استمع إلى المقال

يؤثر التّقدم التكنولوجي الكبير الذي نشهده في الأعوام الأخيرة، على طريقة تفاعل الأشخاص مع الشركات والمؤسّسات. وذلك بسبب زيادة الإجراء والخدمات الرقمية على حساب المعاملات التقليدية، وهذا لسهولة الوصول إلى المزايا الحكومية ومتابعة الأوراق والإجراءات ووصولًا إلى الخدمات المصرفية.

بالنظر إلى هذه التّطورات، كان لا بدّ من تصميم آلية لإثبات هوية المستخدم لدى الجهة المستهدفة، وأصبح نمو فكرة الهوية الرقمية أمر لا مفرّ منه. ولتكون بمثابة مُعرّف للوصول إلى الخدمات والمزايا الحكومية، بالإضافة إلى العديد من الخدمات الأخرى عبر الإنترنت المتعلقة بالخدمات المصرفية ومكان العمل والتعليم والصّحة. وباتت ضرورة لإنشاء الحسابات وإجراء المعاملات والاشتراك في الخدمات. والآن هي تؤدي وظيفة حيوية جدّاً، وتُمكّن الناس من أداء عملهم اليومي وتوفير الوقت، مع الحفاظ في الوقت نفسه على أمنهم.

ما هي الهوية الرّقمية؟

الهوية الرقمية هي ثبوتيات تُستَخدم على الإنترنت، يتم تبنيها أو المطالبة بها في الفضاء الإلكتروني من قِبل فرد أو مؤسسة أو جهاز إلكتروني. وقد يتم إبراز أكثر من هوية رقمية واحدة من خلال المستخدم عبر منصات متعدّدة.

وتتكون الهوية الرقمية، مثل نظيرتها التقليدية، من خصائص أو بيانات، مثل ما يلي:

اسم المستخدم وكلمة السر، أنشطة البحث عبر الإنترنت، المعاملات الإلكترونية، تاريخ الولادة ورقم الضمان الاجتماعي، التاريخ الطبي.

ترتبط الهوية الرقمية بواحدة أو أكثر من المعرِّفات الرقمية، مثل عنوان البريد الإلكتروني أو عنوان URL أو اسم النطاق. ونظرًا لتفشي سرقة الهوية على الويب، تعد إجراءات المصادقة والتّحقق من الهوية الرقمية ضرورية لضمان أمن البنية التحتية للشبكة والويب في القطاعين العام والخاص.

تاريخ فكرة الهوية الرقمية

في أواخر التسعينيات، كانت هناك فرصة حقيقية لحل مشكلة تجارب التسجيل الضعيفة عبر الإنترنت من خلال عملية تسجيل دخول مبسّطة لمصادقة المستخدمين على مواقع الويب. قدّمت مايكروسوفت المفهوم الأول للهوية الموحّدة عبر الإنترنت ” Identity 1.0 ” مع منتج Passport “جواز سفر مايكروسوفت” الخاص بها. اتخذ جواز سفر مايكروسوفت الخطوة الأولى في جعل هوية المستخدم افتراضية من خلال تمكين المستهلكين من تسجيل الدخول إلى مواقع مختلفة باستخدام اسم مستخدم واحد وكلمة مرور واحدة.

كان هدف جواز سفر مايكروسوفت هو تزويد المستهلكين بهوية موثوقة عبر الإنترنت من شركة معروفة مثل مايكروسوفت، وتزويد الشركات بمزيد من المستخدمين المُسجَّلين من خلال تبسيط تجربة المُستخدم في تسجيل الدخول. لكن مع الأسف جواز سفر مايكروسوفت اختفى. وذلك بسبب عدم تقبل المستهلكين ولا الشركات استخدام جواز سفر مايكروسوفت، وتلاشى المنتج في نهاية الأمر.

وُلد الجيل الثاني من الهوية الرقمية “Identity 2.0” في عام 2010 عندما بدأت الشبكات الاجتماعية في السماح للمستخدمين بتسجيل الدخول إلى مواقع الويب باستخدام هوياتهم الاجتماعية الحقيقية. شَهِد تسجيل الدخول إلى فيسبوك على وجه الخصوص، اعتمادًا واسع النطاق حيث وصل المستخدمون عبر الإنترنت إلى مواقع الويب وتطبيقات الهاتف المحمول باستخدام بيانات اعتماد فيسبوك الخاصة بهم أكثر من 10 مليارات مرة في عام 2013 وحده. حتى اليوم تسمح أكثر من 35 شبكة اجتماعية عالمية باستخدام المصادقة الاجتماعية، مما يمنح المستهلكين خيار تسجيل الدخول إلى مواقع الويب وتطبيقات الأجهزة المحمولة من خلال الهوية التي يختارونها.

في عام 2014، تم إصدار الجيل التالي للهوية الرقمية “Identity 3.0″، وأصبحت الهويات الحقيقية للمستهلكين متداخلة بشكل متزايد مع حياتهم الافتراضية. بالإضافة إلى الهويات الاجتماعية، تشتمل Identity 3.0 على الجيل التالي من أساليب المصادقة، وزيادة الأمان، والبروتوكولات الجديدة، والتطبيقات المبتكرة للهوية.

قادت شركات مثل جوجل وآبل التّحول نحو القياسات الحيوية كشكل من أشكال مصادقة الهوية. حيث اشترى مطوّرو جوجل مؤخرًا براءة اختراع للعدسات اللاصقة التي تعمل بمسح قزحية العين، مما يشير إلى اتجاه جديد في التّحقق من الهوية. واستخدمت آبل مصادقة بصمات الأصابع بتقنية Touch ID في عام 2013.

قررت الكثير من الشركات خوض تجربة الهوية الرقمية، من خلال استخدام أجهزة مسح بصمات الأصابع والعدسات والتّعرف على الوجه سواءً في عمليات الشراء أو التّحقق من هوية المستخدم، وبهذا يكون قد قطع مفهوم الهوية خطوات كبيرة منذ الأيام الأولى لجواز سفر مايكروسوفت.

أهمية الهوية الرقمية

لا يخفى على أحد أن الهوية الرقمية احتلت مركز الصدارة في عالم التكنولوجيا، سواء بالنسبة للمستهلكين أو للأعمال. وفي الواقع يستخدم المزيد والمزيد من الأفراد الآن الهوية عبر الإنترنت للمهام اليومية، مثل الوصول إلى المزايا الحكومية والتعليم والحسابات المصرفية وحجز المواعيد الطبية. في بعض الحالات، يكون من المستحيل حتى الوصول إلى الخدمات أو أداء المهام بدونها.

يسلّط هذا التحول الضوء على حقيقة أنه لا ينبغي تجاهل الفوائد المحتملة للهوية الرقمية للمواطنين والحكومات والشركات، لأنها قد تؤدي إلى نمو واقتصاد أكثر شمولاً. لذلك من المهم تنفيذ أنظمة الهوية الرقمية لتحقيق المزيد من هذه الأهداف.

كشفت دراسة للبنك الدولي أن مليار شخص ليس لديهم أي إثبات للهوية، وأن 45 في المائة منهم من أفقر 20 في المائة من سكان العالم. إجراءات تحديد الهوية المرهقة والرسوم ونقص الوصول والافتقار البسيط للمعرفة بالهوية الشخصية هي العوائق الرئيسية التي تُبقي الأفراد خارج أنظمة تحديد الهوية التقليدية.

تضمن الهوية الرقمية الوصول العادل إلى الخدمات. بمعنى آخر إنه يتيح مجموعة من الخدمات الأساسية المتوفرة الآن عبر الإنترنت للجميع، سواء كانت مالية أو صحية أو تعليمية. وعلى الرغم من أن 1.7 مليار شخص لا يزال لا يملكون حسابًا مصرفيًا، إلا أن عددًا متزايدًا من الأشخاص يمتلكون الآن هواتف محمولة تسمح لهم بإنشاء هوية عبر الإنترنت. في الواقع تُعدُّ الهواتف الذكية حلّاً مقنعًا للحكومات لتوفير وصول آمن وبسيط إلى الخدمات عبر الإنترنت. مع وضع ذلك في الاعتبار، يتوقع تقرير Juniper Research أن تطبيقات الهوية المدنية التي يتم بها الاحتفاظ بالهويات الصادرة عن الحكومة، ستمثّل ما يقرب من 90% من تطبيقات الهوية الرقمية المثبتة عالميًا في عام 2025.

يمكن أن تساعد برامج الهوية الرقمية في ضمان المساواة في الوصول إلى الموارد الإدارية الأساسية. علاوة على ذلك، تُقدّر دراسة أجراها معهد ماكينزي العالمي أن حل مشكلة الهوية يمكن أن يضيف 3 إلى 13 في المائة إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلد بحلول عام 2030. وبسبب ذلك لا ينبغي إغفال الفوائد الاقتصادية.

ولكن يجب ألا ننسى أنه لكي تعمل أنظمة الهوية الرقمية بكفاءة، يجب وضع إرشادات لضمان أمن البيانات الشخصية والحفاظ على الخصوصية ودعم الحقوق المدنية. وبالتالي اعتماد معايير وممارسات مشتركة، فضلاً عن العمل المشترك على المستوى العالمي، سيكون مفيدًا لأنه سيساعد على تجنّب وقوع البيانات في الأيدي الخطأ عند نقلها من بلد إلى آخر. وسيجعل المواطنون في جميع أنحاء العالم أقرب إلى الوصول الشامل إلى بطاقة الهوية القانونية والفوائد المترتبة عليها.

ما هي المخاطر المرتبطة بالهوية الرقمية؟

أكبر خطر مرتبط بالهوية الرقمية هو سرقة الهوية وإساءة استخدامها. ينبع هذا من حقيقة أن إنشاء هوية رقمية يتضمن عادةً استخدام تفاصيل الهوية الحقيقية للشخص، فالأسباب الرئيسية للقلق عندما يتعلق الأمر بإنشاء هوية رقمية، هي هذه التفاصيل والمعلومات التي يمكن أن تقع في الأيدي الخطأ، فتشكل مخاطر في الخصوصية وتهديدات أمنية.

يختار الكثيرون إنشاء هويات مستعارة في محاولة منهم لإخفاء هوياتهم الحقيقية، على الرغم من أن هذه الخطوة قد توفّر مستوى إضافي من الحماية، ولكن بإمكاننا أيضًا استخدام تحليل البيانات عبر المواقع لعزل الهوية الحقيقية بشكل صحيح.

في العالم الواقعي وغير المتصل بالإنترنت، لا يتم إصدار بطاقات الهوية والأوراق إلا بعد عملية تحقّق صارمة وبذل جهود مضنية لضمان إمكانية إثبات ادعاءات الشخص المعني قبل منحهم أي هوية رسمية. في حين تم الاعتراف بالحاجة إلى مثل هذه العملية لإصدار الهويات الرقمية، إلا أنها غير مجدية عمليًا. حيث يعتقد معظمُ الناس أن استخدام تفاصيل الهوية في وضع عدم الاتصال لتعزيز الهوية الرقمية قد يضر أكثر مما ينفع لأنه يكشف المزيد من معلوماتنا الحقيقية.

إنشاء أنظمة الهوية الرقمية

على الرغم من أن الهوية الرقمية مطلوبة لمجموعة متنوعة من الأنشطة عبر الإنترنت، إلا أنه لا يوجد نهج بقياس واحد يناسب الجميع لتنفيذ أنظمة الهوية والوصول إليها. ومع ذلك فإن الحاجة إلى أنظمة قوية للتّحقق من الهوية أمر بالغ الأهمية، للسماح بتجربة آمنة وبسيطة، وتشجيع التبني السريع لحلول الهوية الرقمية.

اعتمد الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال لائحة eIDAS لتسهيل التعرف الإلكتروني والخدمات الرقمية وكذلك تبادل الوثائق الإدارية عبر المنطقة. وستكون هذه الهوية الرقمية الأوروبية متاحة لمواطني وشركات الاتحاد الأوروبي وستسمح لهم بالوصول إلى الخدمات العامة في أي دولة عضو. فضلا عن ذلك، سيستفيد المواطنون من المحافظ الرقمية الأوروبية، التي تُمكّنهم من التّعرف على أنفسهم رقميًا، ولكن أيضًا لإدارة وتخزين بيانات الهوية والوثائق الرسمية بتنسيق إلكتروني.

ومع انتقال المزيد من الأنشطة إلى الإنترنت، يجب أن تعمل المجالات السياسية والمؤسسية والاجتماعية على دمج الهوية الرقمية في أُطرِها. سيضمن هذا التطور الوصول المتكافئ إلى الخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والبنوك، بالإضافة إلى الإدماج الآمن للملايين في الاقتصاد الرقمي، مما يسمح له بالتسارع بمرور الوقت.

ورغم تطور المشهد، لا يزال يتعين القيام بالمزيد من العمل لفهم الفرص والتحديات التي تجلبها الهوية الرقمية، ولكي يتخذ أصحاب المصلحة الإجراءات وفقًا لذلك. عندها فقط يمكننا كبح مشكلة الهوية، لضمان الوصول العادل والمتساوي إلى الخدمات الأساسية.

الهوية الرقمية في الشرق الأوسط

إحدى التجارب الناجحة في تطبيق استخدام الهوية الرقمية في منطقة الشرق الأوسط كانت في عام 2021، وكجزء من مبادرة دبي اللاورقية، حينها تم إصدار نظام الهوية الرقمية بمبادرة مشتركة بين هيئة تنظيم الاتصالات والحكومة الرقمية (TDRA)، وهيئة أبوظبي الرقمية، وهيئة دبي الرقمية، والتي تهدف إلى التّخلص من المعاملات الورقية، والاعتماد بشكل كلي على المصادر الرقمية مع الحفاظ على مستوى عالٍ من الأمان. وتوفّر الهوية الرقمية إمكانية الوصول إلى العديد من الخدمات التي تقدمها حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة دون الحاجة إلى الحضور شخصياً إلى مراكز مزودي الخدمة المستهدفة.

وتوفر خدمة الهوية الرقمية في الإمارات العربية المتحدة بمجموعة من المزايا الخاصة للمواطن أو المقيم، أبرز: تسجيل للدخول إلى كافة المواقع الحكومية وخدماتها من الهاتف المحمول، امتلاك هوية رقمية آمنة

توقيع المستندات والمصادقة عليها رقمياً، تخزين ومشاركة المستندات الرقمية، وخدمات مُخصّصة أخرى.

رأي المحرر:

إن فكرة الهوية الرقمية ورقمنة الحكومة بكل دوائرها وفروعها وتحويل كل المعاملات إلى الرقمية هي فكرة معقّدة بعض الشيء، لكن هذا لا ينبغي أن يثنينا عن استكشاف إمكاناتها لتحويل مستقبلنا الرقمي إلى الأفضل.

ويجب على الحكومات والشركات على حدٍّ سواء تدرك أن الاقتصاد الوطنية والعالمية يجب أن يستفيد ويستخدم الإنترنت كوسيلة للابتكار والنمو الاقتصادي. من المكونات الحاسمة التي تُركت لمقدمي الخدمة لتأسيسها وإدارتها هي الهويات الرقمية للعملاء عبر الإنترنت.

أدى الافتقار إلى التنظيم وأساليب الإدارة الفعالة إلى مخاوف أكبر بشأن الخصوصية والأمان والإنتاجية في بيئات الإنترنت، مما أعاق تطوير واستخدام الإمكانات الكاملة للإنترنت. فعلينا تمكين دور نظام إدارة الهوية الرقمية في دعم إنشاء اقتصاد رقمي أقوى. ولإحداث ثورة في النماذج الاقتصادية الحالية وتحويلها إلى الأفضل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات