مكتبة في “ماين كرافت” تعزز حرية التعبير وتساعد الصحفيين على الإفلات من الرقابة

مكتبة في “ماين كرافت” تعزز حرية التعبير وتساعد الصحفيين على الإفلات من الرقابة

استمع إلى المقال

تتذكر الصحفية الأوزبكية “غاليما بوخاربايفا” اللحظة التي بدأت فيها مراسم نفيها من وطنها، عندما تجمع الآلاف من الناس في ساحة وسط مدينة أنديجان، واستطاعت بوخاربايفا، بحسب وصفها، أن تشعر بمزاجهم؛ “السعادة المطلقة”. إذ لم ترَ أبدًا السعادة تعتري شعب أوزبكستان هكذا من قبل. بعد سنواتٍ مما وصفته بـ “التعذيب وانعدام القانون” من قبل الحكومة. وتقول بوخاربايفا إن المواطنين شعروا بأنهم “سادة حقيقيين للمدينة في تلك اللحظة”.

لكن فجأة تغير كل شيء، ووجدت الصحفية نفسها تجري للنجاة بحياتها. حيث ظهرت عربات عسكرية مدرعة دون سابق إنذار، وأطلقت النار على الحشد من مدافع رشاشة. وعلى عكس المئات من مواطنيها الذين حضروا الاحتجاج في عام 2005 ولقوا حتفهم، نجحت بوخاربايفا في النجاة بحياتها.

ولادة فكرة

لكن مذبحة أنديجان كانت نقطة تحول بالنسبة للصحفية. فبسبب الرقابة الحكومية، تم بالفعل منعها من العمل بشكلٍ متكرر من قبل السلطات. ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا عندما سمعت أنهم يعتقلون شهود المجزرة، إذ حزمت حقيبة ظهر صغيرة وغادرت البلاد ولم تعد منذ ذلك الحين.

الهروب من البلاد لم يمنعها من كتابة تقارير إخبارية عنها. ولكن بسبب رقابة الدولة على وسائل الإعلام والإنترنت، لم يُسمع صوتها عادة داخل أوزبكستان نفسها، حتى حولت منظمة “مراسلون بلا حدود” قصتين من قصصها إلى أغاني بوب.

ومن خلال مشروع يسمى “قائمة التشغيل غير الخاضعة للرقابة” أو “The Uncensored Playlist”، تستغل المنظمة غير الحكومية الثغرات في تكنولوجيا المراقبة الحكومية للتسلل إلى الصحافة الخاضعة للرقابة من قبل الأنظمة القمعية، مما يعزز عمل المراسلين الذين يعيشون في دولٍ تحكمها هذه الأنظمة مثل أوزبكستان والصين وبعض الدول العربية.

تهريب الأخبار

تغطي بوخاربايفا أنواع القصص الإخبارية التي تنتقد الحكومة. وبالتالي، تم حظر موقعها على الويب في أوزبكستان، لذا لا يمكن قراءة قصصها من قبل الأشخاص الذين يحتاجون إلى رؤيتها أكثر من غيرها. لكن في عام 2017، اخترقت قائمة التشغيل غير الخاضعة للرقابة المذكورة أعلاه، وهي عبارة عن تعاون بين منظمة مراسلون بلا حدود في ألمانيا ووكالة “دي دي بي برلين” الإعلانية، اخترقت الرقابة، حيث تسللت قصتين من قصص بوخاربايفا إلى شعب أوزبكستان.

لقد تمكنوا من ذلك من خلال الاستفادة من الرقابة الشائعة في العديد من الأنظمة القمعية؛ فبينما يحظرون محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي وبعض المواقع، عادةً ما تكون خدمات بث الموسيقى مثل “Spotify” و “Apple Music” متاحة مجانًا. وبالفعل، تجاوزت مقالات بوخاربايفا المحظورة جدران الحماية لأنها أصبحت كلمات أغاني بوب لا تستطيع جدران الحماية الرقابية تمييزها عن أي أغنية أخرى.

تضمنت قائمة التشغيل غير الخاضعة للرقابة أغاني قصصية من صحفيين من خمس دول: الصين (تشانغ بينغ) ومصر (بسمة عبد العزيز) وتايلاند (أعضاء في صحيفة براشاتاي الإلكترونية) وأوزبكستان (جاليما بوخاربايفا) وفيتنام (بوي ثانه هيو). وحالهم حال بوخاربايفا، تم نفي بعض الصحفيين الآخرين أيضًا، حيث يمكن أن يواجه المعارضون السجن أو التعذيب. اختار كل صحفي قصتين، استخدمهما الموسيقيون لتأليف كلمات الأغاني. والآن، في أي مكان في العالم تقريبًا، يمكن للناس الاستماع إلى الأخبار عبر قائمة التشغيل غير الخاضعة للرقابة.

يمكنكم الاستماع إلى الأغاني التي تستند إلى قصص الصحفية المصرية بسمة عبد العزيز، والتي تأتي بعناوين “ألعاب الجوع” و “أفران عصرية“. من خلال “Spotify” أو “Apple Music

خمسةً خمسة

أصدرت منظمة مراسلون بلا حدود قائمة التشغيل هذه في 12 مارس/آذار 2018، بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة الرقابة الإلكترونية. وبعد عامين تمامًا، في مارس/آذار 2020، أطلقت المنظمة غير الحكومية المعنية بحرية الصحافة نفسها حملةً أخرى، هذه المرة بالاستعانة بلعبة الفيديو الأكثر مبيعًا على الإطلاق حول العالم؛ “Minecraft”.

ومرةً أخرى، بمشاركة خمس دول: المكسيك (خافيير فالديز) وروسيا (يوليا بيريزوفسكايا) ومصر (باسم وهمي تحت مظلة “مدى مصر”) وفيتنام (نوين فان داي) والمملكة العربية السعودية (جمال خاشقجي). إذ يُعرف عن حكومات هذه الدول تقييدها حرية الصحافة، لكن ألعاب الفيديو متاحة فيها على نطاقٍ واسع. لذلك، أنشأت المنظمة “المكتبة غير الخاضعة للرقابة”، ودفنتها في عالم “ماين كرافت” الافتراضي. مستخدمةً التخزين السحابي المستند إلى البلوك تشين لمنع الحكومات من مراقبة محتوياتها.

قد يهمّك: بعيدًا عن العملات الرقمية: 8 استخدامات لـ “البلوك تشين” تجعلها حجر أساسٍ في تقنيات المستقبل

في هذه اللعبة، يقوم 145 مليون لاعب نشط ببناء عوالم افتراضية من الكتل، مثلها مثل الكثير من ألعاب “الليغو” الرقمية. والمكتبة غير الخاضعة للرقابة، التي استغرق بناؤها ثلاثة أشهر، تعرض أعمالًا للصحفيين الذين تم سجنهم أو نفيهم أو حتى قتلهم. الآن، داخل العالم الداخلي للعبة الفيديو، يتم إخفاء مقالاتهم عن جدران الحماية، ويمكن الوصول إلى الكتب وقراءتها من قبل أي شخص في اللعبة.

المكتبة غير الخاضعة للرقابة – مراسلون بلا حدود

ويمكن لأي شخص، حتى لو لم يكن من لاعبي “ماين كرافت” الدخول إلى المكتبة من هنا، ومن ثم فتح القائمة على يسار الصفحة، الخيار الثالث (Enter The Uncensored Library).

ويذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تُستخدم فيها اللعبة الافتراضية لمنح المجتمعات المحرومة أو المقموعى منصة. إذ تم استخدام “ماين كرافت” بواسطة الأمم المتحدة لإقناع المجتمعات في البلدان النامية بتصميم الأماكن العامة الخاصة بهم.

وفي عام 2015، ادعى المهندس المعماري “بارك إنجيلز” أنه يجب استخدام اللعبة من قبل المهندسين المعماريين لمبادئ بناء العالم. واستخدم المهندس المعماري اللعبة كنموذج لإشراك المجتمعات بالتصميم الحضري في قمة “Future of Storytelling” في نفس العام.

كلمات أقوى من الرصاص

قبل وقت طويل من إعادة صياغة مقالات تشانغ بينغ كأغاني لقائمة التشغيل غير الخاضعة للرقابة، كان صحفيًا في الصين لما يقرب من 30 عامًا، إذ عمل كمعلّق على الشؤون المعاصرة. وفي أواخر التسعينيات، نمت سمعته بسبب عمله في كشف الفضائح وتأييد حرية الصحافة -وهو موقف محفوف بالمخاطر في أي بلد استبدادي- وفي النهاية، تم عزله من وظيفته ومُنع من الكتابة لوسائل الإعلام المطبوعة تمامًا.

ويقول بينج إن الحزب الشيوعي يقيد الكلام لأنهم يدركون أنه “بداية كل شيء”.

وبعد إسكاته داخل الصين، غادر بينغ البلاد متوجهاً إلى ألمانيا، حيث واصل كتابة أعمال وقصص تتحدى الحكومة الصينية. وحتى عندما احتجزت الشرطة الصينية أقاربه، لم يتوقف بينغ. إذ واصل الكتابة؛ هذه المرة لفضح الاختطاف. وفي النهاية، شعر بينغ بأنه مضطر لقطع العلاقات تمامًا مع عائلته ، الذين أُجبروا على التنديد به، حتى لا تتمكن السلطات الصينية من استخدامها كوسيلة ضغط ضده.

ويصف بينج الرقابة في الصين بأنها أداة يستخدمها النظام للسيطرة على الحياة ككل. “حتى روضة الأطفال تعرف أنه لا يمكنك إلا أن ‘تحب الحزب بشغف’ [كما هو الحال في معظم البلدان العربية]، وليس معارضته. إن الأطفال الصينيين هم طلاب مجتهدون للغاية، لكن حكمهم المعرفي وإبداعهم يتم قمعهما إلى حد كبير، لأن امتلاك هذه القدرات من شأنه أن يتحدى مؤسسات الرقابة.”

مثل بوخاربايفا وعبد العزيز وغيرهم، من المحتمل ألا يتمكن بينغ من العودة إلى وطنه. ولكن على الرغم من التحديات، فإن أولئك الصحفيين لن يتوقفوا في أي وقت قريبًا. إذ أن حرية التعبير قضية تستحق التضحيات.

حرية التعبير وحرية الفكر حجر الزاوية في الحضارة الإنسانية. فالكلام ليس مجرد وسيلة للحصول على المزيد من الحريات، بل هو جزء متأصل من الحرية ذاتها وأحد حقوقنا الأساسية. الكلام هو الحرية في حد ذاته.