استمع إلى المقال

بعد تأخيراتٍ في الإطلاق بلغت 10 سنوات، تسببت بها مشاكل تمويل وأعطالٌ فنية وسوء الأحوال الجوية وغيرها من العقبات، وتكاليف تجاوزت الـ 9 مليارات دولار، تحتفل ناسا هذا العام بعيد الميلاد 25 ديسمبر/كانون الأول على طريقتها الخاصة. وذلك بإطلاقها أحد أكبر مشاريعها وأكثرها طموحاً؛ تلسكوب جيمس ويب الفضائي، الوافد الجديد الثوري الذي طال انتظاره إلى مجموعة التلسكوبات الفضائية، الذي سيحكي لنا قصة لطالما وددنا سماعها، قصة نشأة الكون وتشكّل النجوم والمجرّات الأولى بُعيد الانفجار العظيم.

يأتي تسلكوب جيمس ويب ليخلف سلفه تلسكوب هابل الفضائي؛ المرصد البالغ من العمر 31 عامًا والمشهور بالتقاط صور مذهلة للكون. ويقول إريك سميث، عالم في برنامج ويب وكبير العلماء بقسم الفيزياء الفلكية بوكالة ناسا، إن ويب يتفادى نقاط ضعف سلفه، إذ لا يوجد تلسكوب مثل ويب حتى الآن. المرصد الجديد هو تعاون مشترك بين وكالات الفضاء في الولايات المتحدة وأوروبا وكندا. لذا، عندما ترى ويب يذهب إلى الفضاء، ترى القوة الكاملة للإبداع البشري، وتكامل جميع أنواع التخصصات التي تدفعه إلى هناك.

تلسكوب جيمس ويب الفضائي هو أكثر تلسكوب فضائي تعقيدًا وقوة، والأكبر على الإطلاق. سيشرع ويب في رحلة مدتها 29 يومًا إلى مداره الذي سيستقر فيه على بعد مليون ونصف كيلومتر بعيداً عن الأرض؛ أي أربعة أضعاف المسافة بين الأرض والقمر تقريبًا، وهي أبعد نقطة يستقر فيها تلسكوب فضائي.

بمجرد أن يصبح التلسكوب الفضائي جاهزًا للعمليات بعد ستة أشهر من الإطلاق، فإنه سيكشف عن الكون كما لم نره من قبل. من خلال رؤيته بالأشعة تحت الحمراء، سيكون جيمس ويب قادرًا على دراسة النجوم الأولى، والمجرات المبكرة، وحتى الغلاف الجوي للكواكب خارج نظامنا الشمسي.

هذه الأداة الغريبة السابحة في الفضاء هي فريدة من نوعها بسبب إمكانياتها. أولاً، حجمه العملاق، مع مرآة أساسية يبلغ ارتفاعها 6.5 متر وحاجب شمس بحجم ملعب تنس. ثانيًا، يرى ويب الكون في الأشعة تحت الحمراء -أي المنطقة الموجودة في الطيف الكهرومغناطيسي ذات الأطوال الموجية الأطول قليلاً من الضوء المرئي-، ما يجعله التلسكوب الوحيد المتخصص بالأشعة تحت الحمراء في الفضاء الذي يمكنه رؤية مسافات طويلة. بينما أقرب منافسيه، تلسكوب هابل، يعمل بشكلٍ أساسي في المجال المرئي فقط، ولديه نطاق رؤية محدود بالأشعة تحت الحمراء.

لكن هذا لم يُنجز في ليلةٍ وضحاها، بل هو نتاج عقود من الزمن وآلاف الباحثين والعلماء ومئات التجارب والابتكارات التقنية الحديثة، التي تجاوزت في دورها وتطبيقاتها تلسكوب جيمس ويب، ولم نكن لنراها لولا الطموح المشترك لإنجاح هذا المشروع، ولم يكن لينجح المشروع من دونها، نستعرضها في السطور أدناه.

مرايا مبردة خفيفة الوزن

تلسكوب جيمس ويب الفضائي
مصدر الصورة: وكالة ناسا.

أحد الأهداف العلمية لتلسكوب جيمس ويب الفضائي هو النظر إلى الماضي عندما كانت المجرات صغيرة. سيفعل ويب ذلك من خلال مراقبة مجرات بعيدة جدًا، على بعد أكثر من 13 مليار سنة ضوئية منا. لرؤية هذه الأشياء البعيدة والباهتة، يحتاج ويب إلى مرآة كبيرة.

وترتبط حساسية التلسكوب، أو مقدار التفاصيل التي يمكنه رؤيتها، ارتباطًا مباشرًا بحجم مساحة المرآة التي تجمع الضوء من الأشياء التي يتم رصدها. إذ تجمع مساحة أكبر مزيدًا من الضوء، تمامًا مثل دلو أكبر يجمع كمية من الماء في دش مطري أكثر من دلو صغير.

قرر علماء ومهندسو تلسكوب جيمس ويب أن المرآة الأولية التي يبلغ طولها 6.5 متر هي ما نحتاجه لقياس الضوء من هذه المجرات البعيدة. ويعدّ بناء مرآة بهذا الحجم تحديًا، حتى للاستخدام على الأرض. إذ لم يتم إطلاق مرآة بهذا الحجم إلى الفضاء من قبل!

وإذا تم استخدام مرآة مماثلة لمرآة تلسكوب هابل الفضائي البالغ طولها 2.4 متر لكن كبيرة بما يكفي لويب، فكان سيكون من الصعب جدًا إطلاقها في المدار. لذا، كان على فريق ويب أن يجد طرقًا جديدة لبناء مرآة تكون خفيفة بما فيه الكافية -فقط عُشر كتلة مرآة هابل لكل واحدة من المساحة- لكنها قوية جدًا. وعليه، قرر فريق التلسكوب صنع مقاطع مرآة من مادة البريليوم القوية والخفيفة. إذ تزن كل قطعة من المرآة حوالي 20 كيلوجرام فقط.

شرعت ناسا في إيجاد طرق جديدة لبناء مرايا للتلسكوبات. كان برنامج “Advanced Mirror System Demonstrator” عبارة عن شراكة مدتها أربع سنوات بين وكالة ناسا ومكتب الاستطلاع الوطني والقوات الجوية الأمريكية لدراسة طرق بناء مرايا خفيفة الوزن. وبناءً على دراسات البرنامج، تم بناء مرآتين للاختبار واختبارهما بالكامل. واحدة مصنوعة من البريليوم بواسطة شركة “Ball Aerospace”، والأخرى تم بناؤها بواسطة “Kodak” من نوع خاص من الزجاج.

تم اختيار فريق من الخبراء لاختبار هاتين المرآتين، لتحديد مدى جودة عملهما، ومقدار تكلفتهما، ومدى سهولة (أو صعوبة) بناء مرآة بالحجم الكامل، بطول 6.5 متر. وأوصى الخبراء بأن يتم اختيار مرآة البريليوم لتلسكوب جيمس ويب الفضائي، لعدة أسباب، أحدها أن البريليوم يحتفظ بشكله في درجات حرارة شديدة البرودة. وبناءً على توصية من فريق الخبراء، اختارت شركة “Northrop Grumman” (الشركة التي قادت الجهود لبناء جيمس ويب) مرآة من البريليوم، ووافقت إدارة المشروع في ناسا على هذا القرار.

الدارة المتكاملة لاستقبال البيانات في بيئة بالغة البرودة

مصدر الصورة: وكالة ناسا.

يتم تحويل الضوء المنبعث من الأجسام الفلكية الباهتة إلى إشارات كهربائية باهتة بواسطة أجهزة الكشف الموجودة في الأدوات العلمية لتلسكوب جيمس ويب الفضائي. لكن إشارات مُخرجات الكاشف هذه معرضة جدًا لأن تطغى عليها الضوضاء الكهربائية. تمامًا مثل راديو AM أو التلفزيون الرقمي القديم، يتم تشويه الإشارات التناظرية بسهولة وإخفائها في الضوضاء، ولا ينطبق ذلك على الإشارات الرقمية. لذا فإن تحويل الإشارات التناظرية إلى إشارات رقمية بالقرب من أجهزة الكشف مباشرةً قبل إرسالها عبر الأسلاك إلى إلكترونيات أخرى للمعالجة والاتصالات بعيدًا عن الأدوات يعد أمرًا أساسيًا لسلامة بيانات ويب وجودتها، وبالتالي حساسية القياس العلمية.

مثل هذا التحويل من التناظرية إلى الرقمية أو التحويل من “A إلى D” ليس بالأمر الجديد، ولكن التحدي التقني المجهد الذي واجه علماء ويب هو القيام بذلك في درجات حرارة التشغيل شديدة البرودة في المرصد في دائرة متكاملة خاصة بالتطبيق (ASIC). التكنولوجيا التي تم تطويرها لـلتلسكوب للقيام بتحويل إشارة تناظرية إلى رقمية عالية الدقة في درجات حرارة شديدة البرودة لإشارات خافتة من أجهزة الكشف في أدوات الأشعة تحت الحمراء الثلاثة القريبة هي “SIDECARTM”، أو بالعربية “دارة صورة النظام، والرقمنة، والتحسين، والتحكم والاسترجاع المتكاملة”

تعمل كل “شريحة” من “دارة SIDECARTM” على تضخيم جهد الإشارة التناظرية للكاشف الخافت، وتحويلها إلى إشارة رقمية ذات 16 بِت، وتنظيمها في “حزم” قبل إرسالها إلى إلكترونيات أخرى للمعالجة والتخزين على ذاكرة التلسكوب بحيث يتم إرسالها بعد ذلك على الأرض ويمكن “إعادة بنائها” إلى صور ومعلومات طيفية. 

ويُذكر أنّ “دارة SIDECARTM” قابلة للبرمجة بحيث يمكن تصميم وظائفها لتلبية احتياجات أداة علمية معينة أو رصد شيءٍ محدد.

الغالقات -أو المصاريع- بالغة الصغر

تلسكوب جيمس ويب الفضائي
مصدر الصورة: وكالة ناسا

تعد الغالقات الصغيرة تقنية جديدة تم تطويرها لمهمة تلسكوب جيمس ويب الفضائي. إنها في الأساس نوافذ صغيرة الحجم بها مصاريع يبلغ قياس كل منها 100×200 ميكرون، أي حوالي حجم حزمة من عدد قليل من شعيرات الإنسان. تعد مصفوفات هذه النوافذ الصغيرة مكونًا رئيسيًا لأحد أدوات جيمس ويب، وهو “مطياف الأشعة القريبة من تحت الحمراء” أو (NIRSpec).

سيسجل هذا المطياف أطياف الضوء من الأجسام البعيدة. (التحليل الطيفي هو ببساطة علم قياس شدة الضوء عند أطوال موجية مختلفة. تسمى التمثيلات الرسومية لهذه القياسات الأطياف.) ما يميز جهاز المصراع الدقيق (الغالق الصغير نفسه) هو أنه يمكنه تحديد العديد من الأجسام في عرضٍ واحد للمراقبة المتزامنة، وهو كذلك قابل للبرمجة ليناسب أي مجال من الأشياء في السماء.

طارت أدوات طيفية أخرى في الفضاء من قبل ولكن لم يكن لدى أي منها القدرة على تمكين المراقبة عالية الدقة (الطيفية) لما يصل إلى 100 جسم في وقتٍ واحد، مما يعني أنه يمكن إجراء المزيد من التحقيقات العلمية في وقتٍ أقل.

وكانت هناك تحديات هندسية في تطوير هذه المصاريع الدقيقة، بما في ذلك حقيقة أن درجة حرارة العمل شديدة البرودة، لذا يجب أن يكون الجهاز أيضًا قادرًا على العمل في درجات حرارة شديدة البرودة. كان التحدي الآخر هو تطوير مصاريع تكون قادرة على: الفتح والإغلاق بشكل متكرر دون تعب، الفتح بشكل فردي وعلى نطاقٍ واسع بما يكفي لتلبية المتطلبات العلمية للتلسكوب. وتم اختيار مادة نيتريد السيليكون للاستخدام في المصاريع الدقيقة، وذلك بسبب قوتها العالية ومقاومتها للإرهاق.

قبل الرصد، يتم فتح أو إغلاق كل مصراع دقيق فردي عندما يمر ذراع مغناطيسي بقربه، اعتمادًا على ما إذا كان يتلقى إشارة كهربائية تخبره بفتحه أو إغلاقه أم لا. ويسمح الغالق المفتوح للضوء القادم من هدف محدد في جزء معين من السماء بالمرور عبر مطياف الأشعة بينما يحجب المصراع المغلق الضوء غير المرغوب فيه من أي أجسام لا يرغب العلماء في مراقبتها ورصدها. هذه القدرة على التحكم القابلة للبرمجة هي التي تسمح للأداة بإجراء التحليل الطيفي على العديد من الأجسام المختارة المختلفة في وقتٍ واحد ومن عرضٍ إلى آخر.

قال مورزي جابفالا، كبير المهندسين بقسم تكنولوجيا الأجهزة والأنظمة في ناسا جودارد: “لبناء تلسكوب يمكنه أن يناظر أبعد مما يستطيع هابل، كنا بحاجة إلى تقنية جديدة تمامًا. لقد عملنا على هذا التصميم لأكثر من ست سنوات، حيث فتحنا وأغلقنا المصاريع الصغيرة عشرات الآلاف من المرات من أجل تحسين التكنولوجيا.”

واقِ شمسي عملاق

تلسكوب جيمس ويب الفضائي
مصدر الصورة: وكالة ناسا.

سوف يرصد تلسكوب جيمس ويب الفضائي ضوء الأشعة تحت الحمراء من الأجسام الباهتة والبعيدة جدًا بشكلٍ أساسي. ولكي يكون قادرًا على اكتشاف إشارات الحرارة الخافتة هذه، يجب أن يظل التلسكوب نفسه شديد البرودة. ولحماية التلسكوب من المصادر الخارجية للضوء والحرارة (مثل الشمس والأرض والقمر) وكذلك من الحرارة المنبعثة من المرصد نفسه، يحتوي على واقي شمسي من 5 طبقات بحجم ملعب التنس يعمل كمظلة توفر الظل. (الأبعاد الفعلية للواقي: 21.197 م × 14.162 م). حيث سيكون تموضع هذا الواقي الشمسي دائمًا بين الشمس/الأرض/القمر من جهة والتلسكوب من جهة.

سيسمح حاجب الشمس للتلسكوب أن يبرد إلى درجة حرارة أقل من 223 درجة مئوية تحت الصفر عن طريق الإشعاع السلبي لحرارة التلسكوب في الفضاء. وستعمل أدوات الأشعة تحت الحمراء القريبة عند حوالي 234 درجة مئوية تحت الصفر من خلال نظام التبريد السلبي. بينما ستعمل أداة الأشعة تحت الحمراء المتوسطة (MIRI) عند درجة حرارة 266 درجة مئوية تحت الصفر باستخدام ثلاجة هيليوم.

بالإضافة إلى توفير بيئة باردة، يوفر حاجب الشمس بيئة مستقرة حراريًا. وهذا ضروري للحفاظ على المحاذاة الصحيحة لقطاعات المرآة الأولية حيث يغير التلسكوب اتجاهه نحو الشمس.

قد يهمك أيضاً: مسبار من ناسا “يلامس” الشمس لأول مرة ويغوص في غلافها الجوي

الاستشعار والتحكم بواجهة الموجة

مصدر الصورة: وكالة ناسا.

يحتوي تلسكوب جيمس ويب الفضائي على مرآة أساسية مكونة من 18 مقطعًا وقطرها 6.5 مترًا تقريبًا، وهي كبيرة جدًا بحيث توجّب طيّها لتناسب مركبة الإطلاق. بعد الإطلاق، سينطلق التلسكوب في طريقه إلى مداره النهائي. 

“الاستشعار والتحكم في واجهة الموجة” هو مصطلح تقني يستخدم لوصف النظام الفرعي المطلوب لاستشعار وتصحيح أي أخطاء في بصريات التلسكوب. هذا ضروري بشكلٍ خاص لأن جميع الأجزاء الـ 18 يجب أن تعمل معًا كمرآة عملاقة واحدة.

صممت شركة “Ball Aerospace” تلسكوب مصغر تجريبي لتطوير هذه التكنولوجيا وإثباتها. تظهر صورة تلسكوب الاختبار المصغر أعلاه. وتم تصميم كل من عمليات المحاذاة التسعة المتميزة -الخوارزميات- اللازمة لمحاذاة التلسكوب ذي المرآة البالغ عددها 18 في تلسكوب أحادي المرآة عالي الأداء وعرضه على قاع الاختبار قبل التنفيذ.

ونتج عن العمل الذي تم إجراؤه على بصريات التلسكوب ظهور “تكنولوجيا ناسا لتشخيص حالات العين ورسم خرائط دقيقة للعين”. إذ يدعم هذا الإنجاز الفرعي البحث في حالات إعتام عدسة العين، والقرنية المخروطية (حالة العين التي تسبب ضعف الرؤية)، وحركة العين، وتحسينات في إجراء عمليات الليزك.

كاشفات الأشعة تحت الحمراء

تلسكوب جيمس ويب الفضائي
مصدر الصورة: وكالة ناسا.

ما هي أجهزة الكشف هذه ولماذا هي مهمة؟ تجمع مرايا ويب الضوء من السماء وتوجهه إلى الأدوات المخصصة. وتقوم الأدوات بترشيح الضوء، أو تفريقه طيفيًا، قبل تركيزه أخيرًا على أجهزة الكشف، ولكلّ أداة أجهزة الكشف الخاصة بها.

الكواشف هي المكان الذي يتم فيه امتصاص الفوتونات وتحويلها في النهاية إلى الفولتية الإلكترونية التي نقيسها. ويحتاج التلسكوب إلى أجهزة كشف حساسة للغاية لتسجيل الضوء الضعيف من المجرات والنجوم والكواكب البعيدة. لذا، طوّر جيمس ويب أحدث ما توصلت إليه كواشف الأشعة تحت الحمراء من خلال إنتاج مصفوفات ذات ضوضاء أقل وتنسيق أكبر وأطول عمراً من سابقاتها.

ويستخدم تلسكوب جيمس ويب نوعين مختلفين من أجهزة الكشف: كاشفات الزئبق والكادميوم والتيلورايد (تُعرف اختصارًا بـ HgCdTe)، للكشف عن “الأشعة قرب تحت الحمراء” بأطوال موجية 0.6-5 ميكرومتر، وكاشفات السيليكون المشبع بالزرنيخ (تُعرف اختصارًا بـ Si:As) للمقاييس الموجية بطول 5-28 ميكرومتر أو “الأشعة تحت الحمراء المتوسطة”. 

ويحتوي كل كاشف من النوع الأول على حوالي 4 ملايين بكسل. بينما تحتوي كاشفات الأشعة تحت الحمراء المتوسطة على حوالي مليون بكسل لكل منها.

ومن خلال تغيير نسبة الزئبق إلى الكادميوم في الكاشفات من النوع الأول، من الممكن ضبط المادة لاستشعار الضوء ذي الطول الموجي الأطول أو الأقصر. ويستفيد التلسكوب من ذلك عن طريق استخدام مركّبين من الزئبق-الكادميوم-التيلورايد: أحدهما يحتوي على نسبة أقل من الزئبق نسبيًا لـ 0.6 – 2.5 ميكرون، والآخر يحتوي على أكثر من 0.6 – 5 ميكرون. هذا له عدد من المزايا، بما في ذلك إمكانية تخصيص كل كاشف لتحقيق ذروة الأداء على الأطوال الموجية المحددة التي سيتم استخدامه من أجلها. 

المبرد المخصّص

مصدر الصورة: وكالة ناسا.

نظرًا لكونه مرصدًا فلكيًا شديد الحساسية للأشعة تحت الحمراء، يجب أن تكون بصريات تلسكوب جيمس ويب الفضائي والأدوات العلمية باردة لقمع “ضوضاء” الخلفية تحت الحمراء. علاوةً على ذلك، يجب أن تكون الكاشفات الموجودة داخل كل أداة علمية، والتي تحول إشارات الأشعة تحت الحمراء إلى إشارات كهربائية للمعالجة إلى صور، باردة لتعمل بشكلٍ صحيح. بشكلٍ نموذجي، كلما زاد الطول الموجي لضوء الأشعة تحت الحمراء، كلما احتاج الكاشف إلى البرودة لإجراء هذا التحويل، مع الحدّ أيضًا من توليد إلكترونات “ضوضاء” عشوائية.

وثلاثة من أربعة أدوات علمية لتلسكوب جيمس ويب “ترى” كلاً من الضوء المرئي الأكثر احمرارًا وكذلك ضوء الأشعة القريبة من الأشعة تحت الحمراء (ضوء بأطوال موجية من 0.6 ميكرون إلى 5 ميكرون). وتحتوي هذه الأدوات على كاشفات مُصممة باستخدام الزئبق-الكادميوم-التيلورايد، والتي تعمل بشكل مثالي مع التلسكوب عند درجة حرارة 246 تحت الصفر. ويمكن توفير هذه البرودة في الفضاء “بشكلٍ سلبي” أي دون بذل جهد، ببساطة بفضل تصميم التلسكوب الذي يتضمن حاجب شمسي بحجم ملعب التنس.

ومع ذلك، فإن الأداة العلمية الرابعة لـلتسلكوب، وهي أداة الأشعة تحت الحمراء المتوسطة، أو “MIRI”، “ترى” ضوء الأشعة تحت الحمراء المتوسطة (MIR) بأطوال موجية من 5 إلى 28 ميكرون. وبحسب الضرورة، فإن أجهزة كشف هذه الأداة لها تركيبة مختلفة كما أوضحنا أعلاه، وهي السيليكون المشبع بالزرنيخ (Si: As)، والتي يجب أن تكون عند درجة حرارة أقل من 266 درجة مئوية تحت الصفر لتعمل بشكلٍ صحيح. ومن غير الممكن الوصول إلى درجة الحرارة هذه على متن التلسكوب من خلال الحاجب الشمسي وحده، لذلك يحمل التلسكوب “مبردًا” مخصصًا لتبريد كاشفات الأشعة تحت الحمراء المتوسطة.

ما الذي سيحققه تكامل هذه التقنيات؟

إن إطلاق هذا التلسكوب بالنسبة لعلماء الفلك أشبه بإدخال طفلٍ إلى متجر حلوى أو مدينة ملاهي، لن يعرف تمامًا ما سيحصل عليه، لكنه من المؤكد أنه سيحظى بأفضل وقت. وبفضل حجم تسلكوب جيمس ويب ورؤيته للأشعة تحت الحمراء، هذه أربعة أشياء أساسية سيسمح التلسكوب للفلكيين بفعلها.

فهم كيفية تكوّن المجرات المبكرة ونموّها

مصدر الصورة: وكالة ناسا.

كلما تعمق علماء الفضاء في البحث، كلما تمكنوا من مراقبة المجرات في الماضي. ويمكن لويب، باعتباره التلسكوب الأبعد رؤيةً حتى الآن، مشاهدة أصغر وأبعد المجرات التي يمكن للبشرية رؤيتها. ولفهم تكوين المجرات، سيبحث العلماء في العديد منها في مراحل مختلفة من الحياة ويجمعون معًا الجدول الزمني لنموّها.

تعتبر قدرات ويب على رؤية الأشعة تحت الحمراء ضرورية أيضًا لرصد هذه المجرات. الضوء القادم من المجرات البعيدة سيتمدد بفعل توسّع الكون. وبحلول الوقت الذي يصل فيه الضوء إلى تلسكوباتنا، سيكون طوله الموجي الأصلي قد تحول من الأشعة فوق البنفسجية أو المرئية إلى الأشعة تحت الحمراء. لكن لحسن الحظ، فإن التقاط إشارات الأشعة تحت الحمراء يقع ضمن مهارات ويب مباشرةً. إنها المرة الأولى التي نمتلك فيها تلسكوبًا كبيرًا وباردًا في الفضاء يمكنه مراقبة أطوال موجات الأشعة تحت الحمراء.

تمكن تلسكوب “هابل” الفضائي من التقاط أقصر طول موجي من الأشعة تحت الحمراء الممتدة من الضوء الأكثر زرقةً في المجرات البعيدة. كما كان تلسكوب “سبيتزر” المتقاعد الذي يعمل بالأشعة تحت الحمراء أصغر بكثير من تلسكوب ويب ولا يمكنه الرؤية بعيدًا في الفضاء. سوف يخرجه ويب من المعادلة من حيث مدى التعمق في الفضاء وإلى أي مدى يستطيع العودة بالزمن إلى الوراء؛ حيث يمكنه التقاط المجرات البعيدة أثناء نموها.

كشف العلامات الكيميائية المحتملة للحياة على الكواكب الأخرى

Exoplanet from moon
مصدر الصورة: وكالة الفضاء الأوروبية.

إذا كانت الحياة موجودة خارج الأرض، فإنها ستطلق إشارات كيميائية مميزة، مثل نفث ثاني أكسيد الكربون والتمثيل الضوئي للأكسجين. ولن يسمح تحليل المواد الكيميائية في الغلاف الجوي للكوكب للعلماء بالبحث عن الحياة فحسب، بل سيمكنهم أيضًا من تقييم قابلية الكوكب للسكن.

ويمكن لتلسكوب جيمس ويب اكتشاف أطوال موجات الأشعة تحت الحمراء لبصمات المواد الكيميائية مثل الماء والميثان الموجودان في الغلاف الجوي للكواكب الخارجية؛ أي الكواكب الموجودة خارج نظامنا الشمسي.

يحتوي التلسكوب على أدوات تسمح للعلماء بالكشف عن الأطوال الموجية لإشارات الأشعة تحت الحمراء من أنظمة شمسية خارج نطاقنا، وإزالة الألوان من طيف الأشعة تحت الحمراء، إن جاز التعبير. فعندما يقوم أحد الكواكب الخارجية برجم الفوتونات على نجمٍ ينظر إليه جيمس ويب، فإن ضوء النجم سوف يتعرض لانخفاضٍ في بعض الطاقات المقابلة للمواد الكيميائية الموجودة في الغلاف الجوي للكوكب. وإذا صادف أن التلسكوب كان ينظر إلى النجم المناسب في الوقت المناسب، فيمكنه تحليل الغلاف الجوي لكوكب النجم كيميائيًا من خلال تحليل الوميض في ضوء النجم.

قد يهمك أيضًا: العلماء يستنجدون بالحاسوب الكمومي للبحث عن علامات الحياة في الفضاء

مشاهدة ميلاد النجوم

مصدر الصورة: وكالة ناسا.

إن “السُدم”؛ أو أماكن ولادة النجوم مليئة بالغبار. وبالرغم من أن صورها خلابة، إلا أنها الغبار فيها يمنع العلماء من النظر إلى قلب هذه السحب عندما ينظرون إليها بالضوء المرئي. لحسن الحظ، يمكن لضوء الأشعة تحت الحمراء الصادر عن النجوم أن يخترق الغبار ليمنح العلماء نظرةً جديدةً تمامًا لمراحل ولادة النجوم.

دراسة الثقوب السوداء من زاويةٍ مختلفة

Black hole
مصدر الصورة: وكالة ناسا.

لا شيء يمكنه الهروب من الثقب الأسود، ولا حتى الضوء. لذا، من الناحية الفنية، فإن الثقوب السوداء غير مرئية. لكن لحسن الحظ، يمكننا رؤية الكثير مما يحدث حول هذه الثقوب؛ مثل النجوم والغبار النجمي وحتى المجرات بأكملها. لدراسة الثقوب السوداء، يدقق العلماء في هذا النطاق، على غرار دراسة ظل جسمٍ ما للتعرف على الجسم نفسه.

في الماضي، استخدم العلماء تلسكوبات الأشعة السينية لدراسة أنواع معينة من فيزياء الثقوب السوداء. إذ تبحث هذه التلسكوبات فقط في الظواهر التي تبلغ درجة حرارتها ملايين الدرجات وتكون عالية بما يكفي لإنتاج الأشعة السينية، مثل التمزيق العنيف للنجوم التي تمرّ بالقرب من الثقب الأسود. لكن ستسمح أدوات ويب التي ترى الأشعة تحت الحمراء للعلماء برؤية الأحداث المختلفة في زاوية الثقب الأسود، وخاصة الغازات الباردة والنجوم التي تتراقص حول هذه الثقوب.

حيث تتجمع النجوم مكان مغبرّ. لحسن الحظ، ستسمح عين ويب التي ترى الأشعة تحت الحمراء للعلماء بالنظر إلى ما وراء الستارة المُتربة ورؤية كل شيء من خلالها. سيوفر التلسكوب بياناتٍ قيّمة لإلقاء نظرة خاطفة على درجات الحرارة والسرعات والتركيبات الكيميائية للعباءات النجمية للثقوب السوداء. ويمكن للعلماء استخدام هذه البيانات لمعرفة المزيد عن كتلة وحجم الثقب الأسود، والمزيد حول كيفية التهامه للنجوم.

بالطبع.. نتوقع اللامتوقع

تلسكوب جيمس ويب الفضائي
مصدر الصورة: وكالة ناسا.

إن الشيء المثير في كل من هابل وويب هو أنهما مرصدان للأغراض العامة. كان لديهما بعض الأهداف العلمية الرئيسية المحددة، لكن لديهم نطاقًا واسعًا من القدرات التي تمكنهم من تحقيق اكتشافات لم تكن في المناطق التي صممت التلسكوبات من أجلها.

فإذا قمت بإحصاء أعلى 10 نتائج لتلسكوب هابل، فإن نصفها سيكون عبارة عن أشياء كان العلماء يعلمون أنهم كانوا يبنونه من أجلها ونصفها أشياء لم يكن لدى الناس أي فكرة عنها، مثل الطاقة المظلمة ودراسات الكواكب الخارجية. ونأمل أن ينطبق الأمر نفسه على ويب. 

سيكون تلسكوب جيمس ويب الفضائي أول تلسكوب من نوعه تمامًا من حيث الحجم والحساسية ونطاق الطول الموجي. إذ تم بناؤه أساسًا لإحداث ثورة في علم الفلك. وبفضل قدراته، يتمتع العلماء بفرصة جيدة لرؤية شيء لم يروه من قبل. فهناك شيء لا نتوقعه قادمٌ لا محالة، وربما يكون ذلك الأكثر إثارةً في الأمر. ربما يكشف لنا عن ظاهرةٍ تقلب تمامًا النظريات الموجودة حول الكون.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات