استمع إلى المقال

الفنون البصرية كالرسم، السينما والمسرح لطالما حاولت عبر التاريخ تثبيت انتباه مشاهديها على عناصر بصرية معينة وتشتيت وعيه لبقية العناصر. وبالتأكيد فإن كل عنصر بصري موجود في الحياة دخل إلى هذه الفنون وتمت معالجته ليظهر معانٍ وأفكار تثير دهشة المشاهدين.

أحد أهم هذه العناصر البصرية التي جُسدت في هذه الفنون هو الضوء. العديد من الرسامين في الماضي اكتشفوا أهمية تأثيره على اللوحة وقدرته على إثارة المشاعر داخل المتفرج، فالرسام الهولندي “Rembrandt” الذي سمي ب “عبقري الضوء” أظهر أهمية الإضاءة كوسيلة فنية جميلة تساهم في تقديم أفكاره. والضوء في الفنون البصرية تكمن أهميته بأنه بالإضافة لكونه قادراً على الانعكاس على الأجسام إلا أنه قادر أيضاً على المرور بداخلها.

لوحة للرسام الهولندي Rembrandt | المصور: Roy Hewson/Edinburgh Art Festival 2018

ألعاب الفيديو هي أيضاً صناعة فنية من نتاج السينما والمسرح بعد إضفاء التجربة التفاعلية عليها، وحالها حال بقية الفنون التي تتطور باستمرار، فبصرف النظر عن اختلاف المطورين والمنصات التي تقدم الألعاب، يمكن الإجماع على أنها كلها تتطور وتحاول أن تقدم لعبة “جميلة”.

الضوء كعنصر جمالي:

لم يكن الضوء موجوداً في ألعاب الفيديو منذ بدايتها، حيث إنه دخل إلى هذه الصناعة بعد أن تطورت الحواسيب وآليات المحاكاة الآنية وارتفعت قدرة المعالجات. فالمطورون كانوا يقللون من العناصر البصرية قدر الإمكان لتوفير تجربة لعب سلسة، وكانت الإضاءة من بين العناصر التي يتم الاستغناء عنها لشدة تعقيد رسمها على الحاسوب.

لاحقاً ومع ابتكار مفهوم “المشهد” في الألعاب، باتت عملية إضافة الإضاءة إلى المشهد عملية صعبة ومعقدة وتتطلب قدراً كبيراً من المهارات الفنية لتحديد نوع الإضاءة وشدتها. الآن في الألعاب أصبح من الممكن التمييز بين أشعة الشمس وإضاءة المصابيح والشموع، فهي تختلف عن بعضها بلون الإضاءة وبشدتها وقدرة تفاعلها مع العنصر المُضاء.

Unreal(1998) إحدى أوائل الالعاب التي استخدمت الأضاءة “الحجمية” في الألعاب

رفاهية جمال اللعبة وتعزيزها في الألعاب يبدو مفهوماً حديثاً في الألعاب، ولكن مع بداية ظهورها كانت الإضاءة من أوائل العناصر التي تمت إضافتها إلى الألعاب فقط لتزداد جمالاً. حيث باتت النار الآن تمتلك وهجاً ينتشر حولها وباتت أشعة الشمس تدخل بين الأشجار لترسم خطوطاً متوازية كما في لعبة Red Dead Redemption II.

لا يمكن إنكار أن اللاعبين يريدون لعبة متكاملة فنياً، عناصرها البصرية تكون محسوسة لديهم والبيئات المبنية فيها تكون واقعية. جميع الألعاب الحديثة الآن تركز بشدة على هذا الجانب. فاللعبة الجميلة هي اللعبة التي سُتباع أكثر.

الضوء كعنصر مؤثر في القصة:

لم يبق الضوء ذاك العنصر الذي يستهلك موارد الحاسوب ليزيد جمال اللعبة فقط، بل تخطى الضوء هذا المفهوم في الألعاب وشارك بقوة في إبراز قصة اللعبة، تطور الشخصيات فيها والتعبير عن الزمن الذي تدور فيه القصة.

ألعاب مثل Inside و Journey كان الضوء فيها عنصراً يساعد في طرح القصة ويتحكم بشدة الاستجابة العاطفية للاعب.

تم التحكم باستخدام الضوء وتغييبه بشكل رائع، لترخي اللاعب ليندمج مع الشخصية أو لترهبه وتساعده على فهم مخاوفها. كما أن العناصر مثل الضباب أو الغبار تمكنت هي أيضاً بمساعدة الإضاءة على تقديم نفسها كمفاهيم أساسية داخل القصة، فلا وجود لهذه العناصر بغياب الإضاءة.

مقتطف من لعبة Journey
تشويقية لعبة Inside

ساعدت الإضاءة بقوة على ضبط الحالة المزاجية للاعب، واختلاف شدتها ولونها بالتقدم في المراحل ساهمت بشكل كبير على إثراء الحس الجمالي في اللعبة.

الضوء كعنصر تفاعلي:

تمكن مصمموا الألعاب من جعل الضوء عنصراً يتحكم باللاعب أو يتحكم اللاعب به لرفع درجة المتعة في الألعاب. ففي لعبة الألغاز الشهيرة Little Nightmares II يقوم اللاعب باستخدام الشعاع الصادر عن المصباح اليدوي الخاص بالشخصية لإبعاد الأشباح. أو مثلاً في لعبة الرعب Amnesia: The Dark Descent تتدهور الحالة النفسية للشخصية حيث تشعر بالدوار وتتغبش الرؤية عندها بمجرد دخولها إلى أماكن مظلمة، وتستقر حالتها النفسية مجدداً عند دخولها إلى أماكن منارة. هذا التناوب بين الضوء والظلام في الألعاب وإتاحة إمكانية التحكم بهم زاد من التشويق في الألعاب ونقلهم إلى مستويات مختلفة كلياً.

اقرأ أيضاً: مراجعة لعبة Little Nighmares II

مقتطف من لعبة Amnesia : The Dark Descent يظهر رد فعل الشخصية في الظلام والنور

كما أن بعض الألعاب توجهت إلى تجارب معتمدة كلياً على الضوء والظلام مثل لعبة Candleman التي يتحكم اللاعب فيها بشمعة تتجول في بيئة مظلمة بالكاد تكون الرؤية ممكنة فيها ويمتلك عدداً معيناً من المرات لإشعال الشمعة، وإن انتهت الشمعة يخسر اللاعب.

نجد أن الضوء كان عنصراً تفاعلياً حاضراً في العديد من الألعاب وكان وسيلة تتم اعتمادها بشدة في ألعاب الرعب والألغاز، تساعد في التخفي من الأعداء أو تبعدهم.

الإضاءة الحجمية (أشعة الله):

هي تلك الإضاءة التي تشغل حجماً في الفضاء والتي تتسرب كخط /خطوط شعاعية من خلال الأجسام لذلك سميت بأشعة الله. يمكن ملاحظتها في الواقع وأيضاً في البيئات ثلاثية الأبعاد، إلا أنها كانت حاضرة كذلك في لوحات تاريخية مثل اللوحة الشهيرة ” The Calling of St Matthew” للرسام الأيطالي “Caravaggio”.

لوحة The Calling of St Matthew”

تم انتقالها لاحقاً إلى السينما ومؤخراً إلى ألعاب الفيديو، تتم استخدام هذا التقنية بكثافة في الألعاب الحديثة، بل يعتبر إظهارها آنياً على الشاشة في الألعاب إحدى الجوانب التي تظهر قوة كروت الشاشة. تلك الإضاءة التي تمر بثقب في الحائط أو تمر بالنافذة أو تتسلل بين أوراق الأشجار أو بين الدخان، هي كلها إضاءة حجمية. تعتبر هذه الإضاءة من أكثر أنواع الإضاءة جمالية في ألعاب الفيديو.

مشهد من لعبة Red Dead Redemption II

الضوء الثابت والضوء الديناميكي:

العديد من قواعد نشر الإضاءة في الألعاب مستلهمة من السينما والمسرح، لكن في حين أن الإضاءة في هذه الصناعتين هي تماماً مثل الحياة الواقعية – أي أن الإضاءة فيها تكون إضاءة ديناميكية فقط – إلا أن هناك ما يسمى بالإضاءة الثابتة في الألعاب.

نظراً لكون جميع الأشكال المرسومة في الألعاب تكون عبارة عن رسم هندسي مطلي بما يسمى بالقوام او “Texture”، فإن اختلاف نوعي الإضاءة يكمن في طريقة تعريض هذا المجسم للضوء.

الإضاءة الثابتة هي مجموعة من الأماكن المضاءة والمظللة التي تكون معجونة مع القوام ولا يمكن التحكم بها، يمكن تخيلها تماماً كرسمة على دفتر مظللة بالكامل، إذ لا تختلف أماكن الظلال بتغيير مكان اللمبة المضيئة في الغرفة. بينما تكون الإضاءة الديناميكية تلك الإضاءة المستقلة تماماً عن القوام. حيث يُعرَّض القوام لاحقاً للإضاءة ليقوم بحساب أماكن الظلال والضوء وفقاً لمكان المنبع الضوئي، تماماً مثل مجسم موضوع في الغرفة ستختلف بالطبع أماكن الظلال بتغيير مكان اللمبة في الغرفة. يمكن إيجاد الإضاءة الديناميكية في الألعاب الحديثة مثلاً عندما تمر الشخصية بجانب منبع ضوئي فنجد أن الجانب من جسمها الأقرب إلى الضوء يكون مضاءً أكثر من الجانب الآخر، ويختلف هذا التقسيم حسب تحرك الشخصية.

صورة لإضاءة ثابتة | المصدر: Game Gurn

هذه التقنية دخلت إلى الألعاب مؤخراً ولا تزال تواجه صعوبات شديدة من ناحية قدرة المعالجات على تحقيقها. ففي البيئات الضخمة يستحيل حساب الضوء والظلال بشكل آني لكافة العناصر المعروضة إذ أن ذلك يستهلك كامل موارد الحاسوب، العديد من التقنيات الجديدة في محركات الألعاب تحاول تحسين تقنيات عرض الضوء الديناميكي وجعله أكثر دقة من ناحية حساب أماكن الظلال والضوء.

صناعة ألعاب الفيديو وتطورها ستبقى مستمرة طالما أن الحاسوب يتطور باستمرار، وهناك العديد من المشاكل التي ما زال يواجهها المطورون والمصممون على مستوى نشر الإضاءة في الألعاب وتقريبها أكثر إلى الحياة الواقعية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.