استمع إلى المقال

مع تزايد استخدام التكنولوجيا الحاسوبية في الحياة اليومية والعمليات الحيوية والحكومية والصناعية والعسكرية، فإن أهمية الحرب السيبرانية تتزايد، حيث تستخدم عادة في الصراعات الدولية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والتجارية، وتحتاج إلى مجموعة من الخبرات الخاصة والمهارات التقنية والتكنولوجية المتطورة لإنجازها والتعامل معها.

هذه النوعية من الحروب مختلفة عن الحروب التقليدية، إذ إن ساحة المعركة هي الفضاء الإلكتروني، وتشمل أسلحتها الهجمات والاختراقات والتجسس والقرصنة وغيرها من الأعمال الإلكترونية، في حين أن أهدافها تتمثل في الأنظمة الحاسوبية والشبكات الإلكترونية والمواقع الإلكترونية وغيرها من البنى التحتية الإلكترونية.

بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس حلف “الناتو” لضمان الدفاع المشترك والأمن القومي للدول الأعضاء، لكن مع تغلغل التقنية في الحياة اليومية، فإن الهجمات الإلكترونية أصبحت تشكل تهديدا حقيقيا يوازي تأثيرها تأثير التهديدات العسكرية. 

نتيجة لذلك، أصبح الحلف يولي اهتماما كبيرا لمكافحة الهجمات السيبرانية منذ بداية القرن الحادي والعشرين.

في عام 2014، أطلق الحلف مركز القوات الأمنية السيبرانية في استونيا المسمى “Cyber Range”، وهو مركز تدريب وتعليم يهدف إلى رفع مستوى الوعي السيبراني لدى الدول الأعضاء وتحسين قدراتهم في التصدي للهجمات السيبرانية.

كما أن الحلف ينظر إلى الهجمات السيبرانية بأنها تهديد للأمن القومي للدول الأعضاء ويأخذها على محمل الجد لدرجة أن يتم التعامل معها على أنها تهديد عسكري، حيث أوضح الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، أن الهجمات الإلكترونية ضد أحد أعضاء “الناتو” يمكن أن تؤدي إلى تفعيل المادة 5، مما يعني أنها تعتبر هجوما على جميع أعضاء “الناتو” ويمكن للحلف الرد.

في ظل مشهد التهديدات الإلكترونية المتطورة، فإن التحالف يواصل التكيف مع الواقع من خلال الاعتماد على دفاعات إلكترونية قوية ومرنة لتحقيق المهام الأساسية للحلف المتمثلة في الدفاع الجماعي وإدارة الأزمات والأمن التعاوني. 

قد يهمك: كيف كان مسار الهجمات السيبرانية في 2022؟

مراحل تطور الدفاع الإلكتروني للحلف

بالرغم من أن الحلف كان دائما يحمي اتصالاته وأنظمة معلوماته، إلا أن قمة “الناتو” لعام 2002 وضعت الدفاع الإلكتروني أولا على جدول الأعمال السياسي للحلف، بينما كرر قادة الحلف الحاجة إلى توفير حماية إضافية لأنظمة المعلومات هذه في قمة عام 2006.

في أعقاب الهجمات الإلكترونية على المؤسسات العامة والخاصة في استونيا في عام 2007، وافق الحلف على سياسته الأولى بشأن الدفاع الإلكتروني في 2008. بينما اعتمد خلال قمة عام 2010 مفهوما استراتيجيا جديدا بعد أن أدرك لأول مرة أن الهجمات الإلكترونية قد تهدد الازدهار والأمن والاستقرار على الصعيدين الوطني والأوروبي.

في 2011، وافق الحلف على سياسته الثانية بشأن الدفاع السيبراني، بينما دخل الدفاع الإلكتروني في عام 2012 ضمن عملية التخطيط الدفاعي للحلف، مع وضع جميع شبكات الحلف تحت الحماية المركزية وتنفيذ سلسلة من الترقيات لقدرات الدفاع الإلكتروني للحلف وإنشاء وكالة الاتصالات والمعلومات.

مع ظهور لجنة الدفاع السيبراني في عام 2014، أقرّ الحلف سياسة الدفاع الإلكتروني الجديدة، حيث جرى الاعتراف بالدفاع الإلكتروني كجزء من مهمة “الناتو” الأساسية للدفاع الجماعي، إلى جانب إطلاق مبادرة لتعزيز التعاون مع القطاع الخاص بشأن التهديدات والتحديات السيبرانية.

لمساعدة المنظمتين على منع الهجمات الإلكترونية والاستجابة لها بشكل أفضل، أبرم الحلف والاتحاد الأوروبي في عام 2016 اتفاقا تقنيا بشأن الدفاع السيبراني، مع الاعتراف بالفضاء الإلكتروني كمجال للعمليات التي يجب أن يدافع فيها الحلف عن نفسه، مما أدى إلى تحسين قدرته على حماية وتنفيذ مهامه وعملياته. 

خلال عام 2016، اتفق الحلف والاتحاد الأوروبي على سلسلة من الإجراءات لتعزيز كيفية عمل المنظّمتين معا، بما في ذلك تعزيز المشاركة المتبادلة والبحث والتدريب وتبادل المعلومات وتحليل التهديدات فيما يتعلق بالدفاع الإلكتروني.

في قمة الحلف لعام 2018، اتفق القادة على إنشاء مركز جديد لعمليات الفضاء الإلكتروني كجزء من هيكل القيادة المعزز للحلف، بحيث يوفر المركز وعيا بالحالة وينسق النشاط العملياتي للحلف في الفضاء السيبراني وعبره، كما اتفق الحلفاء على أن “الناتو” يمكنه الاعتماد على القدرات السيبرانية الوطنية لعملياته ومهامه.

من أجل الاستجابة للأنشطة الإلكترونية الخبيثة الهامة، أقر الحلف في عام 2019 دليلا يحدد عددا من الأدوات لزيادة تعزيز قدرة الحلف على استخدام جميع الأدوات المتاحة له لمواجهة التهديدات الإلكترونية. 

في قمة الحلف لعام 2021، أقر “الناتو” سياسة شاملة جديدة للدفاع السيبراني لردع مجموعة كاملة من التهديدات السيبرانية ومواجهتها في جميع الأوقات. 

قد يهمك: نظرة في دور الهجمات السيبرانية في الصّراع الروسي-الأوكراني

تطوير قدرات الدفاع الإلكتروني

مركز الأمن السيبراني التابع للحلف، المعروف سابقا باسم المركز التقني لقدرة الاستجابة لحوادث الحاسب (NCIRC)، يحمي شبكات الحلف من خلال توفير دعم دفاعي إلكتروني مركزي على مدار الساعة لمختلف مواقع الحلف. 

إلى جانب ذلك، يتعامل المركز مع الحوادث ويبلغ عنها، وينشر المعلومات الهامة المتعلقة بالحوادث إلى إدارة النظام والإدارة الأمنية والمستخدمين، ويطور قدراته على أساس مستمر ويواكب التهديد المتغير بسرعة والبيئة التكنولوجية.

كما أنشأ الحلف مركز عمليات الفضاء الإلكتروني الذي يدعم القادة العسكريين بالوعي الظرفي للإبلاغ عن عمليات ومهام الحلف، إلى جانب تنسيق النشاط العملياتي للحلف في الفضاء الإلكتروني، مما يضمن حرية التصرف في هذا المجال ويجعل العمليات أكثر مرونة في مواجهة التهديدات الإلكترونية.

من أجل تسهيل اتباع نهج مشترك على مستوى الحلف لتطوير قدرات الدفاع الإلكتروني، يحدد “الناتو” أهدافا لتطبيق دول الحلفاء لقدرات الدفاع الإلكتروني الوطنية عبر عملية التخطيط الدفاعي للحلف.

بالإضافة إلى ذلك، يساعد “الناتو” الحلفاء على تعزيز الدفاعات الإلكترونية الوطنية من خلال تسهيل مشاركة المعلومات وتبادل أفضل الممارسات وإجراء تمارين الدفاع الإلكتروني لتطوير الخبرات الوطنية.

قد يهمك: استخدام الذكاء الصنعي في الأمن السيبراني… هل يعيق أم يطور؟

زيادة قدرة الدفاع الإلكتروني

يتعلق الدفاع السيبراني بالناس بقدر ما يتعلق بالتكنولوجيا. من خلال التعليم والتدريب والتدريبات، يواصل الحلف تحسين حالة دفاعه الإلكتروني.

نتيجة لذلك، يجري “الناتو” تدريبات منتظمة، مثل تمرين “التحالف السيبراني” السنوي، ويهدف إلى دمج عناصر واعتبارات الدفاع السيبراني في مجموعة كاملة من تمارين الحلف، بما في ذلك تمرين إدارة الأزمات. 

كما يعمل الحلف على تعزيز قدراته في مجال التعليم والتدريب، بما في ذلك إنشاء مركز “Cyber Range” في استونيا.

من أجل تعزيز الوعي بالأوضاع وتسهيل تبادل المعلومات، لدى “الناتو” عدد من الأدوات العملية، بما في ذلك نقاط الاتصال مع سلطات الدفاع الإلكتروني الوطنية في كل من عواصم الحلفاء من أجل تبادل مجموعة متنوعة من المعلومات المتعلقة بالدفاع السيبراني والمساعدة في تحسين الوقاية من الحوادث السيبرانية والمرونة وقدرات الاستجابة.

إلى جانب ذلك، يجري تبادل المعلومات الفنية من خلال منصة مشاركة معلومات البرامج الضارة، التي تسمح بمشاركة مؤشرات الاختراق بين المدافعين الإلكترونيين للحلف.

بينما يعتبر مركز التميز للدفاع الإلكتروني التعاوني بمثابة منشأة بحثية وتدريبية معتمدة من الحلف تركز على تعليم الدفاع الإلكتروني والاستشارات والدروس المستفادة والبحث والتطوير.

في حين توفر أكاديمية الاتصالات والمعلومات التدريب للأفراد من دول الحلف فيما يتعلق بتشغيل وصيانة أنظمة الاتصالات والمعلومات، إلى جانب تقديمها للتدريب والتعليم في مجال الدفاع السيبراني.

لدعم عمليات الحلف واستراتيجيته وسياسته وعقيدته وإجراءاته، فإن مدرسة الحلف في ألمانيا تجري تعليما وتدريبا متعلقا بالدفاع الإلكتروني

بينما تعزز كلية الدفاع التابعة للحلف في إيطاليا التفكير الاستراتيجي في الأمور السياسية والعسكرية، بما في ذلك قضايا الدفاع الإلكتروني.

قد يهمك: هل يمكن اعتبار الهجمات السيبرانية الروسية جرائم حرب؟

الاستعدادات العملية بعد الحرب الروسية

في عام 2022، اجتمع نحو 150 شخصا من خبراء الأمن السيبراني التابعين للحلف في قلب العاصمة الإستونية للاستعداد للحرب الإلكترونية، حيث أصبح هذا السيناريو واقعيا للغاية بالنسبة للدول الأعضاء والحلفاء منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.

من أجل إيجاد طرق لمساعدة أوكرانيا ومعرفة كيفية جعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لروسيا والأعداء الآخرين لاختراق البنية التحتية في الدول الأعضاء في الحلف، فإن القوات الإلكترونية التابعة للحلف تراقب الحرب في أوكرانيا عن كثب.

الصراع الدائر هناك، أضاف المزيد من الجدية إلى التمرين السنوي للدفاع الإلكتروني لحلف “الناتو” المسمى “التحالف السيبراني”، الذي امتد هذه المرة ليشمل جميع أنحاء العالم، حيث تضمن أكثر من 1000 متخصص في مجال الإنترنت من 26 دولة من دول حلف “الناتو” والحلفاء عملوا معا للرد على محاكاة للهجمات الإلكترونية والتعافي منها بالنسبة للبنى التحتية الحيوية، مثل شبكات الطاقة والسفن. 

هذا المرة، جاء مسؤولو الأمن السيبراني والخبراء الفنيون إلى تالين من أوروبا والولايات المتحدة ومن أماكن بعيدة مثل اليابان للرد على الهجمات الإلكترونية ضد جزيرة “آيسبيرجين” الخيالية، الواقعة في مكان ما بين أيسلندا والنرويج، حيث شن قراصنة هجوما رقميا ضد الجزيرة الخيالية في محاولة لسرقة المعلومات الاستخباراتية والملكية الفكرية، وتعطيل الخدمات الحكومية، وإيقاف شبكة الكهرباء.

في التمرين، كانت القيادة والسيطرة الجوية بقيادة الولايات المتحدة، بينما قادت رومانيا تطوير القصة، وسيطرت المملكة المتحدة على الأرض، وكانت بولندا مسؤولة عن قوات العمليات الخاصة.

بسبب مخاوف أمنية واستخباراتية، كانت النتائج سرية، لكن التصريحات المقتضبة للصحفيين أوضحت أنه لم يفشل أحد في التمرين، دون إعطاء المزيد من التفاصيل حول نقاط الضعف التي عثروا عليها ضمن الشبكات الحساسة في دول الحلف وقدرتها على الصمود أمام الهجمات الإلكترونية.

صعوبة إبعاد المتسللين تزيد من أهمية التدرب على كيفية الرد بمجرد اختراق الشبكات، حيث يمكن أن تمتد هذه العمليات من زرع البرامج الضارة في التحديثات البرمجية إلى هجمات برامج الفدية الأكثر شيوعًا.

نتيجة لذلك، أدرج المسؤولون عن التدريب هذا العام سيناريوهات ودروسا من الهجمات الإلكترونية على البنية التحتية الأوكرانية، بما في ذلك شبكات الكهرباء.

إلى جانب ذلك، انصب التركيز في التدريب على كيفية مشاركة كل دولة للمعلومات، وكيف يمكنها مساعدة الطرف الآخر في حالة وقوع هجوم بدلا من التنافس، فيما يسمى عملية “الدروع المقفلة”، وهي تمرين واقعي يتفاعلون فيه ويساعدون البلدان الأخرى.

ختاما، بالرغم من أن الحرب السيبرانية لا تستخدم الأسلحة التقليدية، إلا أنها قد تسبب أضرارا كبيرة للأنظمة الحاسوبية والبنية التحتية الحيوية والاقتصادية والصناعية، وبالتالي تشكل تهديدا حقيقيا للأمن القومي والاستقرار الدولي. نتيجة لذلك، فإن تحسين القدرات السيبرانية والتعاون الدولي في هذا المجال يعد من الأولويات الأمنية لحلف “الناتو”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات