الشركات في المنطقة العربية تتبنى العمل عن بعد.. لكن على حساب موظفيها

الشركات في المنطقة العربية تتبنى العمل عن بعد.. لكن على حساب موظفيها
استمع إلى المقال

أفاد تقريرٌٍ أجرته شركة “آوتسايزد” (Outsized) العالمية للاستشارات والأبحاث السوقية أن الشركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتحرك بشكلٍ تدريجي نحو تبني نظام العمل عن بعد والاستعانة بمستشارين وموظفين مستقلين خارجيين بهدف “الاستفادة من المواهب على المستوى الدولي، وخفض التكاليف، وتقليل الوجود في المكاتب”، بحسب التقرير.

وقال فيكرام مالهوترا، مدير مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “آوتسايزد”، إن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستستفيد بشكلٍ كبير من نمو اقتصاد المواهب العالمي. وأن أفضل مجموعات المهارات المطلوبة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعام 2022 هي التحول الرقمي، والمدفوعات، وإدارة البيانات والتحليلات وإدارة المشاريع والبرامج.

ووفقًا لدراسةٍ حديثة أجرتها شركة “دييل” (Deel) الناشئة لدراسة المرتّبات والتوظيف عن بُعد، أصبحت الإمارات العربية المتحدة مركزًا إقليميًا للتوظيف عن بُعد في المنطقة، سواءً من ناحية الشركات العالمية التي توظف أناسًا مقيمين في دولة الإمارات أو شركاتٍ إماراتية توظف عن بعد عاملين من دول المنطقة.

هل مستعدين؟

تدّعي هذه التقارير أن موجة التوظيف عن بعد هذه تهدف إلى تخفيف شركات المنطقة نفقاتها والوصول إلى مواهب دولية وخيارات توظيفية أوسع إضافةً إلى التخلي شيئًا فشيئًا عن الحضور المكتبي، أو تقليصه على أقل تقدير. لكن التخلي عن العمل المكتبي والانتقال إلى النظام الهجين ليس قرارًا يُتّخذ بين ليلةٍ وضحاها، إذا يجب أن تسبقه تحضيراتٌ من نشر ثقافة العمل عن بعد في النظام الداخلي للشركة، بالإضافة إلى توفير الحلول السحابية اللازمة لاستمرار سير العمل والتنسيق بين أعضاء الفرق.

وفي البند الأخير، يبرز عجزٌ مقلق لدى هذه الشركات التي تتجه إلى تبنّي نهج العمل الهجين أو عن بعد تُظهره تقارير عديدة. إذ كشف تقريرٌ صادرٌ عن شركة “فريش ووركس” (Freshworks) بالتعاون مع “سنيوس وايد” (Censuswide) عن فجوة مذهلة بين توقعات الموظفين وواقع التكنولوجيا في مكان العمل في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا؛ ما يجعل المؤسسات تواجه أزمة محتملة بسبب التكنولوجيا غير الكافية التي تضر بصحة الموظفين وإنتاجيتهم والقدرة على الاحتفاظ بمواهبهم.

وعلى الرغم من أن الشركات الإقليمية ضاعفت من إجراءات “التحول الرقمي” في أعقاب الوباء، إلا أنه، وبحسب التقرير،  فإن 47% من الموظفين أبلغوا عن إخفاقات واسعة النطاق لتكنولوجيا مكان العمل التي يستخدمونها كل يوم. وتضمنت أهم الشكاوى سرعات بطيئة، وأوقات استجابة طويلة من فرق تقنية المعلومات، ونقص التعاون بين الإدارات، ونقص الأتمتة؛ ما زاد من مستويات الإجهاد لديهم وانعكس سلبًا على صحتهم النفسية.

دوافع وراء قناع

تُظهر التقارير والإحصائيات المذكورة أعلاه قصورًا ملحوظًا في جاهزية تلك الشركات التي تعتزم التحول إلى نظام العمل عن بعد من الناحية التقنية، الأمر الذي يجعل سببًا آخر من الأسباب المذكورة للانتقال؛ وهو خفض النفقات، يعلو ويبرز فوق غيره.

ليس هناك شكٌّ حول إمكانية العمل عن خفض نفقات الشركة، أو حتى شرعية ذلك. إذ تفيد مئات التقارير بذلك وتدرس تأثيره بتفصيل. ولعلّ أبرز هذه التقارير تقريرٌ صدر خلال العام الماضي عن “المنصة العالمية للاستشارة الصناعية” يفيد بأن العمل عن بعد يخفض حجم نفقات الشركات الأوروبية بنسبةٍ تتراوح بين 28% و 36% من حجم نفقاتها الكلي حسب مجال عملها. تلك النفقات هي النفقات التشغيلية بالطبع، من تكاليف المباني والمواقع التي تعمل منها الشركة إلى تكاليف نقل الموظفين وغيرها.

لكن الصورة أكثر قتامةً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ففي حين أن تلجأ الشركات العالمية إلى الإبقاء على موظفيها يعملون من منازلهم، أو توظيف عاملين من نفس البلد (أو حتى القارة) عند تبني نهج العمل عن بعد، فإن عدداً كبيرًا من الشركات العربية التي تنتهج أسلوب العمل عن بعد تلجأ بشكلٍ مخصص إلى البحث عن موظفين جدد في البلدان ذات الأجور المنخفضة، مثل سوريا ومصرـ لتوفير نفقاتها أيضًا، لكن المتعلقة بالمرتبات والحوافز.

ففي هذه البلدان، ونظرًا لانهيار اقتصداتها وضعف عملاتها المحلية أمام الدولار، تبرز حاجةٌ لدى المقيمين فيها إلى الحصول على أيّ وظيفة ولو لم تكن تلبي حاجات المتقدم إليها أو تتماشى مع مهاراته. كما أن غياب القوانين والتشريعات وحدود الأجور بالغة التدني يسهّل من عمليات التوظيف هذه لدى الموظف نفسه أو الشركة الموظِّفة.

مثالٌ على ذلك شركة “لبلب”، ومقرها أبوظبي، التي تقدم خدمات البحث السحابي على الويب لمستخدمي الإنترنت باللغة العربية. فبحسب إ. ع.، أحد الموظفين السابقين في الشركة الذي غادرها مطلع هذا العام، فإن 80% تقريبًا من الفريق يتمركز في سوريا (حيث تبلغ قيمة الدولار حوالي 5000 ليرة سورية)، رغم أن الشركة تدّعي على موقعها الإلكتروني أن فريقها “منتشر في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.

ويضيف المصدر أن متوسط الأجور في الشركة لمطوّري “الباك إند” (Backend Developers) ومطوّري “الفرونت إند” (Front End) يبلغ 400 دولار أمريكي شهريًا فقط. في حين يبلغ متوسط الأجور للوظائف نفسها في الإمارات العربية المتحدة، حيث يقع مقر الشركة، حوالي 2500 دولار أمريكي بحسب موقع “إنديد” (Indeed) الشهير للتوظيف، بينما يتراوح أجر المطورين المتقدمين (Seniors) بين 600 و 700 دولار أمريكي شهريًا. 

كما تفيد مصادر خاصة بـ “إكسڤار” أن موقع “أراجيك” الذي يقدّم محتوى عربيًا عبر الإنترنت في مجالات التكنولوجيا والفن والعلوم وغيرهم، ومقره لندن، يدفع مبلغ خمسة دولارات أميركية فقط لقاء المادة الواحدة (وستة دولارات لمواد “القوائم” التي يتجاوز عدد كلماتها الـ 2000 كلمة) لكتّابه الذين يتمركز السواد الأعظم منهم في سوريا ومصر كذلك. وهذا ما يؤثر سلبًا ليس على جودة حياة هؤلاء الموظفين فحسب، بل على جودة المحتوى العربي على الإنترنت ويفسّر رداءته مقارنةً بالمحتوى الأجنبي، إذ أن الكاتب أو الصحفي لن يضع ما يكفي من الجهد والوقت في مادةٍ تحليلية أو استقصائية لقاء ثمن وجبة طعام.

وبالحديث عن المحتوى العربي على الإنترنت، يسرد فتحي العترماني (الذي لم يرغب بالإفصاح عن اسمه الحقيقي) تفاصيل ذات صلة خاضها في شركة “مجرة”، ومقرها أبوظبي، التي تصدر عنها نسخًا مترجمة للعربية من أشهر المواقع العالمية في مجالات التقنية والإدارة والعلوم. يقول العترماني إن معظم الفريق كذلك يتوزع بين سوريا ومصر والجزائر، ويقتصر التواجد الإماراتي على الإدارة وحفنة من الموظفين القدامى. 

يقول العترماني، الذي كان يشغل منصب محررًا أول ومدير مشاريع في الشركة إن متوسط راتب الكاتب في الشركة يبلغ 150 دولارًا أمريكياً فقط، بينما يبلغ متوسط الأجور لوظيفةٍ مماثلةٍ في الإمارات 2750 دولار أمريكي بحسب موقع “سالاري إكسبلورر” (Salary Explorer). بينما تتراوح رواتب أعضاء الفريق التقني من مطورين ومصممي واجهة المستخدم وتجربة المستخدم (UI/UX) بين 300 و 500 دولار أمريكي شهريًا فقط. كما يروي لنا قصةً حدثت معه عندما كان فريقه بحاجة موظف مسؤول عن شبكات التواصل الاجتماعي لموقعين من شبكة مواقع الشركة. 

إذ كان الراتب المتوقع لتلك الوظيفة يتراوح بين 125 و 175 دولارًا أمريكي فقط، علمًا أنه 2500 دولار أمريكي في دبي بحسب “غلاسدور” (Glassdoor). وبغض النظر عن الأجر، طُلب منه أن يكتب في عرض التوظيف أن طبيعة العمل عن بعد حصرًا، لكن الشركة تقبل المتقدمين من مختلف أنحاء العالم، بينما أخبره أحد المدراء المسؤولين خلال مكالمةٍ جرت بينهما أن يركز بحثه في الطلبات الآتية من سوريا ومصر فقط، وألا تخرج قائمة المرشحين النهائية عن هذين البلدين. وعند مقابلة مرشحةً كانت تقيم في سوريا وتحقق كافة المتطلبات، تم الاعتذار منها لاحقًا عندما علمت الإدارة أنها ستسافر إلى تركيا بعد مدة؛ ما سيعني زيادةً على مرتّبها.

نقمة على العاملين المحليين

مع استمرار انهيار العملات المحلية في تلك البلاد، واستمرار عمليات الاستغلال هذه، أصبحت بعض الشركات تلجأ خصيصًا للبحث عن موظفين عن بعد داخل تلك البلاد لتدفع أجورًا متدنية، ومع تزايد المؤسسات التي تدفع هذه الأرقام، تنخفض قيم العروض تدريجيًا. إذ يخبرنا أحد المسؤولين عن إحدى شبكات التوظيف الكبرى في سوريا أن شركة “نيوهورايزن” التركية للمنح الدراسية لجأت خصيصًا إلى الداخل السوري للبحث عن موظف مبيعات براتبٍ لا يتعدى الـ 80 دولار أمريكي شهريًا. 

ولا تقتصر عواقب هذه الأفعال على شركات المنطقة. فرغم انتشار السلوك بينها، إلا أن الأمر وصل إلى بعض الشركات التقنية المسجلة في أوروبا التي تعود ملكيتها إلى أشخاصٍ من المنطقة لتتخذ نهجًا أكثر قساوة. حيث لجأ عددٌ منها إلى افتتاح مكاتب لها في المنطقة لتضمن شرعية دفعها رواتب منخفضة رغم تسيير أعمالها في أوروبا.

مثالٌ على ذلك شركتي “تيسافولد” (TessaFold) و”ترادينوس” (Tradinos) ومقراتهما برلين – ألمانيا، وشركة “ستوريكس ويب” (StorexWeb) ومقرها بولونيا – إيطاليا، وشركة “ميديكوس إيه آي” (Medicus AI) ومقرها فيينا – النمسا. جميعها أسماءٌ تشترك في خصالٍ خمس: هي شركاتٌ تقدم الحلول التقنية والسحابية، مؤسسيها سوريي الجنسية يقيمون في أوروبا، لها مكاتب في مدينة دمشق، ولا توظف إلا السوريين المقيمين في الداخل، ورواتب مطوّري الويب والأندرويد فيها لا تتجاوز الـ 500 دولار أمريكي.

وعليه، نعم، إن المنطقة العربية تشهد ارتفاعًا في أعداد العاملين عن بعد والشركات التي تتبنى ذلك النهج، إلا أن الحقيقة لا تبشّر بتحولٍ رقمي مزهر وانفتاحٍ في سوق العمل كما تصفه بعض التقارير. فالعجز في البنية الرقمية التحتية في الشركات، والبنية الأخلاقية لدى أصحاب الأعمال، يقفان في وجه أي نهضةٍ حقيقية تستحق أن يُكتب عنها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى إكسڤار واشترك بنشرتنا البريدية.