرقائق العالميين على أن يصطفّوا بجانب الولايات المتحدة”.

ومع ذلك، فإن إقناع الدول الآسيوية والأوروبية الأخرى بأن تحذو حذوها وفرض قيود مماثلة على بكين سيكون محفوفًا بالمخاطر السياسية والاقتصادية.

إذ ينظر مناصروا الصين من الحزبين الأمريكيين إلى هيمنة الولايات المتحدة على قطاعات فرعية من أشباه الموصلات الرئيسية على أنها ميزة سياسية استراتيجية يمكن استخدامها لضرب الصين بها. ولكن هل ستؤدي الإجراءات العقابية للصين واستمرار التسمك بالتفوق الأميركي إلى هزيمة ذاتية على المدى الطويل، مما يدفع الصين إلى الاستثمار بشكل محموم في سد الفجوة؟

فالآن، بعد أن أُجبرت الصين على مضاعفة وبناء تقنياتها المحلية الخاصة بها، فقدت الولايات المتحدة جزءاً من سيطرتها عليها. وبمجرد أن تطور الصين صناعة الرقائق المتقدمة الخاصة بها، قد تتمكّن من اتخاذ خطواتٍ كبيرة من الناحية الجيوسياسية.

يمكنكم قراءة الأجزاء السابقة من سلسلة “حرب التكنولوجيا الباردة” من هنا.